من أحضر الحكايات للعالم؟

من dgmt

 

"الحكاية رسالة من الأمس، تُروى اليوم. من أجل الغد".

                                                         - أمادو أمباتي -

 

 بين النساء والرجال

يناقش هذا المقال ما تحمله حكايتان أفريقيّتان من تفاصيل وأحداث تعكس أوجه الاختلاف بين تعامل النساء والرجال مع الحياة العمليّة، الحكاية الأولى بطلتها امرأة «مازنندابا»، والثانية بطلها رجل العنكبوت «حارس الحكايات»، وذلك آلاف السنوات قبل صدور كتاب «الرجال من المرّيخ والنساء من الزهرة»، الّذي يتحدّث فيه المؤلّف جون جراي - وهو طبيب نفسيّ - عن طبيعة الاختلافات بين الرجال والنساء، ويتناول المشاكل الّتي قد تحدث بينهم نتيجة هذه الاختلافات.

الحكاية/ الخرافة الشعبيّة واحدة من أنماط التراث غير المادّيّ، القادرة على نقل نمط التفكير الجمعيّ من جيل إلى جيل، وهي تعكس - إضافةً إلى القيم - الأفكار السياسيّة الاجتماعيّة الاقتصاديّة السائدة في المجتمع في فترة حكاية القصّة...

مهمّ أن أذكر أنّني أؤمن – بشدّة - بهذا الاختلاف (مع كلّ تحفّظي من التبسيط الّذي مارسه الكاتب ليوصِل فكرته إلى العامّة، شأنه شأن مدرّبي التنمية البشريّة الّتي غزت العالم منذ 30 عامًا، ووصلتنا منذ بضع سنوات)، وهذا لا يضعني في خانة المعارضة للنسويّة، بالعكس، فأنا أرى أنّ ما يميّز النساء لا يقلّ قيمة عمّا يميّز الرجال، وأرفض أن أتنازل عن أيٍّ من هذه الصفات، الّتي تميّز تعاملي أنا المرأة مع الحياة، وأهمّها العفويّة والعاطفيّة والحدس والاندفاعيّة. ومن هنا تأتي كتاباتي - حتّى الأكاديميّة منها - متبَّلة بتجربتي الحياتيّة امرأةً احترفت، منذ أكثر من 20 عامًا، مهنة وفنًّا كان حكرًا للرجال عبر العصور، وذلك كثير قبل أن يُقْبَل الأمر في الأوساط الفنّيّة، خاصّة في بلادنا.

 

ما الحكاية الشعبيّة؟

إنّ الحكاية/ الخرافة الشعبيّة واحدة من أنماط التراث غير المادّيّ، القادرة على نقل نمط التفكير الجمعيّ من جيل إلى جيل، وهي تعكس - إضافةً إلى القيم - الأفكار السياسيّة الاجتماعيّة الاقتصاديّة السائدة في المجتمع في فترة حكاية القصّة، وهي من الأنماط القادرة على التجدّد مع كلّ حكواتيّ يحكيها، وهي نوع أدبيّ له مزاياه الخاصّة، وأهمّها أنّها تنتقل شفهيًّا، ولا مؤلّف معروفًا لها، ولها بداية ونهاية مُقَوْلَبَتان، إضافة إلى مواصفات أخرى لا مجال لذكرها في هذا المقال.

كثرت الدراسات وتنوّعت منذ بداية القرن العشرين حول الحكاية الشعبيّة، وعولِجت من خلال المنظور الإنثربولوجي، والاجتماعيّ، والأدبيّ البنيويّ، والتفكيكيّ، والنفسيّ، وكان أشهرها كتاب الباحث الروسيّ فلاديمير بروب «مورفولوجيا الحكاية الشعبيّة» (1928).

 

 

وأتى لاحقًا تصنيف الباحث آنتي آرني للحكايات تبعًا للمضامين، الّذي وسّعه عام 1955 الباحث الأمريكيّ سميث تومسون، وعُرِفَ في ما بعد بتصنيف «آرن – تومسون»، الّذي اعتمد المحتوى لا الشكل في تحديد الأنماط الأساسيّة، الّتي يندرج تحتها القصص الشعبيّ، الّذي يُرْوى في جميع أنحاء العالم، وكتابات فريدريش فون ديرلاين، الّذي ترك كتابًا في مجلّدين بعنوان «عالم الحكاية الخرافيّة» (1953 - 1954)، وكتاب «اللغة المنسيّة» لأريك فروم 1955، وكتاب برونو باتلهيام «التحليل النفسيّ للحكايات الشعبيّة» الّذي صدر في السبعينات.

 

حكاية «مازنندابا»

سمعت هذه الحكاية ضمن ما سمعته من عشرات الحكايات الّتي سردها لي ولإخوتي أبي رحمه الله، وما كان يميّز هذه الحكاية أغنية باللغة السواحليّة، كان أبي يردّدها على لسان بطلة الحكاية.

بقيت الحكاية حبيسة الذاكرة والقلب حتّى عام 1995، حين عملت موجّهة مجموعات نسويّة، فاستحضرتها بلا تردّد، وتفاجأت بأنّي ما زلت أعرف كلّ تفاصيلها، وخاصّة الأغنية السواحليّة المرافقة لها، واستعملتها هي وحكاية «حارس الحكايات» في ورشات القراءة النقديّة للنصوص، للمقارنة بين تعامل النساء والرجال تجاه الحدث ذاته، وكان العمل مع مجموعات التوعية النسويّة الجندريّة.

قبل 12 عامًا سألني أحد الأطفال، وبعد أن أخبرتهم بأنّي سمعت الحكايات من والدي: "من أين أتت الحكايات لقلب والدك؟". فما كان منّي إلّا أن سردت له ولباقي الأطفال حكاية «مازنندابا»، ومنذ ذلك اليوم أسردها بالعربيّة والإنجليزيّة للكبار والصغار، وأسرد كيفيّة وصولها من ساحل العاج إلى حيفا وإلى قلب أبي.

قبل 12 عامًا سألني أحد الأطفال، وبعد أن أخبرتهم بأنّي سمعت الحكايات من والدي: "من أين أتت الحكايات لقلب والدك؟". فما كان منّي إلّا أن سردت له ولباقي الأطفال حكاية «مازنندابا»...

عام 2010 شاركت في مؤتمر ومهرجان عن فنّ الحكي في «جامعة Unisa» في مدينةPretoria  في جنوب أفريقيا، وسردت حكاية «مازنندابا» في أمسية. تفاجأ الجميع بمعرفتي بها وبكيفيّة وصولها إليّ، وأخبروني بأنّها من الحكايات المميّزة للفنّانة Gcina Mhlophe، وهي باحثة وشاعرة وقاصّة وفنّانة حكواتيّة من جنوب أفريقيا. اشتريت قرصًا مدمجًا لحكاياتها، وسمعت حكاية «مازنندابا» بصيغتها، وفرحت بأنّ الحكاية الّتي سردها لي أبي تتشابه في أغلب تفاصيلها مع هذه الصيغة، لكن للأسف لم أجد أيّ نصّ مكتوب وموثّق للحكاية. أمّا مختصر حكاية «مازنندابا»:

محفّز مازنندابا للبحث عن الحكايات ملل أطفالها.

مازنندابا تلجأ إلى صديقاتها من حيوانات الغابة، وتطلب منها المساعدة في معرفة مكان الحكايات.

تتّبع نصيحة النسر، وتغوص في أعماق المحيط لإحضار الحكايات من مملكة الأشباح.

تطلب مساعدة شريك حياتها زنزلي الفنّان، لينقل تفاصيل الحياة، كمنحوتة لملك مملكة الأشباح وملكتها، مقابلًا لمنحها إمكانيّة الوصول إلى الحكايات.

تحصل على صَدَفة سحريّة، في كلّ مرّة تضعها على أذنها تسمع حكاية جديدة.

 

«حارس الحكايات»

أملك هذا الكتاب منذ عام 1986، رافق طفولة أولادي، وكان من كتبهم المفضّلة، وقد قرأته لهم عشرات المرّات، وعندما احترفت العمل موجّهة مجموعات، بدأت بسرده وعمل المقارنة بينه وحكاية «مازنندابا»؛ لأنّ الحكايتين تطرحان موضوعًا مهمًّا، هو: كيف وصلت الحكايات إلى العالم؟ ولاحقًا كنت أسرد الحكاية في عروضي المختلفة للأطفال.

 

 

«أنانسي» هو رجل العنكبوت وبطل الكثير من الحكايات الشعبيّة الأفريقيّة، ومنها حكاية «حارس الحكايات»، وهذا تلخيص موجز للحكاية، كما وردت في الكتاب:

يقرّر أنانسي فجأة أن يُحْضِر الحكايات لجميع أطفال الأرض.

ينسج أنانسي سلّمًا ليصل إلى سابع سماء، حيث يسكن «حارس الحكايات».

يطلب منه «حارس الحكايات» تنفيذ ثلاث مهامّ شبه مستحيلة مقابل الحكايات.

 ينفّذ كلّ المهامّ وحده باستخدام ذكائه.

يحصل على صندوق الحكايات، وعند وصوله إلى الأرض يفتحه؛ فتنتشر الحكايات في أنحاء الأرض.

 

«الحكواتيّة» امرأة

«أنانسي» موجود – وبقوّة - في عشرات الحكايات الشعبيّة الأفريقيّة، أمّا «مازنندابا» فمغيَّبة على الأغلب بلا قصد، لكن غيابها دليل على تغييب العنصر النسويّ من الموروث الشعبيّ، إلّا إذا كانت البطلة أميرة أو غولة أو ساحرة شرّيرة.

لمست الأمر خلال بحثي عن اسم «أنانسي» في محرّك البحث «جوجل»، صادفتني مئات الصفحات والأبحاث حول شخصيّة «أنانسي»، وتبيّن لي أنّ ثمّة عشرات القصص عنه وعن بطولاته، وهو أحد أهمّ الشخصيّات في الأدب الشعبيّ الأفريقيّ، ولا يخلو أيٌّ من كتب الحكايات الأفريقيّة من حكاية من بطولته. وعلى الأغلب أنّ شخصيّة «سبايدر مان» الهوليوديّة نسخة طبق الأصل عن «أنانسي»، رجل العنكبوت.

«أنانسي» موجود – وبقوّة - في عشرات الحكايات الشعبيّة الأفريقيّة، أمّا «مازنندابا» فمغيَّبة على الأغلب بلا قصد، لكن غيابها دليل على تغييب العنصر النسويّ من الموروث الشعبيّ...

أمّا «مازنندابا» فلم أجد أثرًا لها في الكتب والمقالات الّتي راجعتها، والّتي تعاملت مع الأدب الشعبيّ الأفريقيّ بحثًا وتجميعًا، والأمر مثير جدًّا للاهتمام؛ لأنّها بطلة حكاية تخبرنا كيف أتت الحكايات إلى الأرض.

بناءً على أبحاث محلّيّة، مثل كتاب «قول يا طير»، وأخرى أفريقيّة، وبناء على حدسي وتجربتي في عالم فنّ الحكي والحكايات، فالحكواتيّون الأوائل على الأرض هنّ النساء.

 

ما بين «الحكواتيّة» و«الحكواتيّ»

- العفويّة والاندفاع واتّباع الحدس من صفات النساء، الشعور بالواجب والسعي إلى البطولة من صفات الرجال.

قرار «مازنندابا» البحث عن الحكايات قرار دنيويّ عفويّ وعاديّ، ونابع من أنّها أمّ تريد تسلية أطفالها، أمّا «أنانسي» فهو يريد أن يُحْضِر الحكايات إلى أطفال الأرض؛ لذا فدافعه استثنائيّ وبطوليّ.

- العمل الجماعيّ والتعاون والسعي إلى المعرفة من صفات النساء، العمل الفرديّ والثقة بمعرفة مسبقة في كلّ الأمور من صفات الرجال.

 

 

«مازنندابا» لا تعرف مكان الحكايات، وتستشير صديقاتها سكّان الغابة لتعرف مكانها، ولاحقًا تطلب المعونة من النسر ليدلّها على مكان الحكايات، وتستعين بصديقه الدولفين ليوصلها إلى أعماق المحيط. «أنانسي» يعرف مسبقًا أنّ الحكايات موجودة عند «حارس الحكايات» في السماء السابعة، ويسخّر مهارته في نسخ الخيوط لينسج سلّمًا يتسلّقه ليصل إلى «حارس الحكايات».

«مازنندابا» تطلب المساعدة من زوجها الفنّان لتحقّق طلب ملك الأشباح بإحضار صورة عن الحياة على اليابسة مقابل إعطائها الحكايات. «أنانسي» يعتمد على ذكائه ولا يطلب المعونة من أحد، ويستطيع أن ينفّذ المهامّ شبه المستحيلة الّتي طلبها منه «حارس الحكايات».

- النساء مشغولات بالتقصّي حول مشاعرهنّ وأعماقهنّ، والمحيط يرمز إلى الأعماق، أمّا الرجال فهمّهم التنافس في الوصول إلى القمّة، والسماء ترمز إلى القمّة.

«مازنندابا» تنزل إلى أعماق المحيط لإحضار الحكايات، أمّا «أنانسي» فيغزل سلّمه ويصعد إلى السماء لمواجهة «حارس الحكايات».

النساء مشغولات بالتقصّي حول مشاعرهنّ وأعماقهنّ، والمحيط يرمز إلى الأعماق، أمّا الرجال فهمّهم التنافس في الوصول إلى القمّة، والسماء ترمز إلى القمّة.

«مازنندابا» تحصل من ملك الأشباح على صَدَفة سحريّة، تضعها على أذنها فتبوح لها كلّ مرّة بحكاية، وتصبح بذلك أوّل حكواتيّة تنقل الحكايات إلى جميع أهل الأرض، الّذين سكنوا آنذاك في قريتها والقرى المجاورة المحيطة، والصدفة ترمز إلى أعماق النفس. أمّا «أنانسي» فيحضر صندوق الحكايات من «حارس الحكايات»، وينثرها في أنحاء العالم فيسمعها الأطفال.

وحكايتي حكيتها، وبقلوبكوا خبّيتها، ويا ريت تحبّوها مثل ما أنا حبّيتها.

..........

مراجع:

- أريك فروم، اللغة المنسيّة، ترجمة صلاح حاتم (اللاذقيّة، سوريا: دار الحوار للنشر، 1990).

- ألبير مطلق (إعداد)، حارس الحكايات، ط1 (بيروت: سلسلة الليدي بيرد أنا أقرأ، مكتبة لبنان ناشرون، 1981).

- برونو بتلهايم، التحليل النفسيّ للحكايات الشعبيّة، ترجمة طلال حرب (دار المروج، 1985

- جون غراي، الرجال من المرّيخ والنساء من الزهرة (مكتبة جرير، 1992).

- الخرافة والحكايات الشعبيّة في أفريقيا، ترجمة عبد الرحمن الخميسي عن الروسيّة، الجزء الأوّل (القاهرة، المركز القوميّ للترجمة، 2010).

- دنيس أسعد (أداء)، حكاية «مازنندابا»، youtube ،20/03/2020، شوهد في 02/01/2020، في: https://bit.ly/39l5Llw

- فلاديمير بروب، مورفولوجيا الحكاية الشعبيّة، ترجمة وتقديم أبو بكر باقادر، محمّد عبد الرحيم نصر، ط1 (السعوديّة: النادي الأدبيّ الثقافيّ بجدّة، 1989).

- يعقوب المحروقي، «دراسة الحكاية الشعبيّة الأفريقيّة»، الثقافة الشعبيّة، عدد 17، شوهد في 02/01/2020، في: https://bit.ly/3sc23mT

 

 

دينيس أسعد

 

 

 

باحثة في أدب الأطفال والحكاية الشعبيّة، وحكواتيّة مدرّبة على فنّ الحكي.