التّحرّر من النّكبة... الاستعداد للعودة

مخطّط العودة إلى قرية كفر برعم - حنّا فرح

'معنى النّكبة' هو أوّل كتاب عن نكبة فلسطين، ألّفه المؤرّخ والمفكّر العربيّ السّوريّ، قسطنطين زريق، في صيف 1948. كان الكتاب سبّاقًا إلى توثيق النّكبة، وكان صاحب الأسبقيّة في منح اسم النّكبة لذلك الحدث التّاريخيّ في فلسطين، والّذي أصبح هو الاسم الرّسميّ المتداول حتّى اليوم وفي كلّ اللّغات.

كتابة المعنى

من أجل إغلاق ملفّ النّكبة والانطلاق قدمًا، لا بدّ، بعد حوالي سبعين عامًا، من أن نستوفي 'قراءة' معنى النّكبة، وأن نبدأ 'كتابة' معنى العودة. وإذا كان كتاب زريق طلائعيًّا، وتميّز بأنّه وثّق فصولًا من النّكبة ساعة حصولها وخلال سريان أحداثها، وكأنّه يأتي بتقرير في بثّ مباشر من أرض الحدث، فإنّ الشّروع الآن في خطّ سطور 'معنى العودة' قبل حصولها، من شأنه أن يجعله كتابًا استقرائيًّا للمستقبل، لا بل من شأنه أن يشكّل مبادرة لتخطيط المستقبل الفلسطينيّ مشتملًا على تصوّرات ورؤًى وخطط للعودة.

والمقصود هو العودة الفعليّة وكيفيّة تطبيقها وإسقاطاتها على أرض الواقع، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وبيئيًّا ومعماريًّا، وغير ذلك من نواحي الحياة. كما يمكن لهذه المبادرة أن تبلور فكرًا تحريريًّا، يحرّرنا من قيود الماضي المهزوم، ومن مستنقع الحاضر المأزوم، ويخرجنا من نفسيّة المقهور الّذي ذوّت قهره ولا يرى قدراته وآفاقه.

إذا كانت العودة، فعلًا، هدفًا سياسيًّا ووطنيًّا نسعى لتطبيقه، فيجب توجيه البوصلة إلى هناك، والبدء بطرح استراتيجيّات عمل وبرامج سياسيّة ونضاليّة من أجل استعجال واستدعاء وتطبيق العودة، وليس فقط انتظارها وتمنّيها.

غياب البرنامج

إنّ تطبيق العودة الفلسطينيّة يبدو في أيّامنا، نظرًا للأوضاع السّياسيّة وموازين القوى السّائدة، أمرًا خياليًّا غير قابل للتّحقيق؛ وأمام هذه الاستحالة ظلّت العودة، برنامج عمل، غائبة عن السّاحة النّضاليّة لمصلحة مبدأ التّمسّك بالثّوابت والصّمود وعدم التّفريط، وانشغال اللّاجئين في مواقع لجوئهم، ورغمًا عنهم، بقضايا المسكن والمأكل والصّحّة والتّعليم، وما إلى ذلك من الحاجات الحياتيّة الأساسيّة؛ فكان الثّمن أن ظلّت العودة إلى فلسطين حلمًا بعيد المنال، ساكنًا في سلّة الأحلام الفلسطينيّة، في اليقظة وفي المنام.

ومع مرور الوقت وتكرار المآسي على شعبنا، ومن ضمنهم اللّاجئين، غاصت العودة في غياهب العجز وأُسقطت في مصيدة الواقعيّة والبراغماتيّة، فكان من 'الطّبيعيّ' أن تتّسم بالوجدانيّة والشّاعريّة والحنين والأمنيات، بدلًا من النّهوض إلى مستوى العمل. وظلّت رابضة على منصّة الحقوق بدلًا من النّزول إلى مسيرة التّحقيق. وأكبر دليل على هذه المفارقة، مطالبة اللّاجئين الفلسطينيّين الّذين اضطّروا إلى النّزوح عن مخيّماتهم في سوريا ولبنان، مثلًا، بسبب الحروب، مثل نهر البارد واليرموك، بالعودة إلى المخيّم لا إلى فلسطين. وعندما اضطّروا للهرب بعيدًا عن ويلات الحرب في سوريا، مخاطرين بحياتهم وحياة أطفالهم، فقد جرّبوا كلّ الدّروب تقريبًا إلّا درب العودة إلى الجليل، أو الإبحار إلى حيفا. وأولئك الّذين طُردوا من الكويت في أعقاب حرب الخليج عادوا إلى الأردنّ، وكذلك الفلسطينيّون الّذين تركوا ليبيا في أزماتها، فقد بحثوا عن مكان ولم يبحثوا فلسطين. ليست فقط محاولة العودة الفعليّة هي الّتي غابت، بل إنّ استغلال هذه الأحداث سياسيًّا وجماهيريًّا وإعلاميًّا من أجل تحريك موضوع العودة الفلسطينيّة، لم يحدث!

أسئلة العودة

حتّى تصبح العودة قريبة، فهي بحاجة إلى عائدين وعائدات لا إلى لاجئين ولاجئات، ومن أجل تغيير ذلك، علينا نزع عقليّة اللّاجئ وتنمية عقليّة العائد، والنّزوح عن عقليّة المنكوب/ ة وتذويت عقليّة القادر/ ة. لأنّ العودة تدعونا إلى التّحرّر من النّكبة، وتطالب بتحويلها من خطاب حماسيّ إلى مشروع سياسيّ، نقول فيه لأنفسنا أوّلًا، وللعالم – ومن ضمنه الإسرائيليّون - ثانيًا، كيف نرى عودتنا، كيف سنقوم بتطبيقها، كيف سيبدو الحيّز بعد العودة، وما مصير المستعمِر بعد عودتنا. هذا الفكر يجب أن يستند على قناعة تامّة بأنّ العودة ليست حقًّا وعدلًا فحسب، إنّما هي أيضًا ممكنة وقابلة للتّطبيق، وهي ملحّة ولا يمكنها الانتظار أكثر من ذلك.

إنّ تخيّل العودة وتصوّر حدوثها والتّحضير لها، ستقودنا بالضّرورة إلى التّعامل مع برامج وخطط واقتراحات حول عملانيّتها وكيفيّة تنفيذها، ما يستدعينا إلى مواجهة أسئلة سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وجندريّة وقِيميّة، لم نناقشها على الصّعيد العام بعد، في سياق العودة. منها أسئلة حول رؤيتنا لنظام الحكم المنشود بعد العودة، وتأثير التّغييرات الدّيموغرافيّة الّتي أحدثها المستعمر في فلسطين منذ بداية الاستعمار على العودة، ومصير المدن الإسرائيليّة الّتي أُنْشِئَتْ على أنقاض بلداتنا وعلى أراضيها. هل يمكن أن نتحمّل إمكانيّات وأشكال مختلفة للعودة؟ وهل سنحتاج إلى بناء مدن جديدة بدلًا عن القرى؟ وهل يمكن دمج عدّة قرى في مدينة واحدة؟ وما مصير 'مجتمع المخيّم' الّذي خاض هويّة وتركيبة وحياة مشتركة على مدى سبعين عامًا؟ وكيف ستوزّع الأراضي بين العائلات العائدة؟ وهل سنبقي على الفجوات الطّبقيّة؟ وما مصير العائلات العائدة الّتي لم يملك جدّها أراضي كافية قبل التّهجير؟ وهل أخذنا بعين الاعتبار أنّ كلّ تجمّع سكّانيّ فلسطينيّ قد تضاعف عدد أفراده منذ النّكبة حوالي عشرة أضعاف؟ ومن سيموّل تكاليف العودة؟ على من تقع مسؤوليّة تخطيط العودة ورسمها وتنفيذها؟ وكيف سَيُجَهّز الفلسطينيّون العائدون وكذلك الفلسطينيّون المقيمون، نفسيًّا واجتماعيًّا، للحياة الجديدة؟ وكلّنا يذكر الإشكاليّات والصّراعات الّتي نبعت بعد 'عودة' عائدي اتّفاقيّة أوسلو.

هناك الكثير الكثير من الأسئلة والنّقاط الّتي يجدر نقاشها منذ اليوم، من أجل بناء مستقبل شعب تكون عودة لاجئيه في مركزه، لأنّ من يؤمن بالعودة يجب أن يتحمّل المسؤوليّة تجاه تطبيقها، فعليه العمل من أجل تسريعها، وكذلك، وليس أقلّ منه، أن يجعل عودتنا مدروسة ومحسوبة، لا عفويّة ولا فوضويّة ولا دمويّة.

تُنشر هذه المقالة ضمن ملفّ مِفْتاح، الّذي أعدّته مجلّة فُسْحَة لمناسبة الذّكرى الـ 68 لنكبة الشّعب الفلسطينيّ عام 1948، ويشارك فيه عددٌ من الكتّاب والمختصّين الفلسطينيّين.