الحرّيّة الممنوعة في رام الله

كاريكاتير محمّد سباعنة

من المفيد جدًّا أن يدور نقاش مجتمعيّ حول أيّ قضيّة مهما كانت شائكة، مع ضرورة استثمار المساحة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعيّ، إذ يصبح النقاش أوسع. ومن المفيد، أيضًا، أن يدور نقاش بين مثقّفي المجتمع، سواءً أولئك الذين يميلون إلى الانحياز للسلطة/ ات، أو المنحازون للدفاع عن قيم الحرّيّة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. الأمر الوحيد المرفوض في أيّ نقاش مجتمعيّ، هو حظر الأفكار والمسّ بحرّيّة الفكر والتعبير، وممارسة الرقابة على الأعمال الإبداعيّة والإصدارات المكتوبة وغير المكتوبة.

ليس جديدًا

ممارسات الملاحقة والحظر والتضييق ليست جديدة فلسطينيًّا؛ فمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، كما قرأت، مارست الرقابة على الكاتب الصحافيّ إلياس خوري، وهدّدته، لأنّه كتب مقالًا استنكر فيه بعض أعمال وقرارات المنظّمة وقادتها، علمًا أنّ خوري، في ذلك الوقت، كان يعمل في مجلّة 'شؤون فلسطينيّة'، وهي مجلّة تصدر عن مركز الأبحاث التابع للمنظّمة، وكانت ترتكز في بداياتها على خطاب نقديّ ذاتيّ للماضي ولبعض الزعماء السياسيّين. كما أنّ كتب إدوارد سعيد حُظِرَت في الأراضي المحتلّة عام 1967 بعد توقيع اتّفاقيّة أوسلو، وذلك لموقف سعيد من الأخيرة. بالإضافة إلى كتاب 'قول يا طير'، لمؤلّفيه إبراهيم مهوّي وشريف كناعنة، والذي تضمّن حكايات من التراث الشعبيّ الفلسطينيّ، وقد صدر في حقّه قرار بإتلاف نسخ منه.

وقبل عدّة أيّام، فوجئ الشارع الفلسطينيّ بقرار النائب العام الفلسطينيّ، المستشار أحمد براك، القاضي بمنع تداول رواية 'جريمة في رام الله' للروائيّ الفلسطينيّ عبّاد يحيى، ومصادرتها من أماكن البيع بالمكتبات في أنحاء فلسطين كافّة.

رفض الحرّيّات... رفض التحرّر

ممّا لا شكّ فيه، أنّ المجتمعات كلّها لا تخلو من تقييد حرّية الفكر والتعبير، فأكثر المجتمعات حرّيّة، كالولايات المتّحدة الأميركيّة ودول أوروبّا الغربيّة، تمارس رقابة على مواطنيها عند تطرّقهم إلى قضايا مثل انتقاد الصهيونيّة، بادّعاء 'معاداة الساميّة'. وقد تحقّقت نسبيّة حرّيّة الفكر والتعبير في تلك المجتمعات عبر نضال مجتمعيّ وسياسيّ استمرّ لسنوات طويلة، بلغ حدّ الاشتباك بين الطبقات الاجتماعيّة، وهذا ما يستدعي أن تستكمل المجتمعات العربيّة نضالها من أجل الحرّيّات.

إنّ السياق الفلسطينيّ المعقّد يبقي حرّيّة الفكر والإبداع والنشر فعلًا ناقصًا في ظلّ هيمنة احتلاليّة واستعماريّة، إلّا أنّنا نشهد جيلًا لا أعتقد أنّه سيقبل إلغاء حقّه في التفكير والتعبير، وأن يقيّد ذلك الحقّ بإرادته، تماشيًا مع مقولة مفادها أنّ نضالنا كشعب يوجب علينا طمس أو تأجيل طرح قضايا تاريخيّة أو مجتمعيّة شائكة. إنّ رفض حرّيّة الفكر والتعبير فعل مؤسّس لرفض التحرّر، وهو أمر غير مجد ولا يؤسّس، بتاتًا، للقضاء على نظام عنصريّ.

لقد بتنا، اليوم، في حالة فلسطينيّة قُوِّضَ فيها النضال من أجل الحرّيّة وتقرير المصير، ليُستبدل بـ 'حرّيّة فلسطينيّة ممنوعة' بأيدينا!

لتجنّب منع جديد

لقد خاض المثقّفون والمبدعون الفلسطينيّون نضالًا طويلًا للوصول إلى الحالة الراهنة من نسبيّة في حرّيّة التعبير، يستدعي الاستمرار في المحافظة على هذه الحالة والمطالبة بزيادة مساحة الحرّيّة حتّى لا تغدو رواية 'جريمة في رام الله' سابقة تؤسّس لحالات جديدة من المنع.

لكن ما يقلق، إلى جانب حظر الأفكار والإصدارات، معارضة بعض المدافعين عن حقوق الإنسان والحرّيّات لنشر هذه الرواية، وتجاوبهم مع شريحة في المجتمع تسعى إلى فرض رقابة على حرّيّة النشر، هي، بالأساس، غير مقيّدة؛ وهذا للأسف خيار يتّخذه أولئك دون علمهم أنّ دورهم يفرض عليهم الإصلاح، لا سيّما أنّ حظر ومنع نشر رواية أو كتاب لا يؤدّي إلى صناعة فكر، بل يؤدّي إلى صناعة تطرّف وتعصّب.

 بلا مؤشّر

وممّا يقلق، أيضًا، ما نشرته المنظّمة العالميّة للملكيّة الفكريّة WIPO في تقريرها حول مؤشّر الابتكار والإبداع العالميّ للعام 2016، والذي يخضع عند قياسه لـ 82 مؤشّرًا فرعيًّا، حول أنّ فلسطين (أراضي 67) غير مدرجة في المؤشّر. ويعزو تقرير الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ هذا الأمر إلى عدّة أسباب، منها عدم وجود نظام متكامل يحمي الإبداع والابتكار، وقلّة الوعي بأهمّيّة الإبداع في فلسطين، وضعف الاهتمام الحكوميّ، وأسباب أخرى.

يفرض علينا كلّ ذلك احترام أيّ عمل أدبيّ وأكاديميّ وفنّيّ يساهم في تعزيز التعدّديّة الفكريّة واحترام الآخر، كما يفرض على المجتمع مواجهة الجمود والتطرّف الفكريّ عند مناقشة قضايا المجتمع وسلوكاته ومشاكله. بطبيعة الحال، ليس من واجب المبدعين أن يرضوا أحدًا، وفي الوقت نفسه، من واجب المثقّفين والنقّاد أن يطرحوا أسئلة حول العمل الإبداعيّ وأن ينقدوه، وفق منهجيّة وأسس. كما يُفترض أن يقوم النقاش المجتمعيّ على أساس نضاليّ مستمرّ من أجل حرّيّة الفكر والتعبير.   

 

إيهاب محارمة

 

باحث فلسطينيّ يقيم في الدوحة. حاصل على الماجستير الأوّل في الدراسات الدوليّة من جامعة بيرزيت، ويدرس حاليًّا لنيل الماجستير الثاني في السياسات العامّة والتعاون الدوليّ في معهد الدوحة للدراسات العليا. شارك في مؤتمرات وملتقيات وورشات عمل في دول عربيّة وأوروبيّة عديدة، في مجالات متعدّدة، أبرزها الحوكمة، وسياسات تعزيز الحوار، وسياسات الاندماج والهجرة، وسياسات محاربة التغيّر المناخيّ، ودبلوماسيّة الاتّحاد الأوروبيّ، وسياسات ما بعد الكولونياليّة، ودون ذلك.