"كما ولدتني اللّدّيّة" لأسماء عزايزة: صور الإله الفلسطينيّ

تنحو أسماء عزايزة في كتابها الجديد "كما ولدتني اللدّيّة" الصّادر عن الأهلية للنشر والتّوزيع 2015، منحى جديرًا ومغايرًا، دون أن تبرح مبدأها الذي نزلت به خطوتها الأولى في ماء الشّعر، حين وضعت مجموعتها الأولى: "ليوا"، إذ تتخفف الشّاعرة الفلسطينيّة من الخوض في الكتابة النّسويّة بمفهمومها الأصيل كما أرادته فيرجينيا وولف، تتخفف من الخوض في قضايا المرأة لكي تزر وزرًا أكبر، في خوضها غمار هم إنسانيّ بكليّته.

في الكتاب الجديد تجسّد عزايزة صورة الفلسطينيّ التّاريخيّة من الجهة العليا، الجهة الأكثر قداسة، والأعمق تاريخًا، مستخدمةً الأسطورة المحمولة على لسان المعبد الكنعانيّ، مسوّغةً إياها بمقتطفات من الكتاب المقدّس، ونصوص دينيّة.

فمن خلال مقدمة ممهورة بتوقيع: "بعل الكنعانيّ 2015"، تستحضر الشّاعرة رمزَ الحياة الفلسطينيّة، إله الحقل والقمح، والإله الذي بإغماءته الطّويلة ظهر تاريخ اللطم والنّواح الفلسطينيّ، وبعودته إلى الحياة انتهى، ليقوم قومةَ المسيح متفقدًا أحوال البلاد.


الخضر وصوره الزّمنيّة

لا يتوّقف ذكاؤها على اختيار "بعل" كونه إلهًا مناسبًا دائمًا للبدايات الجديدة، بل لأنه أيضًا واحدٌ من الآلهة طالما أثنينه الإلهات الفلسطينيّات أمثال "عشتروت" و"عناة" عن قتلهِ إله البحر "يم"، ذلك يعني أن "بعل" يمثّل امتثال الرّجل الفلسطينيّ للمرأة إذ تصيبُ وجه الحقيقة والحق، ومن جهة أخرى هو الدّليل الدّينيّ الأسطوريّ على مكانة المرأة الفلسطينيّة ونفوذها، ما منح الشّاعرة الحق -من بعد ذلك- في صوغ صور مصغرة عن "بعل" الذي هو أصلًا بحسب الأسطورة، صورة مصغرة لإله الآلهة الفلسطينيّ "إيل" الذي شاخ واستخلفه، فتأتي به مرةً على هيئة "مارجرجس" القديس بحسب الرّواية المسيحيّة، والذي هزم التّنين وأنقذ أندروميدا ابنة ملك يافا وصار رمزًا مقدّسًا للمدينة وشفيعًا، ومرة على هيئة الخضر الذي أرشد موسى وعلّمه بحسب الرّواية الإسلاميّة، وتستمّد هذه التّخليقات بعدًا أعمق حين تأتي بها الشّاعرة بعد أن تفلح في خلق انسجام حقيقيّ ومقنع بين نصوص العهد القديم والمعبد الكنعانيّ، فكأنها تتفق مع الخيالات الدّينيّة القائلة بأن "الخضر" لا يموت، كأنها تريد أن تُفهِم العباد بأن الخضر هو إيل، مرورًا بصورهِ الزمنيّة كلّها: بعل، إلياهو، ومار جرجس بصورتيه الحضاريّة والدّينيّة.


ضلالٌ جميلٌ

في الوقت الذي تنهي فيه الشّاعرة هذا البناء المغري في ذهن القارئ، تشرع في هدمه من خلال بيانات يصدّرها بعل في زيارته، رافضًا نسبه إلى أيّ من هؤلاء الرموز، ولا يعبأ إن كان هذا الأمر ينزع عنه ألوهيته حتى، إلا أنه يبقى متمسكًا بـ"كتف اللدّيّة" الذي حمله طفلاً، و"قلب اللدّيّة" الذي فكّر به نطفةً، و"رحم اللدّيّة" الذي حمله جنينًا.

وحيث يقول التّاريخ بأن "مار جرجس" هو وليد امرأةٍ من اللّد القابعة قرب السّاحل الفلسطينيّ، والتي تُقِلّ على متنها مطار الّلد الذي يسميه الاحتلال "بن غوريون"، وهي المدينة التي سيثقف على بابها نبي الله المسيحُ ابن مريمَ الأعورَ الدّجّال ويرديه بحسب الإسلام، فإن الشّاعرة تبدو مصرّة هنا على تضليلنا هذا الضّلال الجميل، لتضعنا وجهًا لوجهٍ مع التّاريخ الذي تحامل في مجمله على الحجر والدّم الكنعانيّ، من خلال تناقضاته التي منحت للكل حقًا في دمنا وهوائنا كفلسطينيّين، وجعلتنا مكلّفين دائمًا بدفع الضّرائب للحكومة لقاء هدم منازلنا:

"أنا الّذي شاهدت الطّريقَ

وهو يسدّها جيرُ عظام ضلوعٍ تحرسُ

قلوبًا في آوشفيتس

وجرفُ دموعٍ ذُرِفَتْ عليها حين لم تُحْرَسْ

وعباءةٌ بحجم مدينةٍ لجنرالٍ انتحر كي يخلّده تمثالٌ من حجرْ

قبل قليل، شقّوا طريق 6

كانت ماكناتٌ تجرف الجير وزَرْعَ فلّاحٍ من البطّوف

تحفر الأنفاق ومعها مجلسَ بدويٍّ في حيّ سَركيسْ

تُعَبِّدُ الشّارع من حصى بيتٍ هُدِمَ في وادي عارة[1]

وأنا أدفع أجرتها

وأرضى بذلك

إن كانت طريق 6

ستكون طريق عودتهم من ميناء عتسيونْ"

غلاف ديوان "كما ولدتني اللدّيّة" لأسماء عزايزة

الشّاعرة تضع حليّها في النّص

نصٌ كهذا، مكتوب بهذا الهاجس الفخم، واللّغة القاسيّة كأعمدة أثريّة لا يهزها ريح، كان سيبدو ثقيلًا وبلا ساقين، لو أن عزايزة لم تفلح في وضع حليّها في عنقه وزنديّه، وكان ذلك من خلال منعطفات خلابة خاضتها عن طريق تضمين النّص أغنيات من الموروث الشّعبيّ، تمكّنت من البناء عليها بصورة حضاريّة كما كان وما زال يفعل الفلسطينيّون في بلادهم ومنافيهم.

كما أن هناك اقتناصات فادحة الجّمال صوبت إليها السهمَ فوقعت لها امتثالاً، ففي "قلب اللدّيّة" تذهب الشّاعرة إلى استحضار القدس، التي هي قلب فلسطين، مستجيرة بمدلولات النّص الدّينيّ:

"((ليس مَن يقودني من جميع البنين الّذين ولدتهم))

وَلَدْتُ في منامي سقاةً

درّبوا مخيّلتهم فصارت مدينةً

كتبوا أسطورةً فمشى أبطالها بدمهم ولحمهم

 في شوارعها

(....)

لا أذكر إن كنتُ عدمًا ظهرتُ في منامهم

أم كانوا عدمًا قبل أن ألدهم في منامي

وأسمعهم يتمتمون في خَدَرِ صدورهم

وهم يرفعون أقداحي عاليًا إلى السّماء:

((انهضي

قومي يا أورشليمَ التي شربت من يد الرّبِّ

كأس غضبه))

وفي كلّ مرّةٍ كان يزداد نومي سقوطًا

وحلمي وضوحًا"

لقد جاءت بالقدس على هيئة المتروكة، الهيئة التي تقف عليها القدس الآن بين المدن، وقد تخلى عنها بني أمة الفلسطينيّين العربيّة.
 

لماذا عاد بعل؟

في جولة بعل في فلسطين 2015، كان لا بدّ من وقوعه بين معاول الصّدمة، وهذا الوقوع يعني بالضرورة تصحيحًا، فكلما خُذِلَ بعلُ، ازدادت فعائل الاحتلال وأكاذيبه وضوحًا:

"يقع بصري على لافتة ((بيت إيل))[2]. أسير لأتفقّد معبد أبي إيل؛ الإله الأعلى، وعند بابه أجد:

((مكتب ارتباط)) – تصاريح دخولٍ إلى إسرائيل"

أي خيبة أكبر من أن يصبح بيت الأب، وبيت الإله أيضًا، مكتب تصاريح يمنحها الاحتلال لفلّاح يريد أن يزور أرضه!

لقد عاد بعل ليقول بأن حيفا سقطت:

"كنتَ أضابير السّماء

التي وصلت إلى يَهوه عن طريق الخطأ

وحين دقت الحربُ

أحرقها في سيناء

وسقطت حيفا"

عاد بعل ليقول أن الوضع قاسٍ كبكاء العجوز على حاجز قلنديا:

"كنتَ منديل المجدليّةِ

الّذي مسح دموع العالمْ

تلك التي ذُرِفَتْ من ألفي عامْ

ثمّ عصرها في مقلة عجوزٍ

عند حاجز قلنديا"

عاد بعل ليقول بأننا دائمًا ننقذ العالم، ويكافئنا بتوابيت جديدة لسكان غزّة:

"كنتَ السّرير الّذي أحيا ابن الأرملة

ومن خشبه دقّ نجّارو الرّبّ المختارونَ

توابيت الشَّجاعِيِّة"

 

عاد ليصرخَ في وجه ذريته التي خارج الحدود كلّها، ويقول لهم بأن اللّد تحترق، ويجدهم مشغولين كلّ في شأن، عاد ليختبئ في رحم اللدّيّة:

"أمي

يا لدّيّة من نورٍ وطينْ

وأنتِ تطفئين النّار بكفّيك الطّريّتينِ

خذيني إلى رحمكْ"

عاد بعلُ إذن ليقول بأن الفلسطينيّين وحدهم من يستطيعون إخماد النّار التي هبّت في بلادهم، وليس عليهم انتظار مدد من أحد.

 

*كتف اللدّيّة/قلب اللدّيّة/رحم اللدّيّة: عناوين فصول الكتاب الثلاث.

 

[1] البطّوف وحي سركيس ووادي عارة: أسماء مناطق فلسطينيّة

[2] مستوطنةٌ إسرائيليّةٌ شمال شرق رام الله