القدس: صور الثّقافة الرّافضة

سلسلة القراءة حول أسوار القدس (2014)

مع احتلال الشّقّ الشّرقيّ للقدس عام 67 وسيطرة الاستعمار الصّهيونيّ على مرافق الحياة، شرعت 'إسرائيل' بتقويض العمل السّياسيّ في القدس، هشّمت أرضيّته بحيث لا يمكن البناء عليه من جديد،  وذلك باستخدام القوّة والقمع. أغلقت سلطات الاحتلال وهدمت المئات من المؤسّسات والنّوادي والجمعيّات الفاعلة في القدس، منها مؤسّسات تختصّ بشؤون الأسرى، وأخرى نسويّة وخيريّة، بالإضافة إلى لجان العمل والنّقابات. زادت حدّة إغلاق المؤسّسات إبّان الانتفاضة الثّانية، في محاولة لإخضاع سبل وأشكال المقاومة، وكَيّ وعي المقدسيّ وتدميره نفسيًّا. اعتمد الاستعمار سياسات الطّرد والاعتقال والإبعاد عن المدينة، الأمر الّذي ساهم في تفكيك البنية المجتمعيّة للمقدسيّين، كما اعتقل العشرات من قيادات الفصائل وكوادرهم، وأغلق جميع مرافىء العمل السّياسيّ والمجتمعيّ والثّقافيّ، استنادًا إلى قانون الطّوارىء البريطانيّ عام  1945.

رغم كلّ شيء

يتّسم المشهد الفلسطينيّ في القدس هذه الأيّام، بوجود مجتمعٍ مقدسيٍّ يواجه وحده سلطات استعمارٍ جبارةٍ بلا قيادةٍ أو توجيهٍ، وبلا مشروعٍ سياسيٍّ. حالةٌ عبثيّةٌ تقاوم بما يتاح لها، وتواجه المستعمر وتنتصر عليه أحيانًا. فقدان مشروعٍ سياسيٍّ فلسطينيٍّ تحرّريٍّ، وفقدان قيادةٍ مركزيّةٍ في القدس منذ زمنٍ، أتاح المجال لنشوء هوامشَ نضاليّةٍ شعبيّةٍ جديدةٍ، تلتزم مبدأ القطع وتنطلق من أرضيّةٍ رافضةٍ للمشروع الصّهيونيّ ولمشاريع التّسوية، أو رافضةٍ لسياسات الضّبط النّاعم الّتي تتّخذها بلديّة الاحتلال في القدس.

القدس نموذجٌ لشعبٍ يقبع تحت الظّلم وقيادته تخلّت عنه، لكن ما يميّز هذا المجتمع، انطلاقه كلّ مرّةٍ نحو رفض الظّلم والمضيّ قدمًا لتحقيق العدالة والعيش بكرامةٍ، وانتزاع الحرّيّة. إن تحدّثنا عن التّفاؤل والرّغبة في تحقيق الأمل والتّوق إلى الحرّيّة، والحلم بقدسٍ خاليةٍ من الاستيطان والتّهويد، فإنّنا سنرى ذلك في المبادرات والمساهمات الوطنيّة الشّعبيّة، فكلّما زاد التّضييق والخناق والقمع، طفت على السّطح أصواتٌ حرّةٌ تقاوم.

نازلين ع القدس

من بين هذه المبادرات لمعت فكرة 'نازلين ع القدس' عام 2013، وهي مبادرةٌ شبابيّةٌ فوق حزبيّةٍ أو مؤسّساتيّةٍ، تضمّنت برامجَ ثقافيّةً وفنّيّةً أقيمت على درجات باب العمود، وفي المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي. كان الحصار الثّقافيّ الّذي تفرضه 'إسرائيل' قد وصل ذروته بمنعها العديد من الفعاليّات والأنشطة بموجب قوانين الطّوارئ.

من جهةٍ أخرى، تزايدت الأنشطة المموّلة المشروطة، الّتي تحمل قيمًا هدّامةً، بعيدةً عن ثقافة التّطوّع والعونة الفلسطينيّة. أخذت هذه المشاريع  قالبًا تطوعيًّا مهزوزًا يبتعد عن الانتماء ويترفّع عن الحالة الشّعبيّة، ويجعل للتّطوّع مقابلًا، وهذا إشكالٌ خطير.

التزمت مبادرة 'نازلين ع القدس' بإرساء قيم التّطوّع والعونة في الشّارع المقدسيّ من جديد، تعهّدوا على عدم تنظيم صفٍّ أماميٍّ للشّخصيّات الرّسميّة، وأصرّوا على أن تكون الأمسية هي بدعمٍ من الشّعب الفلسطينيّ، بالإضافة إلى الرّسالة السّياسيّة الّتي يتضمّنها البرنامج. رفض الحصار والقطع مع المال السّياسيّ ونتائجه الوخيمة، قاد مجموعة شبابٍ إلى استنهاض المجتمع المقدسيّ وإعادة إنتاج مفهوم التّطوّع، وربطه بالهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة الجامعة، والوصول إلى اكتفاءٍ ذاتيٍّ بلا دعمٍ ذي أجندات. شملت الأمسية فقراتٍ شارك بها فلسطينيّون من مختلف أماكن الوجود الفلسطينيّ، بالغناء والمسرح والفنّ.

سلسلة القراءة حول أسوار القدس

'سلسلة القراءة حول أسوار القدس' (2014)، مبادرةٌ لها حصّةٌ كبيرةٌ في تحصين القدس شعبيًّا، وحماية هويّتها وثقافتها، ورفض المشاريع 'الإسرائيليّة' ومشاريع التّمويل المشروط، وقد نظّمتها مجموعةٌ من شباب القدس بهدف تعزيز وجود المقدسيّ في المدينة، وذلك بعد الحملات الصّهيونيّة المتزايدة لاقتحام الأقصى وحصار الثّقافة وإغلاق النّوافذ والفُسُحات في وجه المقدسيّين.

رأى البعض أنّ سياسات التّجهيل الممنهجة، والّتي تهدف إلى إفراغ القدس من أهلها وتحوير الإنسان، أمرٌ في غاية الخطورة، فكان المبتغى تعزيز القراءة ونشر ثقافة المطالعة والتّبرّع بالكتب لافتتاح المكتبات. لا شيء في القدس يمكن فصله عن سياق الاستعمار والتّهويد والاستيطان، فالحفاظ على الوجود وعلى المكان، على لغته ومركّبات حضارته العربيّة والإسلاميّة، أمرٌ بالغ الأهمّيّة لدى المقدسيّين.

سلسلة القراءة حول أساور القدس (2014)

المقدسيّون في مواجهة 'إليكسا'

قبل ثلاثة أعوام، تجهّز المقدسيّون في كافّة مناطقهم وحاراتهم وأحيائهم، لموجات بردٍ وثلوجٍ كبيرةٍ. كانت العاصفة 'إليكسا' قطبيّة المنشأ تقترب من بلاد الشّام، لكنّ المقدسيّين لم يسلّموا أرواحهم وبيوتهم لرحمة الطّوارئ وفرق الإنقاذ 'الإسرائيليّة'، إذ أنّ بلديّة الاحتلال أساسًا، لا تقدّم خدماتٍ للمقدسيّين.

شُكِّلَتْ لجان أحياءٍ باشتراك عشرات المتطوّعين من أبناء القدس، لجان حمايةٍ وطوارئ مجهّزةٍ لاقتحام الثّلج وفتح الطّرقات ومساعدة النّاس ونقلهم إلى المشافي في حالات الخطر. استمرّت الثّلوج تنهمر وتتراكم مدّة أسبوعٍ ونصف، وسط عجز بلديّة القدس المحتلّة عن مساعدة آلاف المنازل 'الإسرائيليّة' في القدس. يُذكر أنّ الكهرباء حينها انفصلت عن أكثر من 15 ألف منزلٍ 'إسرائيليّ'، وتعطّلت حركة السّير والمدارس والجامعات. في نهاية المطاف، أشادت بلديّة القدس وفرق طوارئها باللّجان الشّعبية المقدسيّة على عملها الرّائع، إذ حضرت طواقمها في كلّ حيٍّ من أحياء المدينة، وقد فاق عملها، في ظلّ شُحّ مواردها، عمل فرق ولجان الطّوارىء 'الإسرائيليّة'.

إن دلّ هذا على شيء، فهو يدلّ على قوّة ورغبة الإنسان الفلسطينيّ المقدسيّ بالحياة، وعلى تذويته لقيم التّطوّع والعونة لشعبه ومجتمعه، كما يدلّ هذا النّموذج على عناد المقدسيّين وإصرارهم على انتزاع الحياة من بين أسنان المستعمر.

'مش طالع'... خيمة العناد

أكثر الأمثلة واقعيّة خيمة 'مش طالع'، والّتي نُظّمت فور إعلان المناضيلن، سامر أبو عيشة وحجازي أبو صبيح، عن نيّتهم رفض القرار العسكريّ الجائر الصّادر بحقّهم، والقاضي بإبعادهما عن القدس مدّة ستّة شهور، والاعتصام في مقرّ بعثة الصّليب الأحمر في حيّ الشّيخ جرّاح.

خيمة العناد (2015)

سرعان ما توافد الشّباب والأهل حيث نُصبت خيمة الاعتصام أو خيمة العناد، وقد شكّلت بجمهورها وبرامجها واستقبالها للمئات من المتضامنين وأصحاب القضيّة، حاضنةً شعبيّةً تعزّز ثقافة الرّفض والمقاومة.

دفعت الخيمة النّاس إلى الخروج من بيوتهم في برد شهر شباط (فبراير) القارس، والمشاركة في برامجها الّتي استمرّت أنشطتها لأكثر من ثلاثة أسابيع، حتّى بعد اعتقال الشّباب من قلب الخيمة.

نظّمت الخيمة عددًا كبيرًا من النّدوات والأمسيات الثّقافيّة والفنّيّة، والفعاليّات التّوعويّة الهادفة إلى التّنبيه ورفع الوعي تجاه ما يُحاك من سياساتٍ استعماريّةٍ تجاه الفلسطينيّين بعامّة، والمقدسيّين بخاصّة.

اليوم يقبع كلٌّ من أبو عيشة وأبو صبيح في سجون الاحتلال، يدفعون ثمن موقفهم المشرّف، بأن لن نقبل الإبعاد عن القدس، اسجنونا لكن لن نخرج منها.

إنّ المعركة على الثّقافة والوجود والمكان، حفاظًا عليها وتعزيزًا للصّمود، تتضمّن أيضًا معركةً على الرّفض والقطع مع النّظام الاستعماريّ الفاشيّ، حتّى وإن كلّف الأمر غاليًا.