مأساة السيد مطر: في رحم البحر ماتت المدينة لتولد من جديد

بحر مائع | برونو باولو بينيديتّي

'كلّ شيء يذهب سوف يعود. الأشياء تتساقط وتجد من يجمعها في النهاية. تطلّ الشمس من الشرق، تغيب ثمّ تعود. الليل يتبع النهار والنهار يعود. الزمن كرة، أينما تضع إصبعك تكون نقطة الارتكاز. إذًا، أنا سوف أعود. ربّما هذا إيمان ساذج بنظاميّة الكون. ربّما هو إغفال عين عن النقيض. عن تناثر الأجزاء في فوضويّة الكون، لكنّني سوف أعود'. (الجانب الآخر لأرض الميعاد. أحمد حرب، 1990).

بهذا التعدّد في الأزمان، وبثبات المكان، ترسم رواية 'مأساة السيّد مطر' (مجد كيّال، 2016) ملامحها. تتّخذ الرواية من مدينة حيفا مسرحًا لها، وتُسْتَحْضَر الأزمان فيها بتداخل وتشابك عجيب، تتشابه فيهما الشخصيّات وتتكرّر الأحداث وسط زخم من الرموز والشخصيّات والوقائع الميثولوجيّة والأدبيّة. 

في 'مأساة السيّد مطر'، يسعى الكاتب إلى توظيف نمط معيّن في أسلوب القصّ يتمثّل بتكرار الجمل والأحداث في فصول الرواية المختلفة، بالإضافة إلى تعدّد رمزيّة الشيء الواحد على نحو عبقريّ قد يربك القارئ ويدفعه ليُقَلِّبَ الصفحات ببلبلة مثيرة، ليعرف من قال هذه الجملة سابقًا، ومتى تكرّر هذا الحدث، راسمًا مسارًا متوازيًا بين الشخصيّات والأحداث. لكنّ الكاتب لا يكتفي بهذا الأسلوب، بل يزيده تعقيدًا عبر قلب الحقائق وعكس المفاهيم، ليخلق معان جديدة، أو ليفكّك صورًا نمطيّة معيّنة.

البحر: الولادة والموت

'في البدء كانت رغبة الإنسان في السباحة ومن ثمّ كان البحر'. هكذا يستهلّ الكاتب الرواية، بتعريفنا بالمصدر، بأصل الحقيقة من عالم البحر العميق، حيث يكمن اللاوعي، حيث تسكن الذاكرة المنسيّة، الروايات المدفونة. بهذه العلاقة الفلسفيّة بين السبب والمسبّب، بين الطبيعة (البحر) والحاجة الغريزيّة التي تَنْتُج عنها، بطبيعة الحال (الرغبة في السباحة)، يشكّل الكاتب رؤيته، في محاولة لقلب الحقائق والثورة على الطبيعة وعدم إطاعتها.

اغتصاب المدينة والمرأة

 يكشف لنا كيّال عن مجزرة الطنطورة التي ارتكبها الصهاينة عام 1948، بصورة تتشابه فيها مع رقيّة، الأمّ التي اغتصبها يحيى على الرغم من مقاومتها له. يوازي كيّال بشاعة المجزرة ونهب الأرض بذكوريّة الرجل وسيطرته على جسد المرأة؛ تتجلّى هذه الذكوريّة في شخصيّة الضابط الإسرائيليّ، دادو، وكذلك زوج رقيّة، أمين، وحبيب ديمة الثاني، علاء الدين.

في مكان ما في الرواية، يصف الكاتب دادو قائلًا: 'كان دادو يعرف الآخرين معرفة عميقة ويتّسع صدره لآلآمهم وحاجتهم الإنسانيّة، وكان دادو رجلًا شهمًا'. وفي ذِكْرٍ ثانٍ لدادو، قلّص الكاتب كلّ ذلك ليكتفي بالقول: 'كان دادو رجلًا شهمًا'، وفي ذِكْرٍ ثالثٍ قلّص أكثر: 'كان دادو رجلًا'، لتكون الصفة الطاغية والوحيدة المتبقّية هي 'الرجل'، والتي يكرّرها في وصف كلّ من أمين وعلاء الدين. في مرحلة معيّنة من الرواية، يتحدّث الكاتب عن حبّ أوّل بين رقيّة ويحيى، يكون فيه أمين، زوجها، بمثابة الدخيل، ويصفه بـ 'كان أمين رجلًا'، مثلما تحدّث عن حبّ أوّل بين ديمة والسيّد مطر، كان فيه علاء الدين دخيلًا، ووصفه الكاتب، أيضًا، بـ 'كان علاء الدين رجلًا'.

علاقة الأمّ المدينة والابن مطر

يتغنّى الكاتب بجمال قرية الطنطورة جنوب مدينة حيفا، وحضورها الذي يقدّس روح المكان ويحتضن الناس مثلما تحتضن الأمّ أبناءها، تمامًا كما يكشف لنا عن تعلّق رقيّة، أمّ السيّد مطر، بابنها، وجنونها لدى فقدها له. في نفس هذا المسار، تتّخذ ديمة، محبوبة السيّد مطر، رمز أمومة مكثّفة في الرواية، تتجاوز علاقة الحبيب والمحبوبة، فعلى الرغم من حبّ ديمة لشخص آخر يُدعى علاء الدين، إلّا أنّها لا تستطيع التخلّي عن حضور السيّد مطر في حياتها.

الطفل 'الذي لم يولد بعد'، السيّد مطر الذي يجد مكانًا له في الرواية، يروي الأحداث وهو في حالات اللاوعي، من حلم أو سكر أو جنون، ثمّ يعود إلى سباته العميق، إلى رحم البحر، حيث لم يولد.

علاقة المرأة المدينة والابن مطر

في سياق آخر، يخرج كيّال عن قدسيّة رمز الأمّ في الميثولوجيا، وتضحيتها وعظمتها في الإخلاص لغيرها، ويجرّدها إلى امرأة مستقلّة ومتحرّرة من هذا التعلّق المقدّس بابنها مطر، والهوس به؛ ففي مرحلة ما، يصبح السيّد مطر لعنة في حياة كلّ من رقيّة وديمة.

مطلع الرواية، يستحوذ الطفل السيّد مطر، الذي يقرم حلمة أمّه قصدًا، على جلّ تفكير رقيّة، مقيّدًا رغبتها في أن تقع في الحبّ، محاصرًا إيّاها أينما ذهبت. بالمثل، تقف هذه العلاقة 'الأوديباليّة' حائلًا أمام نجاح علاقة ديمة مع حبيبها الثاني، علاء الدين، ويصبح موت السيّد مطر ضروريًّا لتتحرّر منه، وتصبح امرأة مستقلّة تمارس عاطفتها ورغباتها مع من تشاء بكلّ حرّيّة.

تذكّرني هذه العلاقة الاستعباديّة بين الأمّ وابنها بالبطلة إِدْنا في رواية 'الصحوة' (1899)، للكاتبة كيث شوبين؛ امرأة متزوّجة من رجل لا تحبّه، وأمّ لخمسة أطفال لا تشعر تجاههم بمسؤوليّة الأمومة، لكنّها تحبّ الرسم والبحر وعشيقًا آخر يُدعى روبرت، يبادلها الحبّ بالحبّ. في قمّة صحوتها، تتحرّر إِدْنا من ضغوطات مجتمعها، حتّى من حبّها لروبرت، لتحتفل بذاتها. وفي مفارقة شائقة مع حالة السّيد مطر الذي هرب من أمّه، تهرب إِدْنا من أولادها نحو أمواج البحر وتسبح بعيدًا بعيدًا بدون أثر، كأنّ البحر ابتلعها إلى أسفل أعماقه.

موت الولادة

مجد كيّال في روايته الأولى، يعرّفنا ببيئته ومدينته حيفا، يمشي في شوارعها ويحدّثنا عن واقع التهويد فيها، وعن تناقضات هذه المدينة التي تتّخذ الديمقراطيّة فيها ركنًا رئيسًا من ملامحها.

نحو نهاية الرواية، نرى أنّ الكاتب يستخدم كلًّا من رقيّة وديمة والسيّد مطر على نحو تبادليّ، كأنّهم، جميعًا، يرمزون إلى نفس الحالة؛ إلى السكّان الأصليّين الذين شكّلوا روح الطنطورة، على الرغم من كلّ محاولات تهويدها. كما أعطى السيّد مطر 'الذي لم يولد بعد'، صوتًا للذين لا صوت لهم، لضحايا مجزرة منسيّة دُفِنَتْ ذاكرتها.

من هنا، تتّخذ الرواية خصوصيّتها، من خصوصيّة المكان. تُنْتِجُ 'الديمة' 'المطر'، وتتجمّع قطرات الأمطار لتُنْتِجَ البحر، كأنّ معنًى جديدًا قد وُلِد. منذ البدء، كان السيّد مطر 'الذي لم يولد بعد' في البحر، وسيكون شاهدًا على كلّ الأزمان، يبعث أملًا للأجيال القادمة. ربّما سيعود في مجيء ثانٍ ليبشّر بولادة جديدة لأرواح نائمة في سبات عميق، في البحر!

 

ريم شريّدة

 

من مواليد القدس، خرّيجة الأدب الإنجليزيّ في جامعة بير زيت. عضو في شبكة المبدعين الثقافيّيين CIN، التي تجمع الشباب الناشط في المجال الثقافيّ من أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ممّن يرغبون في المشاركة بأفكارهم الإبداعيّة في عمليّة التحوّلات الاجتماعيّة لتحقيق مستقبل أفضل لبلادهمتهتمّ بالمشهد الثقافيّ الفلسطينيّ، وتحديدًا الأدب.