أحمد دحبور: لغة مناكفة ودالّ متحرّر

الراحل أحمد دحبور (1946 - 2017)

نعى الناعون يوم السبت، 8 آذار (مارس)، الشاعر الفلسطينيّ أحمد دحبور (أبو يسار)، عن عمر يتجاوز السبعين عامًا بقليل، بعد صراع مع المرض لم يمهله طويلًا.

وُلد الشاعر في حيفا بفلسطين سنة 1946، وهذا يعني أنّه غادرها لاجئًا وعمره سنتان حسب. وكان الاتّجاه إلى حمص في سورية، لذا نشأ ودرس في مخيّم للّاجئين. ولم يتلقّ دحبور تعليمًا أساسيًّا عاليًا، فاعتمد على نفسه، ونشأ بسبب ذلك قارئًا نهمًا، قرأ الكثير من دواوين الشعر العربيّ القديم، والحديث، وقرأ ما تيسّر من مصادر الأدب العربيّ في غابره، وجديده، واطّلع على الأدب العالميّ من خلال الترجمات المتوافرة، وساعدت الوظائف التي شغلها على صقل ثقافته، وشعره، ومنها رئاسة تحرير "مجلّة اللوتس" حتّى عام 1988، وإدارة الدائرة الثقافيّة بمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، ورئاسة تحرير "مجلّة البيادر الفصليّة" التي صدرت في تونس لبضع سنين. وقد فاز بـ "جائزة توفيق زيّاد للشعر" عام 1998، وصدرت له مجموعات شعريّة عدّة، منها: "الضواري وعيون الأطفال" (1964)، و"حكاية الولد الفلسطينيّ" (1971)، و"طائر الوحدات" (1973)، و"بغير هذا جئت" (1977)، و"اختلاط الليل والنهار" (1979)، و"واحد وعشرون بحرًا" (1981)، و"شهادة بالأصابع الخمس" (1983)، و"ديوان هكذا" (1990)، و"هنا .. هناك" (1997)، و"جيل الذبيحة" (1999)، وكانت دار العودة ببيروت قد أصدرت المجموعات السبع الأولى في مجلّد واحد بعنوان "ديوان أحمد دحبور" (1982).

مغايرة

واللافت أنّ أحمد دحبور يخاتل التعبير، ويناكف الكلمة والجملة المتداولة، فتكسب على يديه شكلًا مغايرًا، وربّما دلالة تختلف عمّا هو مألوف وسائد، فهو يجد نفسه مضطّرًا لاستخدام عبارة متداولة كثيرًا، من ذلك عبارة "كلّ شيء على ما يرام"، فنجدها في قصيدة له تكتسب صياغة أخرى عن طريق الاستبدال:

قنفذ في اليدين

شفرة في العناق

كلّ شيء على ما يراق

والمساء النحيل يراوح ما بين عاصفتين

هكذا يسرد المشهد اللحظة المحتواه

تقع الأمّ تحت يمين الطلاق

فهو بتغييره كلمة "يرام" بأخرى "يراق"، يؤكّد أنّ الأمر ليس اقتباسًا، ولا تضمينًا لهذا التعبير المتكرّر، وإنّما إعادة صياغة تضفي عليه معنًى جديدًا. وكذلك التعبير الذي يقال في العادة، "رمى عليها يمين الطلاق"، يتلاعب به، ويتصرّف فيه تصرّفًا، يضفى عليه معنًى آخر؛ فالأمّ هي التي تقع تحت طائلة اليمين. وبهذا يثبت لنا الشاعر أنّ اللفظ الذي عُرف في هذا المقام، واعتاده المتكلّمون، واعتاده القرّاء، قد ظهر بصورة أخرى مغايرة، ما يستدعي ضربًا من التلقّي الذي يتناسب وهذا التحوير.

اللفظة تقدّم نفسها

ومن  المألوف في اللهجة الفلسطينيّة تشبيه الأبناء الصغار بالزغاليل، وقد ورد هذا في قصيدة شعبيّة على لسان أسير فلسطينيّ أيّام الانتداب البريطانيّ، ذكر فيها خوفه الشديد على مصير (كمشة) زغاليل، قاصدًا بهذا اللفظ الأبناء الصغار، وهذا غير بعيد عمّا قصده شاعر عربيّ قديم، هو الحطيئة، الذي وصف بناته وأبناءه الصغار بزغب الحواصل، وهذا يذكّر بهذا؛ فالكلمة - ها هنا - لم ترد في قصيدة دحبور على سبيل الاقتباس، أو التضمين، أو أيّ شيء من هذا القبيل، وأضرابه، وإنّما هي اللفظة تفرض نفسها، وتقتحم العبارة دون أن تخلّ بعفويّة السياق، ولهذا تنسجم مع مفهومنا للأصالة التي تعني تدافع الألفاظ، والعبارات، والصور في النصّ، كما لو أنّها هي التي تقدّم نفسها للقارئ وليس صاحب النصّ:

هكذا.. وزغاليلها بين بين

تمرّ الفصول ويبقى حبيس الإطار

ولكنّها الريح تقتلع الظفر من لحمه

وصغير الزغاليل من أمّه

فاستمع للجنون المُعار

فلو سلّمنا من باب الجدل أنّ في كلمة زغاليل تضمينًا من نوع "أطاعن خيلًا من فوارسها الدهر"، فهل سنسلّم بذلك عندما نقرأ قوله "ولكنّها الريح تقتلع الظفر من لحمه"؟ من الواضح أنّ هذا غير يسير على قارئ يدرك المعنى الذي يوحي به السياق، فالمثل الشعبيّ ينفي خروج الظفر من لحمه، فيما يؤكّد الشاعر أنّ الريح تقتلعه فضلًا عن خروجه منه. ولهذا فإنّ أيّ ادّعاء بأنّ الشاعر يقتبس المثل، ادّعاء تفنّده الدلالة، وهي أنّ الريح، بما تعنيه من رمز - ها هنا - تمكّنت، خلافًا لنواميس الكون، من أن تقتلع الصغير من وطنه، حيفا، وأن تقذف به في المنافي؛ تارة في حمص، وطورًا في تونس، وطورًا ثالثًا في غزّة، وهكذا...

دالّ متحرّر

والشيء نفسه نجده في المقطع الآتي:

ولا صوتَ

آوي إلى جبلٍ

ثمّ لا أسمع الصوت فيما تسوق إليّ من السجن

شمسًا تعنّي

يا أخًا أمّه لم تلدني

ففي هذا المثال يعاند الشاعر اللغة السائدة، فيجعل المثل المشهور "ربّ أخ لك لم تلده أمّك" مقلوبًا، وهو في البيت الأخير: أخ أمّه لم تلدني.

أمّا الذي يذكّرنا بخطاب النبيّ نوح - عليه السلام – لابنه، وقول الأخير آوي إلى جبل، فقد يرى فيه بعض الدارسين، ونقّاد الأدب اقتباسًا على مستوى التصنيف الذي أرادوه، ونظموه في أنواع وأضراب، ولكنّنا لا نرى في ذلك إلّا أنّ الشاعر يقول على لسان المتكلّم إنّه يحاول النجاة بنفسه بشتّى الوسائل، بما في ذلك الاتّجاه إلى جبل يعصمه من ماء الطوفان، ولكن الصوت الذي كان يتوقّع أن يساعده لا يُسمع، وليس هذا ما توحي به الآية الكريمة ليُسمّى اقتباسًا. فمن المؤكّد أنّ القارئ المتعمّق في ما جرى به قلم الشاعر، سيتوصّل إلى أنّ المعنى العميق لقول الشاعر مختلف عن المعنى الظاهر، والسياق هو الفيصل في ذلك. وهذا التصرّف بالمفردة الشعريّة في سياق يجعل منها دالًّا متحرّرًا من مواضعات المعجم الشعريّ التقليديّ، شائع في شعره كثيرًا، ومتوافر، وفرةً لا يُستطاع تتبّعها في مقال ذي رقعة ضيّقة كهذا المقال.

 

إبراهيم خليل

 

 

 

أكاديميّ وناقد فلسطينيّ يقيم في الأردنّ.