"نساء كازانوفا": لعبة التحوّلات من الشيء إلى ضدّه

الفنّان توماس ساراكينو

يلعب واسيني الأعرج في روايته الجديدة، 'نساء كازانوفا' (511 صفحة، دار الآداب للنشر، 2016)، لعبة التحوّلات النفسيّة والبنيويّة باقتدار، مستفيدًا من النقائض التي تتشكّل منها وتستند إليها شخصيّات الرواية. في هذا العمل، رسم الكاتب خطًّا فاصلًا بين الشخصيّات، وجعله منصّة شهود أو برج مراقبة للقارئ، يطلّ منه على الأحداث ويكون حكمًا عليها، أو ربّما ليتابع ويراقب التحوّلات في شخصيّات الرواية، وانتقالها من ردّ الفعل إلى الفعل.

التحوّلات في الرواية عديدة، وقد خدمت الحبكة الروائيّة على أكثر من مستوى؛ ففيها يسقط الديكتاتور ويصبح عبدًا، الضحيّة تُمنح حقّ الحديث، السادة يصيرون عبيدًا، العبيد يصبحون سادة، الجاني يطلب الغفران، الضحيّة تقف أمام نفسها، مع إمكانات نفوذ وسلطة منحها لها الكاتب بشيء من الشكّ، والفاعل يصير مفعولًا به؛ كلّها تناقضات منحت الفضاء السرديّ عمقًا شديد البساطة وشديد التعقيد في الوقت نفسه.  

بياض

تبدأ الرواية بخبر موت كازانوفا، الشخصيّة التي يخشاها الجميع؛ صورة الوحش التي استغلّها واسيني الأعرج خلفيّة بيضاء يلوّن عليها أحداث الرواية وتحوّلات شخصيّاتها من الشيء إلى ضدّه. إلّا أنّ هذا البياض لا يمكن أن نعدّه خلفيّة سرديّة مريحة فقط؛ هو لون حاضر بسرياليّة كبيرة في لوحات الشخصيّات، منفردة ومجتمعة، ويُنضج صورة الأحداث كلّها.

لولا هذا البياض، ما كان لأيّ من شخصيّات الرواية أن تتلوّن بلونها الحاليّ، وكلّ الشخصيّات الأخرى، بمختلف ظروف حضورها الروائيّ، كانت بمثابة لون أبيض ما في حياة 'كازانوفا'، اختاره بصفته لونًا محايدًا يصلح لتلوين لوحة علاقته الخاصّة بكلّ شخصيّة من شخصيّات الرواية. يصبح القارئ، هنا، شاهد عيان على مستقبل الأحداث، شاهد يحكم على التحوّلات السلوكيّة للشخصيّات، ويترقّب على مدار صفحاتها لعبة التشويق والإثارة، بين ما كان وما يمكن أن يكون. 

انطلاقًا من لعبة الثابت والمتغيّر، ينطلق واسيني الأعرج في هذا العمل بجعل الثابت الوحيد في الرواية الفضاء المكانيّ، وغير ذلك فكلّ شيء متغيّر. شخصيّات الرواية مجترّة من الواقع، ويمكن أن يسقطها القارئ على أناس ربّما يعرفهم في الواقع.

بطولة متقاسمة

يقول فلاديمير بروب في كتابه 'مورفولوجيّة الحكاية الشعبيّة' (1928)، عند البحث في شكل الشخصيّات في السرد: 'إنّ شخصيّات الحكاية الروائيّة والحكايا الشعبيّة لا تخرج عن سياقات محدّدة، تختلف جميعها في الأسماء وتتشابه فقط في الدور وتوظيفاته. ولا تتجاوز شخصيّات أيّ حكاية روائيّة السبع شخصيّات التي يمكن إيجازها في القوالب التالية: المعتدي أو الشرير، والواهب، والمساعد، والشخص موضوع البحث، والمرسل، والبطل، والبطل المزيّف'.

نستطيع بتحليل وفهم مقولة بروب، أن نفسّر اهتمام الأعرج بالمبنى السرديّ عبر التركيز على وظائف الشخصيّات وأفعالها، لا على الفضاء المكانيّ الذي يندفع السرد منه وإليه. تنطبق هنا، أيضًا، مقولة رولان بارت: 'إنّ ما في طريقه إلى الزوال في رواية اليوم، ليس الرواية، وإنّما الشخصيّة'، وهو تحديدًا ما نجده في 'نساء كازانوفا'؛ فالبطل في الرواية صنع مآس عديدة لكلّ الشخصيّات، وتخلّى عن تلك السمات لصالح سمات شخصيّة أخرى، من دون مساس بحضور الشخصيّة في الرواية.

واسيني الأعرج

أصبحت البطولة مسلوبة ومتقاسمة، وأصبح المركز هامشًا، واقتحم المهمّشون المركز واستغلّوه سرديًّا لصالح حكاياتهم. لعبة التدوير والتناوب هنا، تأخذ حيّزًا كبيرًا، ويخلق عبرها الكاتب زوايا رؤية للشخصيّات لا تخضع لهواه الشخصيّ، إنّما للزاوية التي يرقب منها القارئ الأحداث. لهذا، لن أستبعد بعض التعاطف من قبل البعض مع كازانوفا، كما لن أستبعد اصطفاف البعض الآخر وراء انتقام الشخصيّات من البطل، بصرف النظر عن دوافعهم المختلفة وراء هذا الانتقام.

مفعول/ فاعل

على الرغم من وفاة الشخصيّة الرئيسيّة في الصفحات الأولى، على الورق، إلّا أنّ الأعرج أبقى البطل حيًّا في السرد؛ حتّى حين أصبح كازانوفا جثّة هامدة، لا يملك من أمره شيئًا، إلّا أنّه بقي ممسكًا بكلّ خيوط السرد، وجذب كلّ شخصيّات الرواية إلى الماضي، حيث الحدث الذي تطوّرت بسببه الشخصيّات. لقد ظهر البطل في الصفحات الأولى مبنًى فارغًا، أو جثّة هامدة، ويمتلئ هذا المبنى الفارغ رويدًا رويدًا، كلّما تصاعد السرد، ليعيدنا الكاتب، مرّة أخرى، إلى الحدث الرئيسيّ، وفاة الطاغية.

لقد طوّر كلود بريمون الأدوار التي ميّز فيها بين الشخصيّات المفعول بها، أو الضحايا التي تتأثّر بسير الأحداث في الحكاية، والمستفيد أو الفاعل الذي يبدأ الفعل ويؤثّر في المفعول ويعمل على تعديل الأوضاع الخاصّة بالمفعولين، أو يحافظ عليها كما هي، وهي التقنيّة التي اعتمد عليها الأعرج في تحويل دفّة الفعل نحو أكثر من مفعول، وباتّجاه أكثر من فاعل.

يحمل هذا العمل الجديد لواسيني الأعرج أكثر من قراءة وتأويل، وهو مادّة جيّدة للباحثين في تجديد الرواية العربيّة، من ناحية المضامين، ورمزيّة الشخصيّات، وتحوّلاتها على المستويين، السرديّ والبنائيّ. 

***

حول الرواية (الناشر):

كازانوفا رجل أعمال بأياد أخطبوطيّة في مدينة منارة سيتي، شغل الدنيا قبل أن يستسلم للجلطة الدماغيّة التي أقعدته بشكل تراجيديّ، فحرمته الكلام والحركة. يطلب رؤية زوجاته الأربع وخادمته: لالّة كبيرة، والخادمة مباركة، والفنّانة زينا، والطالبة روكينا، والساحرة ساراي، ليتسامح معهنّ، ويعتذر لهنّ قبل موته. ما كان مجرَّد طقس تقليديّ يتحوّل إلى تراجيديا حقيقيّة تضع كازانوفا أمام تاريخه القاسي الذي سرق براءتهنّ وحوّلهنّ إلى لا شيء، بلا اسم ولا هويّة. ويجد الجميع أنفسهم في كابوس ثقيل، الجميع ملائكة والجميع شياطين.

'نساء كازانوفا' استعارة لعالم عربيّ سجين تخلّفه المستفحل، وسجين إصراره على اعتبار المرأة مجرّد متاع بيتيّ، ولا قوّة خلّاقة تشكّل أكثر من نصف المجتمع. الرواية، بهذا المعنى، مرآة عاكسة لموت نبت بصمت حتّى أصبح اليوم حقيقة تحوّلت إلى انفجار مدمّر.

 

سامح خضر

 

 

روائيّ فلسطينيّ من مواليد القاهرة عام 1976. حاصل على ليسانس آداب لغة إنجليزيّة، وماجستير في الدراسات الإسرائيليّة، ويعمل حاليًّا مديرًا لمتحف محمود درويش في رام الله. صدرت له روايتان: 'يعدو بساق واحدة' (2015)، و'الموتى لا ينتحرون' (2016).