28/11/2015 - 14:19

ليلة في إزمير: مهاجرون علقوا بين المهربين واللصوص والخفر

أدى الرصاص الذي اطلقة اللصوص الأتراك إلى هرب المهربين وتخليهم عن الجميع، قبل أن يعودوا بعد أن انتهى السطو المسلح على كل المال وجوازات السفر

ليلة في إزمير: مهاجرون علقوا بين المهربين واللصوص والخفر

كانوا أربعة وثلاثين لاجئاً فلسطينياً وسورياً وبضعة عراقيين، وأردنياً واحداً، معهم ثمانية أطفال تتراوح أعمارهم بين عمر الشهرين والثانية عشرة، برفقة سبعة مهربين من حمص، مع قائدهم 'المعلم'، وهو قائد كتيبة ثورية سابقاً في أحد مناطق سوريا، وثلاثة لصوص 'مشلحين' أتراك سطوا على المهاجرين، وأنا صحفي أراد أن يوثق بعينيه رحلة البحر بقارب مطاطي من شواطئ إزمير في تركيا، حتى جزيرة ليسبوس اليونانية، لم يجتمع كل من ذكرتهم في 'النقطة' وهي المكان الذي ينطلق منه القارب المطاطي عبر البحر، بل أدى الرصاص الذي اطلقة اللصوص الأتراك إلى هرب المهربين وتخليهم عن الجميع، قبل أن يعودوا بعد أن انتهى السطو المسلح على كل المال وجوازات السفر.

حين وصلت لإزمير، كنت مثيراً جداً للشك من عاملي مطار عدنان مندريس، وهو مطار المدينة الكبير، أبدو كلاجئ ينوي السفر عبر البحر، يرفض الجميع في المطار أن يردوا علي حين أحدثهم بالتركية، يلجأون فوراً لبعض المفردات العربية، أو الانكليزية القليلة التي يعرفونها، فقط كي يقولوا لي أن أتوجه إلى قلب المدينة التي يعارض معظم سكانها حزب العدالة والتنمية وسياسيات حكومة إردوغان، ويؤيدون الحزب القومي التركي.

من المطار توجهت إلى الكراج الذي ساستقل منه حافلة تقلني إلى جنوب إزمير، حيث وافق سوري يعمل في التهريب على استقبالي كصحفي بشرط أن أذكر اسمه أو اسم أي مهاجر، وفيما كنت أظن أنني سأعيش جزءا من خوف المهاجرين وقلقهم، وجدت نفسي بينهم، أتنقل بين دور الصحفي ودور المهاجر ودور المهرب.

كانت إزمير التي تقع غرب تركيا على شاطئ بحر إيجة، ساحرة فيما مضى، اليوم تسيطر على واجهات بعض محلاتها، وكلما اقتربت من حي باصمنلي، ستر النجاة المرفوعة علنا والمعروضة للبيع. المهاجرون يفترشون الطرقات، من السهل أن تميز الواحد منهم، والعاملون لدى المهربين ينادون على الرحلات في الشوراع باللغة العربية.

وصلت إلى الفندق ذي الثلاث نجوم. كل النزلاء تقريباً من المهاجرين واللاجئين، وحديث واحد يتردد في البهو الرئيسي وحول بركة السباحة، طول القارب 'البلم'، وموعد الرحلة، ومزايا البلدان المنوي التوجه إليها. استقبلني المهرب بترحاب كبير، وعرفني إلى المهرب الحمصي 'المعلم' الذي يحمل في جسده آثار سبع رصاصات تركتها معاركه السابقة مع النظام السوري قبل عامين، وحوله الكثير من مقاتليه السابقين، الذي صاروا اليوم جميعاً يعملون في التهريب.

إلى البحر

القمر مكتمل الليلة، قال لي المهرب، هذا يعني أن البحر سيكون أقل مهابة من الليالي المظلمة. من باب خلفي في الفندق، خرجت العائلات المهاجرة باتجاه سيارات أجرة تركية يقودها مواطنون أتراك. ستقلنا السيارات نحو 'النقطة' لكن علي أن انتبه جيداً، قال لي المهرب، إنه في حال ألقى البوليس التركي القبض علينا، فيجب أن أقول أنني مهاجر، لست صحفياً، وطبعاً لست مهربا.

في السيارة، تعرفت على طارق وعائلته، درعاوي ومقاتل سابق في الجيش الحر، يحمل ابنه ذا الخمس سنوات، ومعه زوجته وابنه البكر ذو الأحد عشر عاماً. عم الصمت بيننا طوال ربع ساعة، خرجت السيارة من طريق رئيسي إلى آخر فرعي، تلحق بالسيارات الأخرى، ثم دخلنا في أراض زراعية، مظلمة، لأكثر من خمس دقائق، فجأة توقفت السيارات وترجل الجميع، فهمت أن على الجميع الآن أن يكمل نحو النقطة سيراً على الأقدام.

على الطريق نحو البحر، عرفت أن بيننا سيدتين حاملين، واحدة في الشهر الرابع والثانية في الشهر الخامس، مع أمهما المسنة، وهن من حلب. الأرض وعرة، والجميع يحمل متاعاً وأكياساً سوداء وضعت فيها ستر النجاة التي سترتدى بعد قليل.

فيما نحن نسير وبيينا المهربون، ظهر ضوء سيارة من خلفنا، قال واحد من المهربين ويدعى أبو الليل، إن علينا أن نختبئ جميعاً بين الشجيرات على جانبي الطريق، رمى الجيمع أنفسهم بسرعات متفاوتة، اقتربت السيارة لنكتشف أنها سيارة المعلم، فتابعنا السير، لكن ما عرفناه أن الخطر من البوليس لا يزال قائماً كل الوقت، وأن أي ضوء يقترب هو إنذار خطر.

البلم الروسي

وصلنا إلى النقطة، كان بقية المهربين لا يزالون يجهزون القارب المطاطي، بلم روسي. قال المهرب المعلم إن طول القارب يصل إلى تسعة أمتار ونصف، و يصل ارتفاعه إلى متر وعشرين سنتمترا، ويتألف من ست حجرات هوائية تنفخ كل منها على حدى، وقبضات للتمسك مدمجة في جسد القارب لا مخاطة به، أرضية من خشب سميك استغرقت أكثر من نصف ساعة كي تأخد مكانها، قبل أن يبدأ نفخ الهواء.

بدأت العائلات، بالقرب من موقع القارب، تخرج ستر النجاة وترتديها. الأمهات كن يلبسن أطفالهن الستر بعناية. شاهدت أما فلسطينية، تبكي بصمت وهي تُلبس ابنتها الصغيرة سترة نجاة، كانت الطفلة تعترض لأنها غير مرتاحة في السترة، لكن الأم ترد أنها ستبقيها دافئة.

طارق الدرعاوي كان قد جهز دولابي هواء إضافيين لولديه، ألبسهم الستر، وشدها على جسديهما. الكبير بينهما كان يعرف تماماً ما يحدث، لكن الصغير في حضنه كان يسأل عما يجري، فيجبه طارق بأن الجميع سيسبح ويلهو بعد قليل.

يعتمد المهربون في قيادة القارب على أحد المهاجرين. في هذه الرحلة كان رجلاً حلبياً تجاوز الخمسين هو من سيقود الرحلة. جلست معه ومع مهرب، وبدأ الاتفاق على خط الرحلة. قال المهرب السائق، وهو يشير بيده باتجاه البحر: 'اذهب يميناً ثم تابع مباشرة، تجنب الصخر بالقرب من الشاطئ'. لم يفهم السائق، فكرر له المهرب أن عليه أن يتبع أضواء الجزيرة اليونانية التي ستظهر بعد كيلو متر واحد من الإبحار.

سيدة فلسطينة كانت تصغي مع شاب كردي سوري للحديث، اعترضت على السائق، سألته هل أنت مدرب، قال الكردي لها طبعاً لا، ضحكت وسخرت من الوصول إلى اليونان هذه الليلة.

توجهت إلى حيث السيدة المسنة مع ابنتيها الحاملان، كان الرعب يسكن الأم، مثلها مثل أغلب النساء المتواجدات في النقطة، لكنها كانت أيضاَ تعاني من أن وزنها الزائد منعها من ارتداء سترة نجاة، فقررت أن لا ترتديها أبدا.

رغم أن الجميع يبعد عن البحر أمتار قليلة، لكن أحداً من المهاجرين، لم يقترب منه ولم يراقبه ولم يفكر به، تقريباً لم يقترب أحد من القارب أيضاَ.

الهجوم

كنت أفكر بأن المأساة السورية مكتملة هنا، هذا أكثر قسوة من برميل، وأشد وطأة من صاروخ بالستي، وأكثر مرارة ربما من ألم معتقل، جلست بجانب طارق وعائلته، بينما لا يزال العمل على تجهيز القارب مستمراً، وحولي مهاجرون قد يموتون الليلة.

كنا لا زلنا جميعاً نخشى من أي ضوء يخترق الطريق الزراعي، وكان الجيمع ممن جلت بينهم مقتنعا بأني مهرب، كان صعباً علي أن أقول أني صحفي، فقبلت التهمة، وتوقفت عن رفضها.

عند الحادية عشرة قبل منتصف الليل، لمحنا ضوءاَ وصوت عربة، ارتبك الجميع، انتفض المهربون من حول القارب، ووقف بعضهم في مكانه حين دخلت إلى نقطتنا دراجة نارية، الطفل الصغير في حضن طارق فرح بضوئها الذي أنار المكان، قال أحد المهربين هذا 'صاحب النقطة' في دلالة على المهرب التركي الذي يؤمن سلامة النقطة من خفر السواحل والشرطة مقابل مبالغ مالية، لم يكن أنهى جملته بعد، حين دخل ثلاثة رجال إلى حيث نحن، وبدأوا يطلقون النار باتجاه المهربين وفي الهواء. قفز المهربون بين الاشجار.

تسمر الجميع، وجلس المهاجرون مع أطفالهم على الأرض، كنا نشكل في جلستنا صندوقاً مفتوحاً، واحد من المسلحين لحق بالمهربين، فيما ظل اثنان بيننا. فكرت بأنه إذا ألقى البوليس التركي القبض علي الآن، لا أملك حتى ورقة تثبت شخصيتي، ولا عملة أجنبة معي، ولا ارتدي سترة نجاة. كل شيء يدل على أني مهرب ولست مهاجرا. هنا عاد الطفل في حضن طارق للحديث، سأل والده عما يجري، فرد الأب بأنها ألعاب نارية.

طوال ساعة وعشر دقائق، جال المسلحون الثلاثة، الذين تبين أنهم لصوص وليسوا من أي جهة رسمية تركية، بيننا، وفتشوا الرجال جميعاً، وسرقوا ما معهم من مال وأوراق ثبوتية. كانوا يعرفون تماماً أين يضع المهاجر المال وجواز السفر مربوطاً إلى البطن في كيس محكم الإغلاق.

ضربوا رجلاً واحداً قاوم سرقة جواز سفره, كانوا يحملون، بحسب طارق، سلاح 'بمبشكن' ومدس 9 ملم.

كانت الساعة تجازوت منتصف الليل، حين فتشوني ولم يأخذوا مني أي شيء. يسميهم المهربون 'المشلحين'، وقالوا إنهم لا يقتلون أحداً، لكنهم يسرقون كل شيء.

بعد أن حصلوا على ما مع الرجال فقط من أموال، بقي ما مع النساء وما مرره بعض الرجال لهن، من مال وأوراق ثبوتية، انسحب المسلحون من أمامنا، ولم نعد نشاهدهم، ثم أطلقوا المزيد من الرصاص، ما جعل الجميع يلتزم مكانه ولا يتحرك، حتى سمعنا صوت المعلم، يصرخ ويشتم رجاله الذين هربوا.

من جديد، إلى البحر

عادت الحركة للمكان. أحصى المهاجرون خسائرهم، أكثر من عشرة آلاف يورو، وخمس جوازات سفر، ولم يصب أحد بأي أذى، والقارب بخير. هنا ظهر المهربون الفارون من جديد، وعادوا لتجهيز القارب، المعلم وعد بتحويل كل الأموال التي سرقت إلى اليونان فور وصول المهاجرين، لم أصدق أنهم وافقوا على استئناف الرحلة في ذات الليلة، لم يتردد أحد، لم يعترض أحد على الاستمرار في الخطة، بعدما تعرضنا له جميعاً.

بعد أن يصبح القارب ممتلئاً بالهواء، يُحمل إلى المياه، على بعد عشرين متراً من الشاطئ، يُركب المحرك الذي يحتاج لمياه بعمق متر على الأقل، بالتالي على الجميع أن يمشي في المياه حتى القارب.  بدأ الرجال الصعود إلى القارب، في حين تعرى المهربون وسبحوا إلى القارب، يحملون الأطفال ويساعدون النساء، يُوزع المهاجرون في القارب بشكل يحافظ على الوزن متساوياً في جميع الزوايا.

قررت السيدة الحلبية المسنة أن تخلع حذاءها قبل أن تمشي في البحر، مثلها فعلت أغلب النساء. هنا عرفت أن هناك طفلا يسافر وحيداً من دون أبويه، أرسلاه من سوريا عله يصل ويبدأ بإجراءات لمّ الشمل لهما، كان مذعوراً، فاحتضنته سيدة لا يعرفها، وهدأت من خوفه، لم يتجاوز عمره 10 أعوام.

وداعا

حين تراقب القارب وهو في الماء يحمل المهاجرين ويبتعد، ستبكي حتماً. شتم المهرب الذي يراقب المشهد معي الحرب، شتمته في نفسي، دمع غريب لا تختبره إلا إذا كنت ابن الحرب، أو شاهدا عليها، ستدعو الله أن يصل المركب بسلام، ستودع الجميع الذين لا تعرفهم ولن تعرفهم، كأنهم أخوتك، ستنسى تماماً أنك صحفي.

صباحاً، علمت أن المهاجرين عادوا إلى الأراضي التركية، فقد ألقى خفر السواحل القبض عليهم في حوالي الثالثة فجراً، ثم اقتادوهم إلى الميناء، صوروهم وقدموا لهم بعض الطعام، ثم تركوهم يرحلون.

عادوا للفندق، وبدأوا ينتظرون موعد الرحلة القادمة.

التعليقات