مداخلة د.إلياس عطا الله في إحياء ذكرى النكبة في منتدى الصحفيين العرب ولجنة المتابعة العليا في الناصرة

-

مداخلة د.إلياس عطا الله في إحياء ذكرى النكبة في منتدى الصحفيين العرب ولجنة المتابعة العليا في الناصرة

لن تنكبَ العربيّة


لن تُنكَب العربيّة، أقولها، تتوزّعني مشاعرُ بين رُهاب الخيبة وإشراقة الأمل، أقولها متّكئا على استمراريّة كينونتها قرونا تحت ظروف أعتى وأشرس، وقارئًا الآتيَ من الزمن مطمئنّا إليه. ويُسألُ؛ عن أيّ عربيّة تتحدّث؟ أهي الفصحى وما معها ممّا يندرج في القياسيّ المعياريّ القواعديّ، أم المحكيّات؟ أم أنّ الحديث سيكون حصريّا عن العربيّة في الدولة العبريّة؟


في كلّ نكبة أقطع العهد على نفسي وتحت أغلظ الأيمان بألاّ أعود للحديث عن النكبة واللغة، وأحنَثُ، وأعود لوجع أصبح قدَرًا، ذلك أنّي أتعامل مع النكبة حدثًا يوميّا ونزفًا غير منقطع، ولا أطيق رؤيتها حدثًا موسميّا لإحياء ما مررت به، فردا وشعبا عام 1948، ناهيكم، بأنّني والنكبةَ تربان، أُرضِعنا سُمّا واحدا، ومُنّينا بكذبة واحدة، أمّا الغد، فأبقيه عند علاّم الغيب... لا أطيقها، وقد أصبحت قضيّة يُتلهّى بها في المؤتمرات والمنتديات، عشيقةً هرِمةً تُضرَب معها مواعيد استحقاقٍ سنويّة، أقول هذا مدركًا قدسيّةَ الرسالة في نقل الرواية من جيل إلى جيل، وضرورةَ تعريف أبنائنا بتاريخهم... ستة عقود ونحن نحمل النكبةَ الذاكرةَ المفتاحَ، صدِئَ القلبُ، والكاهلُ ينوء بما يحمل.


بعد فِعل النكبة، نُسفَ الوطنُ عندي مرّتين، مرّة بشكل جمعيّ عصف بشعبي، وأخرى حين أسقَطَتِ النكبةُ من معجمي أنّ وطني هو مسقط رأسي، استعارة تصحّ عند كلّ البشر عدا المنكوبَ من أمثالي، حيث أنعمت عليَّ الصهيونية بترفِ أن يصبح الوطن مسقط جثّتي ورمسي.


عن عربيّة العرب لن أتحدّث الآن، ولن أعيد كلاما قلته أو كتبته، فلو كان المحتلّ قادرًا على محو اللغة أو إلغائها، لكانت العربيّة نسيا منسيّا منذ قرون، وها نحن الآنَ ننتدي لها، وتنساب من ألسنتنا رحيقًا وطيبًا وموسيقا، لها ربٌّ يحميها، وكتابٌ يعليها، وأبناء سدنةٌ لها، غُيُرٌ عليها، يسطّرون بها روائع ما خطّ من علوم وفنون، ويحمونها كما الوطن برمش العين وحنايا الضلوع.


كنت قلت سابقًا: " إن كان لنا أن نتحدّث عن أزمة العربيّة، فإنّها مأزومة بنا ومعنا"، وأرفع منسوبَ الوجعِ الصرخةِ اليوم قائلا إنّ نكبة العربيّة من بنيّات نكبتنا، وأنا لا أتحدّث عن النكبة مصطلحًا فلسطينيّا فحسب، وإنما عن وهن مكانتها وظلّيّتها في عدد من الأقطار العربيّة... قد تنسف ديمومةُ العربيّة كلَّ  النظريّات السابقة القائلة بسقوط اللغات، وفي البال مقولة ابن خلدون( ت 1406 م.) الشهيرة:" إنّ غلبةَ اللغةِ بغلبةِ أهلِها، وإنَّ منزلتَها بينَ اللغاتِ صورةٌ لمنزلةِ دولتِها بينَ الأممِ" ( من المقدّمة)، مقولة يُكثِرون من الاستشهاد بها، وقد يكون شيوع مقولة ابن خلدون نابعًا من شهرته وانتشار مقدّمته، ولكنّه سُبق، كما أشار الكثير من الباحثين، إلى هذه الملاحظة- وإن اختلفت السياقات-، فابن حزم الأندلسيّ ( ت 1064 م.) يقرّر قبله بأقلَّ من أربعة قرون:" إن اللّغةَ يَسقطُ أكثرُها ويَبْطلُ بسقوطِ دولةِ أهلِها ودخولِ غيرِهِم عليهم... وأمّا مَن تَلِفَتْ دولتُهم وغلبَ عليهم عدوُّهم... فمضمونٌ منهم موتُ الخواطرِ، وربّما كان ذلك سببًا لذهابِ لغتِهم... " ( الإحكام في أصول الأحكام).


كانت الغيرة على العربيّة وسلامتها قائمة في الذات العربيّة منذ النصوص الأولى التي وصلتنا، وإن كان أبناؤها قد صانوها بضبط أقيستها وقواعدها بدافع دينيّ كما تروي كتب الأخبار العربيّة، فإنّ العربيّة آنذاك كانت تنتشر لتشكّل اللغة الدوليّة، وكانت تتعرّض للوهن لكثرة اللحن المتأتي عن إسلام غير العرب- ولسنا بصدد نقاش الرواية الآن إن قبولا وإن رفضًا-، أمّا في العصور اللاحقة، فإنّ علماء اللغة عاشوا الحالة المناقضة المتمثّلة بعزوف أهل العربيّة عنها، وذلك عائد لجملة من العواملِ تشمل ما أورده ابن حزم وابن خلدون، وعليه وجدنا انهماك العلماء في العصر الأيوبيّ المملوكيّ منصبّا على إحياء نفائسها، وتيسير قواعدها، ووضع الشروح والحواشي لعيون ما صنّفه القدماء، أو لما أبدعوه بأنفسهم، ومن هذا ما فعله ابن منظور الإفريقيّ المصريّ( ت 1311 م.) في وضعه لمعجمه الضخم؛ لسان العرب، ولقد أشار وهو يقدّم لمعجمه إلى ما دفعه إلى هذا العمل، قال:"... فإنّني لم أقصد سوى حفظ أصول هذه اللغة النبويّة وضبط فضلها، إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنّة النبويّة؛ ولأنّ العالِمَ بغوامضها يعلم ما تُوافق فيه النيّةُ اللسان، ويخالف فيه اللسانُ النيّة، وذلك لِما رأيتُه قد غلب في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحنُ في الكلام يعدّ لحنًا مردودا، وصار النطق بالعربيّة من المعايب معدودا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجميّة، وتفاصحوا في غير اللغة العربيّة، فجمعت هذا الكتاب في زمنٍ أهلُه بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلكَ وقومه منه يسخرون، وسمّيته لسان العرب... وحسبنا الله ونعم الوكيل". وتكفينا       " حسبنا الله ونعم الوكيل" مقياسًا للوجع وفَدَحِ الأمر.


إنّ حالة العربيّة عامّة ليست رهنا برغبات الدولة العبريّة وقميء سياساتها، فالعربيّة في الأقطار العربيّة ليست لغة مغلوبة- بالمفهوم المصطلحيّ- كحالتها في هذا الوطن... وإن كانت تعاني إهمالا هناك، أو تهميشا وترهّلا، فلأسباب أخرى يعرفها ساسة تلك البلاد ونُخبها، ولأنّنا في ذكرى النكبة أشير إلى أنّ إسرائيل قادرة على ضرْبِ الناطقين بالعربيّة، عاجزة عن ضرب العربيّة، ولكنّ الأمر ينطوي على مخاطر، فمع ازدياد التَّعَبْرُنِ الطوعيّ جرّاء ألف سبب وسبب، تفقد لغة الأمّة مكانتها، وتنزاح عن الألسنة والذاكرة، ويهمّشها أهلها من جهل بها، وتتشكّل كالفقاعات دعواتٌ للتعديل والتبديل والتيسير، وتعلو أصوات تتحدّث عن صعوبة العربيّة وقواعدها، وتسقُطُ منادية بالوسطيّة حينا، وبالمحكيّات حينا، وتوضَع مناهجُ يجتلبونها من شعوب أخرى ليعلّموا أطفالنا العربيّة، مناهج نقَلَ أهلُها عن العرب مناهجَهم... هذا ما فُعل في منهاج 2008، وخاصّة في تدريس المقطع والتقطيع، نموذجًا، بنقل كلّيّ إلى العربيّة، دون الانتباه إلى أنّ بنية المفردة العربيّة ليست كينونة مستقلّة، وتعتمد على الوصل والوقف، ممّا ينسف نظريّة التقطيع المستوردة من الإنجليزيّة، جميل أن أتعلّم من الإنجليزيّة أجزاء المقطع، وأن أضيف إلى معجمي مصطلحات جديدة كالـ onset والـ coda والـ rhyme، والـ nucleus أو الـ peak، ولكنّ هذا لا يغيّر في الحقائق العلميّة شيئا، ولا يفضي إلى تغريب المبحث، وتغييب أسماء من وضعوا النظريّة من ثبت المصادر كابن رشد(ت 1198 م.)، والفارابي(ت 950 م.)، وابن سينا(ت 1037 م.)، وهم سابقون بكثير لأوّل مصدر إنجليزيّ ذكر المصطلح(رُصِد مصطلح syllable عام 1384 كما أورد المعجم المحوسب Online Etymology Dictionary)، بل إنّ ابن رشد استعمل مصطلحي المقطع والسلابي نقلا عن اليونانيّة! وتنعكس هذه التبعيّة في قائمة المراجع، فالمراجع الأربعةَ عشرَ الأولى بالعربيّة، وما تبقّى- 132 مصدرا- فبالعبريّة والإنجليزيّة، وأوردوا، مشكورين، في قائمة المراجع الدكتور يحيى العبابنة (2000)، ولكنّه غفلوا عن أو أغفلوا أسماء لامعة درست المبحث وأوسعته شرحًا مثل: الأب أونري/ هنري فلايش اليسوعيّ، وداود عبده، وريمون طحّان، وعبد الصبور شاهين، وإدريس السفروشني، وغيرهم، وكأنّنا اكتشفنا اليوم هذا المبحث! ويُعنى المنهاج المذكور بالوعي النغمي والتنغيم، ولا يورد اسم تمّام حسّان! وهو واضع نظريّة التنغيم والنبر الحديثة في العربيّة في كتابه" مناهج البحث في اللغة" عام 1955. لست بصدد قراءة النوايا، ولا بالاجتهاد في سرد الدوافع، ولا أستبعد في حضرة ابن خلدون أنّنا أمام بعضٍ- ولا أعمّم- ممّن عقد لهم فصلا في المقدّمة بعنوان:" في أنّ المغلوبَ مولعٌ أبدًا بالاقتداءِ بالغالبِ في شعارِهِ وزيِّهِ ونحلتِهِ وسائرِ أحوالِهِ وعوائدِهِ".  


ويتملّكني الارتيابُ وأنا أرى مناهج تعدّ لتدريس أطفالنا لغةَ الأمِّ( البنية الأساسية للقراءة والكتابة في اللغة العربية كلغة أم- منهج تعليمي لرياض الأطفال الرسميّة- 2008)، وأتوجّس شرّا وأنا أتلقّى إعلانا من زميلة لإشغال وظيفة شاغرة لإعدادِ مناهج وامتحانات للغة العربيّة " كلغة أمّ" في الابتدائيّات(الصف الخامس تحديدًا) وما فوقها... فما معنى تدريس المكتَسَب؟ وما معنى امتحانات في لغة الأمّ؟ أهو تدريس العربيّة العاميّة لغير الناطقين بالعربيّة؟ أم أنّ موقعَ ويكيبيديا سيعلن بانتشاءٍ عمّا قليل ولادةَ لغة جديدة اسمُها " العربي الإسرائيلي"، كما دخلت " المصري" لغة" حاميّة" فيه؟! أم أنّ في الأمر استغباءً وتذاكيًا؟ أم أنّه حملة جديدة لضرب لغة الأمّة عبر لغة الأمّ؟ كل هذا لا يخيف، ولا يبدّل شيئا، فمنذ عقود تتناثر حولنا هذه الدعوات، يفنى أصحابُها، وتبقى العربيّةُ، ولكن علينا أن نتيقّظ ونتنبّه صونا لفصحانا، على مناعتها وحصانتها، وعلينا أن نصون محكيّتنا، لغة الأمّ، فانفتاحها على الدخيل واسع لا ضابط له، وتغلغلُها لغةَ تدريس بدلا من الفصيحة القياسيّة المعياريّة يزداد اتّساعا وعمقًا، حتّى غدا نهجا مرضيّا عنه مبرّرا بالجهل والانفتاح... أنا لست ضدّ المحكيّة في شيء، فهي أمّي وأهلي وحارتي وبلدي، وهي الوعاء الحافظ لكثير من أسرار فصحاي، ولكنّ هذا لا يعني تبادلَ الأدوار بين وجهي اللغة الواحدة، فلكلٍّ جماليّتُه ومهمّتُه.


أعرف أنّني لست " النومني" الوحيد، وأنّني لست المتحدّث " السنجل" اليومَ، ولا " البرايم" الأوّل ولا الرابع( من العناوين الرئيسة لأحد المواقع العربيّة في الأسبوع الفائت)، ولذا سأكون- قبيل الانتهاء- على غير عادتي، مغمورًا بشيء من التفاؤل لصحوة أجيالنا الشابّة على انتمائهم وتشبّثهم بهويّتهم، خاتمًا بأنّ أمم الأرض تعرف أهميّة لغاتها، وتعرف كيف ترتبط بسطةُ سلطانها بسيرورة لغاتها، فمنذ مطلع القرن السادس عشر ربط بعض الأوروبيين بين اللغة وإحيائها وهيمنة دولها، وأكتفي بالتمثيل بالفرنسيّ دو بوللي( 1560) الذي قال في كتابه" دفاع اللغة الفرنسيّة وبيانها": قد يأتي اليومُ- ولكم أتمنّى قدومَهُ، مرفَقًا بقدَرٍ سعيدٍ لفرنسا- سيتولّى فيه هذا الملكوتُ القويّ النبيلُ بدوره زمامَ الهيمنة العالميّة، والذي ستتفجّر فيه لغتنا التي لا تزالُ في بداية تثبيت جذورها في الأرض لترتقي إلى مستوًى عالٍ يمكّنها من مقارعة اليونانيّين والرومان أنفسهم..."( عن كتاب: اللغة والهويّة- جون جوزيف)... لم تتشكّل لغته بعد ويريد مقارعة الإغريق والرومان، أمّا أنا، ورغم تجذّر لغتي، فلا أريد احتلالا... غاية ما أريد انقلاع الاحتلال عنّي، وتورّد خدّي لغتي، وعنفوان أمّتي، وإن كانت العروبة وشيجةً مرعبةً مَحُولاً دونها في توحيد العرب هُويّة وانتماءً، فلتكن العربيّةُ... وهذا أضعف الإيمان.

التعليقات