من يسبق من في الجريمة: جدار الصمت ام جدار الفصل؟؟/ اليزابيث نصار

-

من يسبق من في الجريمة: جدار الصمت ام جدار الفصل؟؟/ اليزابيث نصار
وضع يده على كتفي من الخلف، استدرت لأفهم واذا به مزارع يوجه اصبعه نحو تلة مرتفعة يتوسطها خزان، وقال:" هذه الأرض كانت مزروعة اشجار زيتون اجمل واقدم من هذه التي حولنا، منعنا الجيش من دخولها ثلاث سنوات ليسري عليها القانون العثماني القاضي بمصادرتها لعدم العناية بها وتم اقتلاع الأشجار وتدميرها"..

لن يقوى اي كلام تقريري على تصوير الألم الساكن في قلوب المزارعين الذين يواجهون دولة احتلال تسخر القانون والجرافات والأسلحة المتطورة لبسط نفوذها في ما ليس لها.

نحن في اراضي جيوس دخلناها من الغرب، غرب الجدار، عبر طريق وعرية ازعجت السائق الذي قلق على المركبة التي يقودها، وكنا نقرأ خارطة وجهه المتأزمة كلما سمعنا صوت خبطة، ولكن هذا يظل هامشيا امام مهمتنا، وهي الوصول الى الفلاحين والمساهمة في اطلاق صرختهم وايصالها الى اصحاب الضمائر، علنا نساهم في كسر جدار الصمت المطبق على الصدور، المتستر على فظائع جدار الفصل.

تقدمت من رجل متقدم في العمر، مزارع يدعى ابو عماد، وكان متحمسا لسرد حكايته معلقا الأمال بإمكانية الفرج عن طريق الصحافيين، تماما كالغريق الذي يستأنس بقشة:"انا من قرية جيوس ولي ثمانون دونما غرب الجدار، ما بين اراض زراعية وبيارة ودفيئات، ومسؤول عن اعالة عائلة مكونة من خمس بنات وخمسة اولاد. ابني الأصغر(22) عاما في حينه،كان يعمل نجارا في جلجولية، تعرض له افراد من حرس الحدود، ضربوه وسرقوا ماله وتركوه مرميا مكتوف اليدين،احد الأشخاص مر في المكان ونقله الى المستشفى. فقرر بعدها الإنضمام الى شهداء الأقصى واستشهد في عملية الخضيرة يوم 17/2/2002 برصاص الجيش الإسرائيلي، نحن سمعنا الخبر كما سمعه الجميع ولم نكن نعلم بنيته، طلبنا التأكد من صحة الخبر فتم ذلك. ولم يقبلوا بتسليم الجثة رغم ضغوطاتنا وتوسلاتنا، كانت آخر مرة رأيناه فيها عبر شاشة التلفزيون منقولا على حمالة وهو جثة هامدة. كان اسمه عبد الجابر عبدالقادر خالد"...

ولم يسمح لدموعه بالإنهمار، بل تركها محجوزة في مقلتيه، معبرة عن حالة "عامة"، وتابع" زاد من قساوة الموت ومرارته تصرفات الجيش الأسرائيلي الذي داهم البيت واخلى محتوياته مهددا بنسفه على مدى اسابيع، البيت لم يهدم في النهاية ربما لأنهم اقتنعوا بعدم درايتنا بالأمر. لكني من وقتها لا ادخل ارضي الا بتصاريح، تصريحي الحالي ينفذ غدا، وانا بحاجة ماسة للعمل في ارضي، بينما لم تتم الموافقة على منحي تصريحا جديدا فهل هناك من يستطيع مساعدتي؟".

جيوس كانت اول محطة في رحلة صحافية للإطلاع على ما يحدث في الأراضي الفلسطينية الواقعة غرب الجدار. واول ما يسترعي النظر هو خصوبة الأرض، فنحن في نيسان، والأشجار مورقة وحاملة للثمار، اشجار الزيتون الدائمة الخضرة واشجار الحمضيات واللوزيات وشجر الأسكدنيا ذي الثمرة الشهية، مناظر طبيعية رائعة وكأنها هوت من الجنة، الا ان الجدار يفصل ما بينها وبين البلدة واصحاب الكروم. فالدخول الى الأراضي محكوم بنظام البوابة والتصاريح التي يفضل اصحاب الفصل عدم توفيرها في سياق خطة لحمل الفلاحين على هجرة اراضيهم واهمالها ليتسنى لهم بعد ذلك مصادرتها.

جمعية اعلام – مركز اعلامي للمجتمع العربي الفلسطيني في اسرائيل، بالتعاون مع جمعية الأهالي – مركز التنمية الجماهيرية، بادرتا معا لهذا البرنامج الساعي الى تعريف حجم المأساة التي اوجدها الجدار. جمعية الأهالي اطلقت مشروع تأهيل الأراضي الزراعية المتضررة غربي الجدار في كانون الأول من سنة 2005 والذي يشمل مسحا ميدانيا للأراضي الفلسطينية الزراعية والتي بقيت غربي الجدار. اضافة الى تأهيل وصيانة الأراضي المتضررة في محافظتي طولكرم وقلقيلية، وذلك بالتعاون مع " اتحاد جمعيات الإغاثة الزراعية" واتحاد لجان العمل الزراعي الفلسطينية" وبتمويل "جمعية التعاون".

افرزت البيانات معلومات مذهلة: سُلخ عن محافظة جنين وحدها 3,729 دونماً بقيت غرب الجدار، وفي محافظة طولكرم تم سلخ 15,726 دونماً، وسلخ عن محافظة قلقيلية 13،988 دونماً.

اما المشروع فيتركز في ست قرى فلسطينية متواجدة بمحاذاة الجدار الفاصل وهي البلدات الأكثر تضررا وهي:

1- جيوس، الواقعة شمالي قلقيلية. تم امداد المزارعين فيها بمواد لرش مساحة 1380 دونم من كروم الزيتون. وتلاحق الأهالي مسألة استصدارالتصاريح اللازمة لشق الطرقات الزراعية ( وهي شبه معدومة) واصلاحها.
2- عتيل ودير الغصون. حيث كانت محطتنا الثانية. وللقريتين ما مجموعه 2600 دونم غربي الجدار. تم في هاتين القريتين دعم خط مياه بطول 1150 متر لري الأراضي. اضافة الى زراعة 600 دونم بأشجار اللوزيات والزيتون.
3- قفين. وكانت لنا فيها محطة. لها من الأراضي خلف الجدار 4000 دونم.
4- فلامية. 1500 دونم غرب الجدار.
5- كفر جمال. 6000 دونم غرب الجدار.
6- كفرصور. 4000 دونم غرب الجدار.
تعد محافظات جنين وطولكرم وقلقلية غنية بمصادر المياه العذبة والأراضي الزراعية، وتشكل الزراعة عصب حياة بالنسبة للسكان الفلسطينيين عموما.

وشكلت هذه المحافظات الثلاث 45% من انتاج الضفة الغربية الزراعي وذلك عام 2000 وفقا للبنك الدولي. بسبب الجدار، تم عزل اكثر من 200 خزان مياه وعشرات الآبار التي يتراوح حجمها من عشرة امتار مكعبة الى الى 500 متر مكعب. ناهيك عن تدمير اكثر من 30 كلم من مواسير الري و25 بئرا، وخزان مياه.

وجرى تدمير 14680 دونما في المرحلة الأولى من اجل بناء الجدار توزعت على احدى وخمسين قرية وبلدة تضررت بنيتها التحتية في المحصلة.

عبد الرحمن التميمي، احد اعضاء مجموعة الهيدرولوجيين الفلسطينيين يرى ان طريق الجدار تتطابق مع واقع هيدرولوجي وليس مع واقع جغرافي للمنطقة ما يعني نية السياسة الإسرائيلية في مصادرة الأرض والمياه.

اياد رابي ، المدير العام للأهالي نبه الى ان تبعات بناء الجدار تتعدى شكله المادي، إذ يمهد لسياسة فصل عنصري تجري على ارض الواقع، اسوأ ما فيها دفع المزارعين قسرا الى هجرة اراضيهم (التي يضعف انتاجها نتيجة عدم فلاحتها) وتحويلهم من منتجين مستقلين واصحاب اراضي الى قوى عاملة تابعة ورخيصة.

كانت محطتنا التالية كفرصور. يفصل بينها وبين اراضيها الجدار ومستوطنة سلعيت وتجد في مدخلها منطقة صناعية مؤلفة من مصانع ومنجرة كبيرة، يعمل فيها نجارا الشاب محمود ابن كفرصور بينما تمتد اراضيه امام ناظريه..." تواجهنا معوقات كثيرة تمنعنا من فلاحة الأرض والعناية بها. بداية التصاريح فأنا املك منها ثلاثة واحد للدخول للمستوطنة والثاني للعمل في المنجرة والثالث للعمل في ارضي، ومع ذلك انتظر احيانا كثيرة ثلاث ساعات متواصلة عل الحاجز! اما الآخرون فمحتجزون داخل القرية خلف السور. اما العقبة الثانية فهي التضييق في فرص التسويق، نحن ممنوعون من تسويق منتجاتنا في السوق الإسرائيلية المحلية، بينما يطالبنا المجلس الإسرائيلي للتصدير بدفع ضرائب باهظة فيصبح التصدير املا مستحيلا ونضطر الى التعامل بأسعار زهيدة في السوق المحلية الفلسطينية، لا يتعدى فيها سعر كيلو البندورة 2 شيكل الأمر الذي لا يغطي سعر التكلفة وهكذا ندخل في دوامة جدوى العمل في الزراعة".

الأعشاب الضارة تعلن عن وجودها بكثافة وعن غياب اصحاب الأرض التي تنتظر البت في مصير ينذر بنشوب حريق محتم في ايام الصيف الحارقة فيدمرها.

نتابع مسار الجدار، لنصل الى قرى عتيل وزيتا ودير الغصون. ومرة اخرى الحكاية ذاتها، فالسياسة تطبق بمنهجية ثابتة تعمق لديك الإحساس بالظلم والقهر. تمتد امامنا اراض تنادي اصحابها الممنوعين من دخولها، خطوط مياه مدمرة واعشاب ضارة منتشرة وطرق شبه معدومة. مشروع التأهيل الجاري تنفيذه يتصدى لهذا الإجرام جزئيا، فالمشروع محدود والعمل كثير. من هنا سرنا نحو باقة الشرقية التي تفصل اسلاك شائكة كهربائية بينها وبين اراضيها الزراعية الخالية من اليد العاملة والسبب بات معروفا.

حتى الآن لم نلمح الجدارالإسمنتي، لكننا شاهدناه عند نزلة عيسى يتحدانا بسخرية هو وجنوده المتخندقين في جيباتهم العريضة التي توحي بالقوة والجبروت والطغيان، تماما كما يفعل الجدار، واتذكر كلمات الشاعر عن الجدار مشبها اياه بـ".. الساطور الغائر في لحم الضفة.." انه غائر في اللحم ووصل العظم، والرأي العام غافل، يتابع يومياته ببلادة مستهجنة.

مأساة قفين فريدة في بعض التفاصيل لكنها تمثيل مصغر لحال فلسطين. عرفت هذه القرية يوما حدودا لها تشتبك مع مدينة الخضيرة، اليوم بقيت مع عشرة آلاف دونم وتسعة آلاف نسمة يعتمدون على الزراعة في معيشتهم وخصوصا فرع الزيتون.

في قفين اتلف الجدار 500 دونم وسطا على 4000 آخرين ملاصقة لكيبوتس ميتسر المجاور والقائم اصلا على اراضي قفين.

اربعمائة مزارع عزلوا عن اراضيهم الغالية مصدر رزقهم وقوتهم الوحيد. وبما اننا جئنا من الغرب فقد تفضل علينا اصحاب الكيبوتس وفتحوا لنا البوابات لندخل عبرها ونعاين ارض قفين المعزولة عن اهلها، تعبيرا عن استيائهم لمسار الجدار وتضامنا مع اهل قفين في استعادة ما سلبه الجدار من الجيران على حد وصفهم.

تيسير هرشي رئيس بلدية قفين كان بانتظارنا، هو ايضا يريد ان يتنبّه الرأي العام للمآسي التي يخلقها الجدار بمساره الحالي المتعرج وفق الأهواء والمصالح الإسرائيلية الراضخة لأصوات قيادة المستوطنين، ويشدد على اهمية ان يلتزم الجدار على الأقل بحدود 1967.

وقال:" الجدار سدد لنا ضربتين في وقت واحد، فمن ناحية فقد العمال اماكن عملهم في الداخل الإسرائيلي، ومن ناحية اخرى، وهذه اقسى، فقدوا ارضهم مصدر دخلهم الوحيد الذي يمكن التعويل عليه. ارتفعت نسب البطالة الى 80% في قفين وهذه وسيلة ضغط على الأهالي لترك المكان والتوجه نحو العمق الفلسطيني للبحث عن اسباب الحياة. فالحياة هكذا لا يمكنها ان تستمر".

ونوه الى الدور الكبير الذي تلعبه الأمم المتحدة والصليب الأحمر والغذاء العالمي في ادارة حياة الناس وتنفيس الضغط من خلال اربعة برامج تشغيل. هرشي،وجه شكره للجمعيات وعلى رأسها الأهالي مؤكدا على اهمية مشروع التأهيل الذي وفر فرص عمل للشباب من خلال توفير ادوية ومواد رش لمساحة 2500 دونم، اضافة الى مرشات ظهر ومقصات شجر ومناشير لتقليم الأشجار.



لم يخل النهار من مفاجأة عذبة، علمنا بأمرها عندما تم توجيه الشكر لها، فلولاها، قالوا لنا لما خرج هذا اليوم الى حيز التنفيذ.

انها مهندسة زراعية اردنية، تدعى رزان زعيتر، تعمل في منظمة " العربية لحماية الطبيعة"، وهي منظمة غير ربحية. في الواقع، ليست الصدفة وحدها او المهمة الرسمية من حمل الينا السيدة رزان، فهي تنتمي الى اصول فلسطينية ممتدة، والدها الصحفي والكاتب اكرم زعيتر من رواد الصحافة الفلسطينية قبل حرب 1948 . هي نفسها من مواليد نابلس، وارتأت جمعية السوار العكية اغتنام فرصة زيارتها للبلاد لتكريم والدها الذي كان يعمل مدرسا في عكا.

تهمني الزراعة والأشجار كثيرا، نعمل بإطار الجمعية على اصلاح التربة في الأردن وتشجيرها، لكن لاحظنا ان هناك اساءة كبيرة ومنهجية للزراعة في الضفة وغزة.

تابعنا الموضوع من خلال البيانات التي تنشرها وزارة الزراعة الفلسطينية التي توثق الخسائر في الأبيار والمزارع. فقررنا المساعدة بإعادة الزراعة واعادة تأهيل الأراضي عبر تجنيد الأموال الضرورية من الجهات المتخصصة. ولدينا عدة شركاء من الداخل والخارج، فالأمم المتحدة مهتمة بالموضوع وكذلك عدة جمعيات تهتم بالبيئة. بالداخل الفلسطيني نتعامل مع جمعية الأهالي والإغاثة الزراعية واتحاد لجان العمل الزراعي وآخرين، اضافة الى جمعيات عربية في الخارج ونحن بصدد العمل على توسيع دائرة المهتمين.

نحن نقوم بمتابعة وجمع المعلومات ونبادر الى دراسات وابحاث لرصد الخسائر والحركة التدميرية الجارية، نتوجه لصناديق الدعم ونبني برامج توعية ونطلقها في العالم كافة. اما بالنسبة للعقبات فالمهمة الرئيسة تتمثل باختراق الرأي العام العربي في العالم العربي الذي لايعرف كثيرا عن هذا التدمير، تدمير الأرض والشجر.

نعمل بكثافة ومنهجية على اطلاع الجميع عربا وغير عرب ويصيبهم الذهول لدى انكشافهم الى حقيقة ما يدور ضد الإنسان الفلسطيني وضد الشّجر. نهجنا العلمي في تعاطي الموضوع يكسبنا الثقة والمصداقية اينما توجهنا، وبالتالي نجد تجاوبا كبيرا، لكن يلزمنا كعرب عامة بعض الوقت للإعتياد على فكرة العمل التطوعي والعمل كفريق، بيد ان الموضوع هذا في تحسن مستمر.
بدأنا العمل عام 2001 ،النتائج على ارض الواقع طيبة وتحثنا على مواصلة المشوار، فنجاحنا يتمثل بتجنيد الأموال التي رصدت للمشاريع الجاري تنفيذها منها الزراعة في غرب الجدار او في النقب وكذلك في فلسطين 67 .

نتحدث عن 350,000 شجرة من كل الأنواع : لوزيات وحمضيات وزيتون، وقد تم ذلك بالتعاون مع الأطراف كلها، بما في ذلك جمعية الإغاثة ومؤسسة التعاون. وانا الخص دور فريقنا التطوعي في الجمعية العربية لحماية الطبيعة كعامل اساس في توجيه الأنظار والدعم الفعلي للأرض وللمزارع، ففي السابق لم يحظ هذا الموضوع بأي اهتمام الا نادرا.

التعليقات