لفتا المهجّرة... ذاكرة طفل منكوبة بالنار والعصابات الصهيونيّة

"كل ما نحتاجه كان متوفرا من الأرض والحلال، وبين عشية وضحاها أصبحت لاجئا مع عائلة تطرق الأبواب بحثًا عن طعام أو ملابس"..

لفتا المهجّرة... ذاكرة طفل منكوبة بالنار والعصابات الصهيونيّة

يتسلقُ ويمشي ويقطفُ من ثمارِ قريته التّي طالما أحبّ، يتحسسُ شجرها وحجرها ويشتمُّ عذب طيبها، ورغم أنّه لم يسكنها إلا 8 سنوات، إلّا أنّها استطاعت أن تسكنه كباقي المدن والقرى الفلسطينيّة التي مازالت حيّة ترزق في صدورِ مهجريها، ولو بعد عقود، سواء في الوطن أو الشتات، فعشق يعقوب عودة بلدته لفتا، الواقعة غربيّ القدس، بعد أن هُجّر منها قسرًا.

يعقوب عودة، هو رئيس هيئة حماية الموروث الثقافي لبلدة لفتا المحتلة منذ عام 1948، ولد عام 1940 في بلدة لفتا، وهو واحد من بين 40 ألف نسمة هجروا من لفتا على يد العصابات الصهيونيّة، التي منعت عودتهم إلى منازلهم وبشرعنة دولة اسرائيل ومؤسساتها.

من الذاكرة

عن لفتا العالقة في ذاكرة الطفولة، يفيد عودة عرب 48، بأنّه يستذكر منزله الذي رأى به النور لأوّل مرّة وهو بيته الذي تم هدمه على يد الاحتلال ويعود لعائلة رشيد صيام، وفي محيط منزله كانت منازل أقاربه، وبلدة تكسوها الأشجار، والحواكير وعيون الماء، وما يذكره ساحة العين ودربها ذهابًا وإيابًا من المنزل، ولعبه على صخور لفتا وجنائن وبساتين وطيور لفتا ومدرسته التي علّمته نشيد لفتا: 'لفتا اسلمي نحن الفِدا  لفتا انهضي رغم العِدا'.

وتابعَ أنّ كل تلك الأيام التي عاشها في لفتا هي أيام جميلة: كنا فيها أطفالاً نلعبُ مع بعضنا البعض من الأقارب والجيران، صبيةً وفتيات.. أاذكر جامع لفتا، والدرب منه إلى المقبرة، وأذكر قبور الآباء والأجداد، وأذكر شجرة لوز كنت أجلس يومًا تحت ظلّها بينما كانت عائلة خالي تعدّ قبرًا لجدتي التي كانت تشرف على الموت، ولكنها ماتت في الشتات مهاجرة ولاجئة'.

عودة المولود في 20/5/1940، ببيت جدّه محمد عودة، الذي اشترك هو وإخوته حسن وإبراهيم في بناء المنزل المكون من 3 طوابق، وقد عرف عودة درب اللجوء في حين كان لا يزال 8 أعوام فقط، إلا أنّه أنهى الصف الأول والثاني في مدرسة لفتا الأميريّة، وهي مدرسة بناها أهل لفتا على أرضهم، وكانت ذهنيّة الناس في تلك الحقبة صافية وبيضاء فالقرية هي عالمهم، لا تلفاز ولا سينما ولا سفر ولا ترحال، فكانت ذاكرته صفحة بيضاء حُفر فيها أحداث الحياة الجميلة، وأيضًا الصفحة السوداء التي خطّتها الحركة الصهيونيّة بعدوانها وغزوها لفلسطين.

النكبة في ذاكرة طفل

يستذكر عودة يومَ كانت أمّه تعدّ النار لتدفئة المنزل، وإذ بالعصابات الصهيونيّة تطلق النار من الجزء العلويّ من لفتا مستهدفين كل الأرجاء، فأخذ شقيقه الأصغر بالبكاء. ويذكر كيف سحبتها الوالدة كي يختبئا تحت الطاولة في زاوية المنزل، كما يذكر أيضًا جنازة شهداء مجزرة مقهى لفتا، لصالح عيسى، حين هاجمها الإرهابيون، وأطلقوا النار فقتلوا 7 من أهل لفتا، وجرحوا عددا آخر. ويذكر مساء جنازة الشهداء إلى العين في الطريق إلى المقبرة، كما يشير إلى شرفة في البيت تطل على معظم لفتا، وشاهد منها النساء والرجال المشاركين في الجنازة.

ويسترسل عميقًا في ذاكرته التي أعرب عن جزء منها أنّه يذكر الناس وهم يصيحون 'طَخوا على المدّانة، طَخوا على المدانة'،، والمدّانة هم أهل القرية الذين كانوا يذهبون إلى مدينة القدس لقضاء حوائجهم في التعليم والصحة والشراء والبيع. فحين سيطرت العصابات الصهيونية على الجزء العلويّ من لفتا مُنعوا من الطريق الاعتياديّة، ووجدوا طرقا التفافيّة بديلة عبر الواد إلى بيت حنينا وشعفاط والقدس. ويضيف: 'يومًا عن يوم كانت العصابات الصهيونيّة تزداد قوّة مع دعم وتسليح الاستعمار البريطاني في فلسطين، فوهبت بريطانيا أسلحتها ومعداتها الحربيّة للصهيونيّة، وزادت سيطرة العصابات على لفتا بالنار، فيزيائيًا كانوا موجودين أعلى البلدة، لكن السيطرة الفعليّة بالنار كانت على كافة أرجاء البلد'.

عن الرحيل

'كانت عائلتي مع عائلات أخرى في داخل البلدة، كانوا يجتمعون ويوقدون النار، وقد اتخذوا أحد هذه المنازل ملجأ لهم لأنها بعيدة عن مكان إطلاق النار. وأذكر يومَ أخذني والدي مع إخوتي واختي، فنزلنا إلى الواد بعيدًا عن عيون العصابات الصهيونيّة المسلحة ، ثمّ تسلقنا الجبل البعيد عن النار، وفي طريقنا أطلقوا النار على والدي وأصابوا لباسه القمباز بطلقتين بين قدميه، ولم يصب بأذى، فواصلنا الصعود حتى رأينا سيارة شحن بها أطفال من عائلات أقربائنا، وهم دار صالح وسليمان والحاج سعيد، فانضممنا إلى هؤلاء الأطفال وسارت الشاحنة، التي تعود إلى الحاج حامد، إلى الغرب، ولم تسر إلى الشرق، فكانت العصابات الصهيونية مسيطرة على مدخل القدس، فذهبنا إلى اللطرون وبيتونيا والبيرة'، هذا ما قاله عودة.

واستطرد أنّه في الطريق كان يرى الجيبات العسكريّة البريطانيّة، ومعها جيبات العصابات الصهيونيّة وبها مسلحون يرتدون الأخضر، وهي ملابس مختلفة عمّا اعتاد عليها في طفولته، فقامت بعض النساء بتغطية الأطفال، فقالت أمّه 'غطيناكم خوف ليقتلوكم'.

وصل عودة البيرة مع عائلات أقاربه، قاصدين منزل إحدى النساء، ليقيموا فيه حوالي أسبوع، مشددًا على أنّهم خرجوا ولم يحملوا معهم أي شيء، وإنما خرجوا بملابسهم فقط، وقد حملوا مفاتيح منازلهم وكلهم ثقة على أنّهم سيعودون في الغداة.

ويتابع 'أبي ظلّ في لفتا يقاوم مع المقاومة، أما نحن فقد سكنّا تحت الشجر في أكثر الأحيان، وليس المنازل، وبدأنا نبحث عن الطعام مع لاجئي قرى فلسطين، لم تكن هناك جمعيّات وهيئات، فذهبنا إلى بلديّة البيرة التي كانت واقعة على طريق نابلس، ثم توجهت الناس إلى معسكر الجيش البريطانيّ في المقاطعة، وكانوا يوزعون على الأطفال المنتظرين الحاملين 'كشكول' أو حديدة أو طنجرة الطعام'.

ويعلّق عودة: 'تصوّروا كيف أن بريطانيا التي مهّدت ورعت هذا الكيان الذي شرّدنا وطردنا، ها هي تعطينا هذه اللقمة المغموسة بالدمّ، هذا ما وجدناه، ولم نجد الملبس والمسكن، وقد خسرنا مدارسنا بسبب عدم استيعاب مدارس قرية البيرة الصغيرة هذا العدد الكبير من اللاجئين، فالنكبة كانت دمارا لحياتنا الاقتصادية والاجتماعيّة والثقافيّة والصحيّة، كانت النكبة ومازالت مستمرة، وهي لم تبدأ منذ عام 1948، بل من العشرينيّات مع وعد بلفور، وها نحن نعيش تحت الاحتلال، في نكبة الأرض والدماء والكرامة المستمرة'.

وختم حدثيه بالقول إن 'الحياة التي عاشها في لفتا، كانت معززة مكرّمة.. كنا كالملوك، وكانت الحياة بسيطة وواعدة، وكل ما نحتاجه متوفر من الأرض والحلال، وبين عشية وضحاها أصبحت لاجئا مع عائلة تطرق الأبواب بحثًا عن طعام أو ملابس. هذه النكبة التي هدرت الكرامة وإنسانية البشر، من قِبل الحركة الصهيونيّة التي دعمتها الأنظمة العربيّة التي لم تقف كمشاهد فقط بل كمساهم في الوقت الذي تشرد فيه أكثر من 800  ألف إنسان، واحتلت أكثر من 700 قرية ومدينة فلسطينيّة، ودمرت منها أكثر 534 قرية ومدينة، هذه النكبة كانت الأنظمة العربيّة مشاركة فيها، وليست مشاهدة فقط، فكانت الجيوش العربيّة التي لا يزيد عتادها عن 24 ألفـ مقابل 71 ألف مقاتل من العصابات الصهيونيّة التي تدرّبت أفضل تدريب في الحرب العالميّة الثانية، ضمن طوابير الجيش البريطاني، ومثلهم 71 ألف مقاتل آخر في الاحتياط.. النكبة هي أنّ هذه الأنظمة العربيّة ما زالت مشاركة في هذا الواقع المنكوب'.

اقرأ/ي أيضًا| لفتا: عبق التاريخ الفلسطيني في مواجهة التهويد

التعليقات