غزة: أن تشتم رائحة الموت وتبقى حيا في الشجاعية

تحدثت وفاء حلّس، لموقع "عرب 48"، حصريًا عن تجربة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وقالت إنه "لم أكن أتخيّل يومًا ما أن نترك منازلنا ونركض تحت القصف للنجاة بأرواحنا، في تلك اللحظة شعرتُ أنّ تجربة النكبة تكررت معنا مجددًا بعد عام 1948".

غزة: أن تشتم رائحة الموت وتبقى حيا في الشجاعية

وفاء حلّس

من قطن حيّ الشجاعيّة في غزة يومًا ما، وخاصةً عام 2014، فإنّه بالتأكيد لم ولن ينسى مرارة العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، ومشاهد الدمار الكارثية بفعل الآلات العسكريّة الإسرائيليّة البربريّة وهي تقصفُ النساء والأطفال والمدنيين العُزّل، بمشاهد أقلّ ما يصفها من عايشها أنّها 'صعبة وقاسية وقاهرة'.

الفلسطينية وفاء حِلّس (29 عامًا)، واحدة من أولئك النازحين من مشاهد الدماء والدمار التي فتكت بحيّ الشجاعية، مسقط رأسها، غادرتْ منزلها كي تنجو بنفسها وبعائلتها، صحفيّة تعملُ حاليًا منسقة لبرنامج التدريب وبناء القدرات في مركز الأبحاث بغزة، تحدثنا عن تجربة الحرب الأخيرة على غزة وما بعدها.

نكبة تكررت عام 2014

بنظرات ترسلها إلى الأفق، ورغم الألم، تحدثت وفاء حلّس، لموقع 'عرب 48'، حصريًا عن تجربة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، وقالت إنه 'لم أكن أتخيّل يومًا ما أن نترك منازلنا ونركض تحت القصف للنجاة بأرواحنا، في تلك اللحظة شعرتُ أنّ تجربة النكبة تكررت معنا مجددًا بعد عام 1948 حين رأيتُ جموع النّاس وهم خارجون بسبب الهلع، النساء المحجبات خرجن من منازلهنّ بدون غطاء الرأس، رغم أنّ لدينا عادات وتقاليد تحكم النساء في زيّها، ولكن حال العدوان غيّرت الكثير من العادات، إذ أنّ بعض النساء كانت ترتدي الحجاب وتخلد للنوم وذلك من منطلق أنّه في حال استشهادهنّ فإنّهنّ يفضلن أن يمتن وهنّ مستورات الجسد'.

وتابعت تتحدث بقوّة عن تجربتها، 'بسبب القصف كنا وعائلتي نتوسّط المنزل ونبتعد عن النوافذ والأبواب لحفظ حياتنا بأمان، ولم يكن لدينا أجهزة راديو أو تلفزيون بسبب انقطاع الكهرباء على مدار أيام متعددة، إضافةً لانقطاع الماء، ولم يكن لدينا إلا الاتصال فقام البعض بالاتصال بي وإخباري بأنّه يتوجب علي أن أترك المنزل وأخرج، وفي لحظةٍ ما أصابتني حالة من الذهول والخوف حين نظرت إلى الشباك ورأيتُ جميع السكان قد نزحوا إلا أنا، عندها حملت ابنتي وخرجت بملابس الصلاة أركض دون أن أعلم إلى أين أذهب، كنا مجموعة من الناس نحاول أن نساعد بعضنا البعض فهناك ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السنّ والأطفال من حولنا'.

الكثير من الناس لم يتسنّ لهم اصطحاب جميع أفراد العائلة معها في رحلة النزوح، تركوا ممتلكاتهم في هدفٍ منهم للنجاة بما هو أغلى، الروح فقط، وعلى هذا تقول حِلّس مشبهةً العدوان على غزة بالنكبة 'لقد مررنا بحروب سابقة عامي 2008 و2012 وهي حروب قاسية، ولكن تعتبر نقطة في بحر حرب 2014، بسبب أنّه لم يكن أي أحد محميّ في هذه الحرب، لا طفل ولا إمرأة'.

اللجوء

وأضافت حلس أن 'غالبية النّاس هرعت إلى المؤسسات والمنازل التي كانت تحتوي في الغرفة الواحدة 50 شخصًا نازحًا، أمّا عن نفسي فوجدتُ منزل أختي ملجأ لي بينما هناك الكثير ممن أُلقوا في الشوارع، ومنهم من احتمى بالمدارس التي كان الصفّ الواحد بها يكتظ بنحو 20 عائلة، مما سبب انعدام خصوصيّة الأفراد والنساء، حتى دخول الحمام كان مهمة صعبة بسبب عدم وجود المياه وعدم توفر الخدمات'.

وتسرد من تجربتها قائلة 'انعدمت أبسط احتياجاتنا الأساسيّة في الحرب، حتى ابنتي في تلك الفترة لم استطع الرعاية بها، ففي لحظةٍ ما أُجبرنا على ترك أطفالنا وعائلاتنا كي نعمل في الميدان لمساعدة النساء والأطفال والنازحين عن طريق المؤسسات المانحة والخيريّة ومساعدتهم بتوفير الملابس لهم لأنّ ما من أحد نزح وأخذ معه شيئا، عملنا على توفير الاحتياجات الأساسيّة لهم كالأغطية والأدوات الصحيّة، وكنا نعمل ليلاً موصولاً بالنهار ونبكي على النّاس المقربين لنا الذين فقدناهم، نبكي على جيراننا وأقربائنا'.

وبأملٍ يشع من عينيها بقوّة، تابعت حِلّس أنّه خلال الحرب كان هناك بيت بالقرب منها وقامت باستقبال جميع أفراده الذين بقوا على قيد الحياة، بعد أن قُصف واستشهد بعضهم، وبهذا كنا نفتح بيوتنا لبعضنا البعض في الحرب.

الاختراق

أمّا عن الهُدن التي كانت تقوم بها إسرائيل، فتقول حِلّس أنّها بعد أن خرجت من بيتها عادت خلال الهدنة إلى بيتها في الشجاعية دون أن تعلم أنّ الجانب الإسرائيليّ اخترق الهدنة، ساردةً أحداث ذلك اليوم 'حين كنت في منزلي اتصلوا بي لإخباري بأن أخرج من بيتي وهنا بدأت الطائرات العسكرية الإسرائيلية بالقصف، خرجنا أنا وزوجي وابنتي (6 شهور) ولم نجد أيّ أحد في المنطقة، حينها أخذنا بمحاولة إيقاف سيارات الإسعاف أو الصليب الأحمر كي تخرجنا من الحيّ لأننا في منطقة غير آمنة، وفي تلك اللحظات وجدنا سيارة إسعاف، فتح المُسعف لنا الباب الخلفيّ للإسعاف ورأينا جثث الشهداء وقد أصابها الانتفاخ بسبب مكوثها لأيّام في الشوارع دون نقلها'، معبرّةً عن هول ذلك المشهد: 'كنا نشم رائحة الموت في سيّارة الإسعاف، أصابتني حالة من الصدمة وبدأت بالصراخ ولا أريد الصعود إلى الإسعاف من أجل ابنتي، فأخذ المسعف بتهدئتي، بعدها أتت جرافة وجلسنا على الحديد الأماميّ إلى أن وصلنا إلى مفترق الشجاعيّة بأمان'.

أما عن الهدنة الثانية، فتتابع حِلّس أنه 'في الهدنة الثانية عُدنا مرة أخرى إلى منازلنا ووجدنا الجثث ملقاة على الأرض في كل مكان، بعد أن مكثت جثث الشهداء 10 أيّام دون استطاعة نقلها بسبب منع الهلال والصليب الأحمر وحتى الصحافة من الدخول'.

وتصف حِلّس الشجاعية حين دخلتها بعد العدوان الإسرائيلي أنّها كانت كوباء مليء برائحة الموت والدمار والقصف، بالقول أنه 'لم تكن تلك الشجاعيّة هي ذاتها التي غادرناها، فالبيوت جرى هدمها وكثير من الناس فُقد، حتى الجثث لم نستطع التعرُّف إليها بسبب تحللها، الجثث لم تعد تحمل ملامح أصحابها، لم نكن نعرف وجوه وأسماء الضحايا ومن هم إلا بواسطة بطاقة الهُوية إن حملها الشهداء قبل استشهادهم، أو بواسطة تعرّف الأهل إلى الزيّ الذي كان يرتديه فقيدهم فقط'.

وتتابع بألم وحسرة، 'عدا عن أنّ العديد من أقربائنا وجيراننا فقدوا أبناءهم تحت الأنقاض، وبعد شهر وشهرين وجدوهم ليكتشفوا أنّهم شهداء، هناك من ذهبَ إلى دفن أحبائه في المقبرة وقصفتهم الطائرات وهناك حادثة استُشهد بها 6 شبان كانوا يحملون شهيدًا آخر لدفنه' وهذا يعني معنى الألم.

رائحة الموت

'بكذبش عليكِ يعني لما فتت على الحيّ وكانت رائحة الموت، قمت بتكميم أنف ابنتي، فقد كانت الرائحة قاتلة ومميتة، البيوت مهجورة والرصاص والشظايا فيها بكل مكان، حتى داخل بيوتنا كان هناك وباء، ممتلئة بالزواحف والفئران ولا يوجد بها نوافذ، عُدتُ إلى بيتي ووجدته متضررًا نوعًا ما، ولكن هناك عدة مناطق في حيّ الشجاعيّة لم تعد موجودة بأكملها حتى اختفت تضاريس المكان كليًا وتم مسحها'، هذا ما عبّرت عنه حلس بحال الدمار الذي خلّفته الحرب.

وأضافت أنّه 'كان هناك ممارسات قذرة لأفراد جيش الاحتلال الاسرائيلي داخل البيوت بكتابة العبارات على الجدران، وتقضية حاجتهم في ملابس النساء، وهناك أفعال قذرة أخرى كانوا يقومون بها في منازلنا. حين انتهت الحرب اختلطت علينا المشاعر، هل نشعر أننا سعداء لأننا ما زلنا على قيد الحياة، أم نحزن على من فقدناهم من أحباء وعلى من تشردوا دون منازل؟'.

اعتبرت أنّ تجربة الحرب كانت قاسية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وحين انتهت أخذنا بزيارة بعضنا البعض وهنأنا من بقي بالقول 'الحمد لله على سلامتكم إنكم عايشين'، 'أصبحنا نواسي من تهدّم بيته بأنّ جاره القريب استُشهد هو وجميع أفراد عائلته بينما بقي واحد منهم أو لا أحد، بعد الحرب بقينا فترات طويلة دون استيعاب ما جرى، دخلنا في حالة من الصمت والذهول لا نعلم ماذا سنفعل، وبتنا نساعد ونواسي ونعزّي بعضنا'، قالت حلس.

سوء الخدمات

وأفادت الغزية وفاء حِلّس أنّ 'الحرب اشتملت على معاناة في الجانب الخدماتي التابع للمستشفيات التي افتقدت للأدوات والمعدات الطبيّة، ففي بعض الحالات لم تكن تتوفر المعدات اللازمة مما أدى إلى بتر أطراف الكثير من الجرحى الذي كان بالإمكان علاجهم بطرق أفضل، كان يستشهد العشرات سويًا في بعض الحالات، مما سبب اكتظاظا في ثلاجات الموت، وبسبب الأوضاع الصعبة كان دفن بعض الشهداء يتم دون أن يودعهم أهلهم، وذلك بسبب عدم تواجد أماكن في الثلاجات، وكذلك عدم إمكانية انتظار الأهل لوداع الشهداء الذي يستغرق وقتًا أطول، مما سبب قهرًا للأمهات والعائلات الذين دُفن أبناؤهم دون أن يقوموا بإلقاء النظرة الأخيرة عليهم'. 

وأشارت إلى أنّ 'مشكلة الخدمات ما زالت قائمة لغاية اليوم، فالناس تموت في المستشفيات الغزيّة بسبب انعدام الإمكانيات والأدوات الطبيّة، خاصةً عندما يُغلق معبر كرم أبو سالم وبيت حانون، فنحن نشعر أننا نعيش في صندوق مغلق، معاناتنا اليوم تتمثل بعدم وجود كهرباء وهو بحدّ ذاته أزمة، ففي بيتي لا خدمة كهرباء إلا كل 3 أيام بمعدل 6 ساعات فقط لا غير، وأنا كامرأة عاملة استغل كل الوقت عند مد بيتنا بالكهرباء، حينها لا نغادر المنازل بل ونعتبر الكهرباء ضيفا عزيزا! هناك مشكلة في المياه كذلك، كل هذا في ظل الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعاني منه الكثير من العائلات التي لا تملك نقودًا لتشتري طعامًا، وهناك عائلات لا تملك شاقلاً واحدًا'.

وتطرقت إلى إغلاق معبر رفح بالقول 'إغلاق معبر رفح الواقع بين قطاع غزة ومصر له أثّر بشكل كبير على حياة القطاع من خلال حرمان الحالات المرضيّة من العلاج وهي معاناة لمواطني غزة الذين يبقون أيامًا تحت أشعة الشمس في انتظار الدخول، وأحيانا يموت المرضى على معبر رفح وهم ينتظرون السماح لهم بالدخول، ولطالما تحدثنا بأنه يجب إنهاء الانقسام فحركة حماس تقول أنّ مشكلة معبر رفح حلّها لدى السلطة الفلسطينيّة، والسلطة تقول أنّ حماس لديها الحلّ، والشعب هو الكرة التي يلعب بها الطرفان'.

على الهامش

الحرب كذلك خلّفت مشاكل اجتماعيّة ونفسيّة جمّة، إذ أنّ نسبة النساء الجريحات ازدادت وزادت معهنّ المعاناة بسبب أنّهن أصبحن من ذوي الاحتياجات الخاصة، هذا ما أشارت له حِلّس، وتابعت: 'هنا وقع على المرأة عنف مضاعف، وهو عنف اجتماعي تمثّل بزواج الزوج من امرأة أخرى أو طلاقها وحرمانها من الأبناء، وهنا تستجلب معاناة النساء اللواتي ترملن إبان الحرب، في أنّهن أصبحن دون معيل للأسرة وأصبحت المرأة هي المسؤولة عن كل شيء في المنزل، خاصةً إن كانت المرأة لا تعمل فقد وجدت صعوبة كبيرة في تدبير الوضع الاقتصادي'.

'كلّ من هو موجود في غزة يحتاج الدعم النفسي، وذلك بسبب ما عايشناه من مشاهد، ومن إحدى القصص التي أثّرت بي شخصيًا هي حكاية امرأة عمرها أكثر من 100 سنة، من منطقة خزاعة في خان يونس، طلبت من الجنديّ أن تشرب الماء، ولكنّه أطلق عليها الرصاص بدلاً من أن يسقيها الماء'، وتتساءل 'امرأة مسنّة كهذه ماذا فعلت؟ ما هو الخوف منها؟'.

واختتمت حِلّس حديثها رغم مشاعر الألم التي تكدّست في أعماقها، والإصرار على الحياة الظاهر في ملامحها، أنّها تتمنى أن لا تكون هناك حرب قريبة على الأبواب رغم أنّ جميع المعالم تشير إلى حرب آتية لا يعرف موعدها، ولكن لم يبقَ إلا أن تكون هذه حرب إبادة جماعيّة، معبّرةً 'يعني خلّصنا مضلش حدا'.

وتستطرد أنّ أكثر 'شيء مزعج ومحزن لأي إنسان هو مشاهدة جثث النساء والأطفال الشهداء'.

اقرأ/ي أيضًا | "غزيّات في الدّاخل" يكسر الحصار ويستعرض أحوال نساء غزة

التعليقات