صفحات مظلمة من التاريخ الألماني...

كانت مارتينا قد احتجزت في هذا المكان قبل 40 عامًا، حيث تعرضت للإذلال على مدى ثلاثة أسابيع، على أيدي أطباء وممرضات عندما كان عمرها 15 عامًا، وبعد 40 عامًا، أشارت بلانكنفيلد إلى نوافذ أحد المستشفيات وقالت "نعم... هذه هي النوافذ".

صفحات مظلمة من التاريخ الألماني...

كانت مارتينا قد احتجزت في هذا المكان قبل 40 عامًا، حيث تعرضت للإذلال على مدى ثلاثة أسابيع، على أيدي أطباء وممرضات عندما كان عمرها 15 عامًا، وبعد 40 عامًا، أشارت بلانكنفيلد إلى نوافذ أحد المستشفيات وقالت "نعم... هذه هي النوافذ".

هي تعرف الزجاج السميك، والقضبان الحديديّة، تعرفها بعد أن أصبح عمرها 54 عامًا، أمام قسم المستشفى الذي كان آنذاك خاصًا، بالمصابين بالأمراض التناسليّة، في حي برلين بوخ، شمال العاصمة الألمانية برلين. حيث تذكرت أنّها في ذلك الوقت، حاولت قتل نفسها.

دخلت الفتاة مارتينا مستشفى الأطفال ومن هناك أخذها موظفو مكتب الناشئة إلى مستشفى بوخ دون أن تدري ماذا سيحدث لها. وأكدت بلانكنفيلد أنها لم تكن أبدا مصابة بأحد الأمراض التناسلية.

ما عاشته مارتينا بلانكنفيلد عام 1978 كان نظاما معمولا به بشكل منهجي في ألمانيا الشرقية آنذاك، حيث كانت السلطات الصحية تحتجز الآلاف من الفتيات والنساء فيما يعرف بالأقسام التناسلية المغلقة بزعم إصابتهن بأمراض تناسلية، وظل الأمر كذلك حتى سقوط جدار برلين وزوال ألمانيا الشرقية.

كانت مثل هذه الأقسام موجودة في مستشفيات معظم المدن الكبيرة بألمانيا. وكانت واحدة فقط من بين كل ثلاث نساء يتم إدخالهن هذه الأقسام مريضة، وذلك حسب وصف الأطباء المعالجين بالفعل في أحد المنشورات العلمية.

لم تعد بلانكنفيلد ذات الشعر الأسود والضفائر البيضاء فوق منطقة الجبهة والصوت العميق المتأثر بالتدخين تجد صعوبة في العودة لمكان المستشفى في بوخ.

حتى وإن لم يعد هناك في هذا المكان ما يذكر بمعاناة بلانكنفيلد، عندما كانت تشعر وكأنها "محشورة" في غرفة بها ستة أسرة، حتى وإن لم يعد في هذا المكان شيء يذكر بالأسرة المثبتة في الأرضيات وبالإذلال الذي كانت تتعرض له يوميا على كرسي أمراض النساء "فهناك شعور دائم بالتعرض للتهديد، لم يكن باستطاعتي آنذاك أن أقول لا، كان على أن أتحمل ما يقع لي".

كان يطلب من الموجودين في هذا القسم يوميا الوقوف في طابور في الساعة السادسة صباحا، كان يؤخذ من جميع هؤلاء أمام أعين الجميع ما يعرف بلطاخة عنق الرحم أو لطاخة بابا نيكولا للتأكد من عدم إصابتهن بسرطان الرحم، وهي ممارسة كان ينظر إليها حتى في ضوء الوضع الطبي آنذاك على أنها بلا معنى وبلا جدوى.

كثيرا ما أكدت الفتاة بلانكنفيلد للممرضات أنها لم تكن مصابة بشيء، ولكن اعتراضاتها كانت تجد آذانا صماء.

علاقات جنسية كثيرة ومتنوعة

جاء في تقرير مكتب الشباب عن الفتاة "لها علاقات جنسية كثيرة ومتنوعة"، وذلك على الرغم من أنها لم تصاحب صديقا أبدا حتى ذلك الحين، حسبما أكدت مارتينا بلانكنفيلد، ولكن زوج أمها أساء معاملتها جنسيا عندما كانت صغيرة.

ما الذي يدفع دولة لاحتجاز فتيات ونساء بأعداد هائلة على مدى أسابيع وبدون سبب طبي في أقسام مخصصة للمصابين بأمراض تناسلية؟

يجيب المؤرخ الطبي الألماني فلوريان شتيجر، الذي بحث هذه الأقسام والتقى بعشرات النساء اللاتي احتجزن بها وتحدث معهن وكتب كتابين عن ذلك، "كانت الدولة تريد من ذلك تعليم النساء اللاتي لم يكن يتوافقن مع التصور المثالي لألمانيا الشرقية عن النساء الانضباط من خلال سياسة قمعية كانت تعتمد على الثواب والعقاب".

وكانت هناك أقسام مستشفيات تنص بالفعل على نوع العقوبة حيث كانت مستشفى مدينة هاله، على سبيل المثال، يجبر النساء اللاتي يعصين الأوامر على قضاء الليل فوق مقعد بلا مسند في ممر القسم أو يتم احتجازهن في غرفة انفرادية أو يحرمن من الطعام.

كان متوسط أعمار هؤلاء النساء 22 عاما وأصغرهن 12 عاما...

كثيرا ما كانت الفحوص التناسلية اليومية تتم بفظاظة متعمدة لأهداف تربوية. وكانت النساء يتلقين عقاقير طبية دون أن يعلمن سبب تعاطي هذه الأدوية. لا يزال معظم هؤلاء النساء ينتظرن التعويض جراء ما لحق بهن في هذه الأقسام.

لم يكن التعامل الصارم والحاسم ضد الأمراض التناسلية شيئا غريبا في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث كان هناك خوف كبير من الإصابة بالزهري والسيلان، اللذان قد يصيبان بالشلل.

الحد من العدوى

لذلك فإن قوى الاحتلال في ألمانيا لجأت لإجراءات للحد من العدوى. وفرضت السلطات السوفيتية في الفترة بين عامي 1945 و1974 إجراءات للعلاج الإجباري في أقسام مغلقة من الأمراض التناسلية في مناطق شرق برلين التي كانت تخضع لسيطرتها.

ولكن كان يراد لهذه الأقسام أن تكون آخر وسيلة لمعالجة النساء اللاتي كن يرفضن العلاج طوعا، حسبما نص القانون في ألمانيا الشرقية فيما بعد. ولكن السلطات لم تكن تلتزم بالقانون حسبما أوضح المؤرخ شتيجر.

كانت هناك شرطة مخصصة لنقل مثل هؤلاء النساء الشابات اللاتي كن يتسكعن في الأماكن العامة. وكانت مهمة هؤلاء الرجال هي "اصطياد" هذه النساء حسب تعبير شرطي بإحدى محطات القطارات في ألمانيا الشرقية، والذي التقى به شتجير أثناء أبحاثه.

كانت الألمانية باربارا أوست من بين هؤلاء النساء اللاتي تم اصطيادهن. كانت تتعرض منذ صغرها للضرب على يد أمها وأبيها المدمن للكحول. وبعد انفصال الوالدين جاء رجل جديد إلى البيت وكان يتعدى جنسيا على باربارا "لذلك هربت من البيت وكنت أعيش في الشارع، وكنت أنام في القبو، ونمت فوق الأسطح".

وذات يوم التقط رجال شرطة بزي مدني الفتاة باربارا من الشارع، وكانت تبلغ من العمر آنذاك 16 عاما. أعطيت شيئا تشربه ثم استيقظت فوجدت نفسها عارية في قسم الشرطة. تعرضت للاغتصاب حسبما قالت، ثم أخذت من هناك إلى مستشفى بوخ، حيث الأقسام التناسلية المغلقة.

في البداية ظنت باربارا أوست أنها في مستشفى عادي "حيث كنت أرى مرضى طبيعيين تماما عندما صعدت السلم، ثم عطفنا ناحية اليسار، وبدءا من هذا المكان لم يعد هناك شيء طبيعي".

أضافت أوست، "وعندما وصلت الغرفة قيل لي: اخلعي! أمام أعين ممرضتين وطبيبين وشرطيين" ثم حصلت باربارا على بالطو القسم "ثم كانت الصدمة الكبرى"، بدأ صوت أوست يصبح خافتا عندما قالت: "الباب، الباب الفولاذي، وكنت أعلم أنني لن أخرج من هنا أبدا، لم يكن هناك شخص يسأل عن مكاني، لم يكن هناك إنسان يعلم أين أنا، ولم أعرف سبب وجودي هنا".

الألم ثم الألم

قضت باربارا أوست أكثر من أربعة أشهر في هذا القسم المغلق وفقدت هناك الشعور بالوقت "ولم يكن يدخل رأسي سوى الألم، لم نكن نرى أو نشعر سوى بما حولنا، وكان ذلك الألم، الألم". أضافت أوست: "كان الجلوس على هذا الكرسي يمثل لي اغتصابا يوميا". كان كل من يرفض ذلك يربط بالكرسي.

حدث ذلك على الرغم من أنه أصبح من الممكن منذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي معالجة السيلان بالبنسلين خلال ساعات فقط، أما مرض الزهري فأصبح يعالج بالمضادات الحيوية منذ منتصف الخمسينيات.

وكانت لقسم النساء في مستشفى بوخ خصوصية حيث كانت تجرى فيه اختبارات تجميل. كانت أقلام أحمر الشفاه وأقلام الكحل تختبر فوق ظهر المريضات "وكنا نهرش بشكل مميت، كنا نعاني من بثور جراء ذلك" حسبما أكدت أوست ضاربة كفا بكف "كنا فئران تجارب لهم، وفهمنا ذلك مبكرا نسبيا".

حاولت أوست الانتحار ذات مرة مستخدمة فرشاة حمام لكسر زجاج إحدى النوافذ المقوى بالأسلاك. وفي مرة أخرى حاولت أوست هي وزميلات لها إضرام النار في أسرتهن "حتى لاحظنا أن ذلك لن يجدي شيئا، إنهم لا يعثرون علينا هنا، إنهم لا يرونا هنا، كل الأماكن مغلقة، لم تكن هناك رقابة على القسم".

التعليقات