حصار الموصل القديمة: نفاد كل ما قد يؤكل

يعاني عشرات الآلاف من المدنيين في منطقة المدينة القديمة بالموصل، شمالي العراق، حصارا خانقا فرض منذ أشهر حرب ضارية بين القوات العراقية والمليشيات المسلحة الموالية لها مدعومة بطيران التحالف الذي تقوده أميركا، ومسلحي تنظيم "داعش".

حصار الموصل القديمة: نفاد كل ما قد يؤكل

(أ ف ب)

يعاني عشرات الآلاف من المدنيين في منطقة المدينة القديمة بمدينة الموصل، شمالي العراق، حصارا خانقا فرض منذ أشهر حرب ضارية بين القوات العراقية والمليشيات المسلحة الموالية لها مدعومة بطيران التحالف الذي تقوده أميركا، ومسلحي تنظيم 'داعش' الإرهابي، والتي يبدو أنها بلغت فصلها الأخير.

وبعد أن نفدت المؤن الغذائية لدى السكان المحاصرين، بدأوا بتناول ما تقع أيديهم عليه من حشائش وأوراق أشجار، وصولا إلى الأوراق التي تستخدم للكتابة وقماش الملابس ولحم القطط، لسد آلام الجوع، الذي يفتك بأجساد الأطفال وكبار السن في المدينة ذات الأغلبية السُنية.

وصارت حياة السكان عرضة للخطر أكثر من أي وقت مضى، مع بدء القوات العراقية، قبل يومين، هجوما واسعا لاستعادة 'المدينة القديمة' من قبضة 'داعش'، الذي يسيطر أيضا على أجزاء من حي 'الشفاء' إلى الشمال من تلك المنطقة، وهما آخر معقلين للتنظيم في الموصل، التي كان يسيطر عليها كاملة منذ حزيران/ يونيو 2014.

آلام الجوع

على مدى أيام من محاولة تأمين اتصالات هاتفية مع سكان في المدينة القديمة بالموصل، صار بالإمكان الوصول إلى أبو جواد، وهو من سكان منطقة الشهوان، إحدى المناطق المحاذية لنهر دجلة في الموصل القديمة.

الرجل، البالغ من العمر 53 عاما، قال إن 'الغذاء، الذي تم تخزينه استعدادا للحرب، نفد قبل أكثر من شهرين، ثم نفدت أوراق الشجر، وبات الناس يعتمدون في سد جوعهم على الأوراق التي تستخدم بالكتابة'.

ومضى أبو جواد في حديثه قائلا: 'أضطر يوميا إلى تجميع أوراق الدفاتر والسجلات التي أمتلكها ثم أمزقها إلى قطع صغيرة جدا ليسهل على الأطفال والنساء تناولها... هذه الأوراق تساعدنا على إيقاف ألم الجوع، الذي يفتك بنا ويعذبنا ليل نهار... ونتناول الأوراق مرة واحدة خلال اليوم حتى لا نتعرض للتسمم'.

وأوضح أن 'هذا الواقع ألقى بظلاله السلبية على الأطفال والنساء وكبار السن وحتى الرجال، فالأطفال نحلت أجسادهم وصفرت وجوههم، وباتوا لا يقون على الحركة، والنساء والرجال أصبحوا كالهياكل العظمية المتحركة، لفقدانهم الكثير من الوزن؛ بسبب سوء التغذية، وكبار السن يعانون الأمرين من الجوع والمرض'.

لم يتوقف أبو جواد، ولو للحظة، عن البكاء، مشددا على أن 'جميع أطراف النزاع لا تحترم حياة المدنيين؛ فالتنظيم يقتل عشوائيا، والقوات البرية العراقية تقصف عشوائيا، والطائرات الحربية تنفذ أغلب غاراتها دون مبالاة بالخسائر بين مدنيين لا حول لهم ولا قوة في كل ما يجري سوى أن قدرهم حتم عليهم ان يكون شاهدين لا أكثر على هذه الحرب الشعواء'.

على وشك الموت

وتعيش أم علي مأساة حقيقية وهي ترى يوميا أطفالها يصارعون ألم الجوع في منزلهم الصغير بمنطقة المكاوي في المدينة القديمة من الموصل، مركز محافظة نينوى.

الأم العراقية قالت إن 'ابني الصغير محمد، البالغ من العمر ثمانية أعوام، وابنتي مريم تسعة أعوام، وكوثر 11 عاما، يعانون جميعا من جفاف حاد، وهم على وشك الموت؛ جراء سوء التغذية... وقد توقفوا عن البكاء والصراخ، منذ فترة طويلة، حيث تعودوا على ألم الجوع والعطش'.

وأضافت أن 'ابني علي، البالغ من العمر 14 عاما، وابنتي سميرة، ابنة السادسة عشر ربيعا، ووالدهم (المعاق بسبب إصابته بشظية ناجمة عن غارة جوية استهدفت موقعا لداعش بالموصل مطلع 2016) يصارعون ألم الجوع بصمت، فتارة يتغلبون عليه، وتارات أخرى يتغلب هو عليهم فيسقطهم أرضا'.

وشددت أم علي على أن 'الجميع على مشارف الموت، والطرق على أبواب المنازل والتوسل والبكاء للحصول على كسرة خبز أو حتى ورق الكتابة لا ينفع، فمن يملك ورق الكتابة أصبح الآن أشد حرصا عليه لسد جوعه'.

وبألم شديد تابعت الأم: 'أضطر صباح كل يوم إلى إطعام جميع أفراد أسرتي من قماش الستائر والملابس، بعد تقطيعه إلى قطع صغيرة جدا... ويتم هذا بنسبة قليلة جدا، ولمرة واحدة في اليوم، ليبقوا محافظين على حياتهم بانتظار أيهما أسرع: التحرير أو الموت'.

لحم القطط

مجيد الغازي، وهو أحد صائدي القطط في الموصل القديمة، قال: 'عملت خلال حصار الموصل القديمة أعمالا كثيرة، بداية من طحن الحنطة وبيعها، وبعد نفادها، قامت بجمع أغصان أشجار وأوراقها وبيعها، وإثر نفادها هي الأخرى، أصبحت اصطاد القطط وأوزع لحمها مجانا لتناوله وهو نيء'.

وتابع الغازي: 'يوجد الكثير ممن يصطادون القطط في المناطق الأخرى، ويبيعون الكيلو غرام الواحد من لحمها بـ40 ألف دينار (حوالي 34 دولارا أميركيا).

وشدد على أن 'الوضع كل يوم يكون أسوأ من الذي قبله، وأي تأخر في عمليات تحرير الموصل قد يؤدي إلى كارثة إنسانية لا يحمد عقباها'.

ووفق أحدث تقدير لمنظمة الأمم، صدر الأسبوع الماضي، فإن أكثر من 100 ألف مدني عراقي محتجزون لدى مسلحي 'داعش' وسط الموصل القديمة، بمثابة دروع بشرية.

وتتكون المدينة القديمة من 53 محلة صغيرة، على مساحة ثلاثة كيلومترات مربع، ويرجع تاريخ بنائها إلى عشرينيات القرن الماضي، وتمتاز بمنازلها الصغيرة المتهالكة، وتشعب شوارعها الضيقة، التي لا تسمح بمرور سيارات.

وتصعب هذه العوامل من عملية استعادة السيطرة على المدينة القديمة، ضمن الحملة العسكرية مستمرة منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لتحرير الموصل من 'داعش'.

الأسوأ في التاريخ

وقال طبيب إخصائي جراحة عامة، فضل مناداته بكنيته، أبو زهير، وقد اقتاده 'داعش' معه إلى المنطقة القديمة ليكون أحد المشرفين على علاج جرحاه جراء المعارك: 'تمكنت حتى الآن من توثيق وفاة 13 مدنيا، بينهم نساء وأطفال؛ جراء انعدام الطعام والماء والدواء'.

وشدد أبوهير على أن 'هناك الكثير من المدنيين على شفا الموت المحتم، في حال استمر الوضع على ما هو عليه لفترة أطول'.

وختم بأن 'عمليات دفن الضحايا تتم في باحات المنازل أو الجوامع، على أمل انتهاء العمليات العسكرية، ونقل الرفات إلى الأماكن المخصصة لدفنها... الواقع الإنساني للعائلات المحاصرة في المدينة القديمة يمكن أن يعد الأسوأ في التاريخ الحديث'.

 

التعليقات