20/08/2022 - 20:50

روضة غنايم تستعيد ذاكرة حيفا.. أحياء بيوت وناس

في أماكن أخرى في حيفا الأمر يتطلب منك أن تتخيل كيف كان المكان، على سبيل المثال البلدة التحتا، كما أن هناك عملية هدم وطمس للهوية جارية في حي وادي الصليب وحي العتيقة، محطة الكرمل وغيرها.

روضة غنايم تستعيد ذاكرة حيفا.. أحياء بيوت وناس

شارع الملوك في حيفا (1934 Gettyimages)

كتاب روضة غنايم "حيفا في الذاكرة الشفوية.. أحياء وبيوت وناس" الذي صدر مؤخرا في إطار "سلسلة الذاكرة الفلسطينية" عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يروي تاريخ المدينة عبر سرديات الناس، ويسلط الضوء على قصة مدينة حيفا وتاريخها من زاوية مخزون ذاكرة أهلها، ويرى تحولات المدينة من خلال سردية أهلها، حيث روى الناس تجاربهم حينما تمكنوا من العودة إلى بيوتهم بعد انتهاء المعارك في عام 1948، فوصفوا حالها بعد عودتهم إليها؛ إذ تعرضت للغزو والنهب والتدمير، وتحدثوا عمن استولى على بيوتهم، وماذا فعلوا من أجل استرجاعها.

وتختلف الأحياء الخمسة التي يروي الكتاب قصتها (وادي النسناس، عباس، العتيقة، وادي الصليب والألمانية) بعضها عن بعض أحيانًا، وتتشابه في أحيان أخرى، فهناك روابط تجمع بين تلك الأحياء، وفوارق كانت قائمة على الانتماءات الدينية، أو العرقية، أو الطبقية.

غلاف الكتاب

في الجزء السفلي من حيفا ذات الطبيعة الجبلية المدينة تركزت المتاجر والأسواق والميناء والسكة الحديدية وورشة الحرفيين، فأسس حيّ وادي النسناس، مثلًا، سكانُه العرب المسيحيون في نهاية القرن التاسع عشر، وأغلبية من سكن الحي كانوا عائلات من الطبقة العاملة، وقسم كبير من مباني الحي الحجرية بُني بعفوية، منها ما بناه سكانها بأيديهم؛ نذكر على سبيل المثال بيت رجا بلوطين.

والحي اليوم يشبه مشهدًا قرويًا، يظهر كأنه قرية عربية صغيرة في داخل المدينة الكبيرة. وأما حي "عباس" الذي نشأ في فترة الانتداب فقد بُني في الجزء الأوسط من الجبل، فطابع الحي كان أكثر مدنية، وإلى اليوم تشهد البيوت الحجرية الكبيرة والجميلة على وضع سكانها الأصليين، وتدل على انتمائهم إلى الطبقة الوسطى الثرية.

أما العتيقة، فقامت على أنقاض حيفا القديمة أيضًا في القرن التاسع عشر، وتطورت في فترة الانتداب على إثر مرور سكة الحديد عبرها، اليوم يوحي الحي بمكان منكوب، وقد زلت الأحياء العربية على مر الأعوام عن الطبيعة؛ فعلى سبيل المثال حي العتيقة يقع على البحر، وكان سكانه صيادي سمك، لكن توسيع الميناء قطع الوصول إلى البحر، واليوم يمر الحي بعملية تدمير، وقريبًا سيندثر ليقوم مكانه حي جديد ويعاني حي وادي الصليب المصير نفسه، وهو في حالة انقراض وطمس، فيشبه القرى المهجّرة، ويذكّر بالقرى في ضواحي القدس.

يعرض "حيفا في الذاكرة الشفوية"، بطريقة مباشرة، نحو أربع وأربعين سردية شفوية تمثل شهادات دامغة على التهجير القسري وعلى معاناة ما بقي في المدينة من بشر وحجر في ظل موجة التهويد الجارفة التي بدأت فور احتلالها.

الباحثة روضة غنايم

لإلقاء مزيد من الضوء حول موضوع الكتاب وبيوت حيفا وناسها كان هذا الحوار مع الباحثة روضة غنايم.

"عرب 48": تتبعت قصة بيوت وناس سكنتها في الماضي وتسكنها اليوم وشكلت منها صورة كاملة عن واقع حيفا قبيل النكبة وعن المأساة التي حلت بأهلها في الـ48 وعن حياة المعاناة التي عاشتها البقية الباقية منهم؟

غنايم: الذاكرة بما تمثله من مخزون تاريخي كانت دائما تثير شغفي وقد سعيت لجمع الرواية التاريخيّة الشفويّة المتعلقة بنكبة حيفا لأعرف حقيقة ما تكشفه أو تحجبه الأرشيفات العسكريّة الإسرائيليّة عن هذا الموضوع.

الذاكرة عموما هي شهادة إنسانية حية على أحداث وتاريخ والذاكرة الفلسطينية شاهدة على مسيرة شعب برمته، فهي رواية الناس الذين ولدوا وعايشوا أحداث النكبة، والرواية الشفويّة تحتل أهمية كبيرة لدى الباحثين والمؤرخين، قد تأخذهم إلى وقائع لم ترد في المصادر المكتوبة.

والبحث في تاريخ فلسطين وتاريخ نكبة عام 1948، يستوجب الربط بين التاريخ المكتوب الموضوعي -الماكرو ستوريا والذاتي- المايكرو ستوريا لبناء تصور أشمل وأكثر صدقا عن الأحداث التي جرت وقتئذ، أي سرد رواية المهزومين من مستوى الفرد الشاهد على الحدث إلى مستوى الجماعة، كما أن سرد الرواية الشفوية أو الشهادة الشفويّة وتدعيمها بمصادر ومراجع أوليّة وثانوية من وثائق، أدبيّات تاريخيّة، أبحاث ودراسات وسير ذاتيّة، يقدم قراءة شاملة وربما متكاملة للأحداث التي جرت في عام 1948.

"عرب 48": ومتى بدأت الاهتمام بقصة أحياء حيفا وناسها؟

اهتمامي بالتاريخ الشفوي عموما بدأ في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وفي عام 2011 بدأ اهتمامي بمدينة حيفا، بوصفها مكانًا أعرف من خلاله تاريخ نكبة عام 1948 وتفاصيلها كما جاء على لسان من قابلتهم من الجيل الأول والثاني، كذلك فإن استحضار هذه السرديّات يساهم في تعزيز التجربة وإيصال الصوت الإنساني التفاعلي، كون هذه التجربة تعتمد على مشاعر وسيرورة حيوات إنسانيّة تم إسكاتها.

أما البحث في مدينة حيفا فقد بدأ بالإضاءة على مكان مهمل ومظلم في حيفا، لكنه، في الوقت ذاته، هو جزء مهم من المسيرة التاريخية الخاصة بالسكّان العرب الفلسطينيين في المدينة، وهو حارة أرض الرمل، التي كانت تُعرف بحارة "التنك" والتي هُدمت في عام 1967 حيث تعرفت إلى هذا الحي في إطار نشاطي في مشروع " 250 عاما على حيفا الجديدة" وبعدها توسعت وشرعت أوثق بالكاميرا والقلم سرديّات الحارات العربية في حيفا وتاريخها.

ومنذ بداية عملي اهتممت بالمشهد البشري في المدينة الذي تغيّر ويتغيّر باستمرار مع مرور الزمن، كما يوصف من خلال سرديّات حياة الناس اليومية والاجتماعيّة، والشوارع والبيوت مرتبطة بحياة الناس.

وقد شرعت في البحث عن تاريخ تلك الشوارع والبيوت، فكثير من شوارع المدينة كانت تحمل أسماءً عربية قبل عام 1948، وثمة بيوت عربيّة هُدمت أو أصبحت خرابًا، وبيوت رممت وتستخدم لأغراض أخرى، مثل مرافق تجارية وسياحيّة، ومنها ما أصبح بيوتًا سكنيّة لغير السكّان الأصليين، وجميع هذه البيوت كانت ملكا لعائلات عربية هُجرت في عام 1948، وأصبح أبناؤها لاجئين في دول أخرى، أو داخل الوطن، أو حتى داخل مدينتهم حيفا بعد أن اضطروا إلى مغادرة أحيائهم ومنعوا من العودة إليها.

"عرب 48": أي أن إسرائيل لم تكتف بتهجير الناس من بيوتها بل منعتهم من العودة إليها لاحقا حتى لو كانوا قد لجأوا إلى حي مجاور داخل مدينتهم؟

غنايم: وحتى من بقوا في بيوتهم داخل أحيائهم جرى إخراجهم منها بعد احتلال المدينة، وتجميعهم وتركيزهم في حي وادي النسناس.

هؤلاء الناس عايشوا النكبة وحرب الـ48 وشهاداتهم تعتبر مصدرا هاما وهي أولوية نستطيع من خلالها فهم ما حدث للمدينة عامة في هذه الفترة، من ناحية أخرى ما زال في مدينة حيفا مبان معمارية حجرية تعود لعائلات فلسطينية أصلانية، على سبيل المثال وادي النسناس وحي عباس ما زالت مبان هذه الأحياء قائمة وهذا العامل يساعد في عملية البحث والدراسة، من جهة نستمع إلى الإنسان الذي يروي قصته الذاتية ومن ناحية ثانية نشاهد العمران بدل أن نتخيل كيف كان هنا.

في أماكن أخرى في حيفا الأمر يتطلب منك أن تتخيل كيف كان المكان، على سبيل المثال البلدة التحتا، كما أن هناك عملية هدم وطمس للهوية جارية في حي وادي الصليب وحي العتيقة، محطة الكرمل وغيرها.

"عرب 48": يظهر أن البداية كانت الاهتمام بالبيوت ومن ثم انتقلت إلى القصص الإنسانية التي ضمتها حيطانها؟

غنايم: نعم، كنت أتجوّل في وادي النسناس، مثلا، أتفرج على البيوت والشرفات والشبابيك وسط نوستالجيا وحنين كبير للماضي، ثم بدأت أتبادل أطراف الحديث مع الناس الواقفين على شرفات البيوت، فأسأل لمن هذا البيت فيأتي الجواب هو بيت فلان الذي هجر في الـ48 ونحن سكناه بعد أن هجرنا من الحي الفلاني أو البلدة الفلانية، ومن هنا تطور الحديث العابر إلى مقابلات موثقة ومسجلة لغرض البحث.

الفترة الأولى كانت طويلة فقد كان علي أن أكوّن الصورة الأولية وأن أتخلص من الاستغراق في النوستالجيا، حيث كنت أذهب إلى ساحة الحناطير أسمع قصصا عن السفر بالحنطور إلى الناصرة والشام وعن سوق الشوام. كنت أعيش هذه القصص واستغرق معي فترة حتى استطعت التعامل معها بموضوعية والتعامل معها كمادة للبحث.

"عرب 48": أخذت خمسة أحياء منها حي غير عربي وهو حي الألمانية، هل تم اختيارها صدفة أم هي عينة تمثيلية؟

غنايم: في البداية فكرت بأن أكتب عن كل أحياء حيفا ولكن عندما أدركت أن هذا عمل ضخم أخذت خمسة أحياء متنوعة، مثلا حي العتيقة هو حيفا القديمة القرية التي بناها ظاهر العمر قبل أن يهدمها ويبنيها من جديد بصيغة حيفا الجديدة.

هذا الحي الذي هو في طريقه إلى الاندثار رأيت أن أكتب عنه وبعض أناسه كبار السن الموجودين ليرووا قصة الحي، كذلك حي وادي الصليب الذي هدم 80% منه، وسكانه غير موجودين لأنهم هجروا في الـ48 واستوطن في بيوتهم يهود شرقيون جرى إخلائهم في الستينيات أيضا.

وأخذت حي وادي النسناس لأنه يمثل قلب حيفا وهو حي قديم بناه السكان بأيديهم، واستوعب بعد النكبة الكثير من المهجرين من حيفا وضواحيها، ثم حي عباس الذي يمثل الطبقة الوسطى الحيفاوية، واخترت حي الألمانية رغم أنه لم يسكنه عرب قبل الـ48 لأن الكثير من العرب سكنوا في هذا الحي في فترة التهجير واليوم غالبيته من العرب الذين هجروا من بيوتهم.

"عرب 48": تتبعت قصة البيوت فرويت حكاية البيت وقصة الناس التي سكنته وغابت أو ما زالت، فوقفت مع عبد عابدي وأديب جهشان وغيرهم أمام بيوتهم المهجورة في وادي الصليب ونقلت حكاية إميل توما وقصة استعادته لبيت العائلة في حي عباس على لسان زوجته؟

غنايم: حيفا قصة مدينة كانت عامرة بالناس والبيوت والحياة فتحولت إلى أحياء خربة وبيوت مهجورة وأناس مهجرين ولاجئين في وطنهم وخارج وطنهم، وحتى البقية القليلة الباقية انتزع بعضهم من بيوتهم وأحيائهم الأصلية ومنعت من العودة إليها.

لقد حاولت في المقابلات التي أجريتها مع الناس، وعبر ألبومات الصور العائلية الخاصة بهم، وفي ثنايا جدران بيوتهم، إعادة تشكيل الماضي الذي كان حاضرًا حيًا يومًا ما، ثم صار حنينًا وذكريات؛ وخلال تلك المقابلات أصبحت البلاد مكانًا ملموسًا، وأصوات الناس تملأ الأسواق، وتشكل الحياة في الميناء وعلى الطرقات. فلسطين هي أسماء العائلات، وأسماء المدن والقرى والأحياء الباقية، والشوارع التي طُمست أسماؤها، والأحلام التي انقطعت وتلاشت، هي روايات الناس الذين عاشوا وما زالوا يحملون ذكرياتهم.

حاولت وآمل أن أكون قد نجحت في تقديم شهادة حية لواقع المدينة الفلسطينية التي كانت وما حل بها وبأهلها، مستلهمة مقولة غسان كنفاني في "عائد إلى حيفا"، بأن "عليك أن تدرك الأشياء كما ينبغي وأنا أعرف أنك ذات يوم ستدرك هذه الأشياء، وتدرك أن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها كائنًا من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكّل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه".


روضة غنايم: باحثة فلسطينيّة تعيش في مدينة حيفا، مجال تخصصها واهتمامها في موضوعات التاريخ الشفوي والتاريخ الاجتماعي والذاكرة الحيفاويّة. في عام 2021 بادرت بإقامة مشروع خاص بها "حي وزقاق" الذي يشمل محاضرات وبرامج تعليميّة تثقيفيّة بموضوعيّ "مذكرات الناس والتاريخ الشفويّ". تُرشد جولات تاريخيّة سرديّة في مدينة حيفا ضمن المشروع.

التعليقات