مجزرة "قبية"، والمجرم لم يحاكم حتى اليوم../ د.جوني منصور

-

مجزرة
 
 *  في مثل هذه الأيام من العام 1953 نفذت الوحدة 101 بقيادة اريئيل شارون واحدة من الجرائم البشعة ضد الشعب الفلسطيني، ذهب ضحيتها 69 شهيدًا، وأكثر من 70 جريحًا، وهدم عدد كبير من منازل أهالي قرية قبية.
عكست هذه المجزرة مضي اسرائيل في مسلسل جرائمها من خلال مجازر ومذابح وهدم بيوت واقتلاع أشجار وتدمير البنية التحتية للقرى والمدن الفلسطينية، وذلك لتحقيق فكرة اقتلاع الشعب الفلسطيني عن أرضه، وإحلال مهاجرين يهود وغيرهم مكانهم.
*   "قبية"، حالة من مجموع حالات وأحداث تندرج ضمن مسلسل تصفية الوجود الفلسطيني على الأرض الفلسطينية. والمسلسل لم يتوقف حتى يومنا...

 
 
في الليلة الواقعة بين 12 و 13 تشرين أوّل ـ اوكتوبر عام 1953 قام فدائيون فلسطينيون بتنفيذ عملية فدائية ضد مستعمرة "يهود" قتل فيها عدد من المستعمرين. وفي أعقاب العملية ادعت اسرائيل أنها اقتفت آثار منفذيها التي قادتهم إلى قرية رنتيس القريبة من رام الله، والتي تبعد عن قرية قبية مسافة مقدارها خمسة كيلومترات فقط. وكانت الضفة الغربية تحت حكم المملكة الأردنية الهاشمية في ذلك الوقت. وقدمت اسرائيل شكوى إلى لجنة الهدنة المشتركة في يوم 13 تشرين أول 1953. وقبل أن تقوم الأمم المتحدة المسئولة عن اللجنة المشتركة بالتحقيق في مضمون الشكوى قامت اسرائيل بهجوم كبير على قرية قبية ونفذت جريمة ـ مجزرة رهيبة في سكانها الأبرياء.
 
من خلال مراجعة بروتوكولات اللجنة الأمنية المصغرة (لم تكن رسمية) والتي تكونت من دافيد بن غوريون رئيس الوزراء ومردخاي مكليف رئيس هيئة الاركان العامة للجيش الاسرائيلي، وموشي ديان القائم بأعمال وزير الدفاع الاسرائيلي بنحاس لافون، يتبين لنا أن الشكوى لم تكن إلا لذر الرماد في العيون ولتمويه الخطوات الإجرامية التي ستقوم بها هذه الحكومة.
 
قررت حكومة بن غوريون القيام بما أسمته عمليات انتقامية ضد المتسللين الفلسطينيين والعرب من الحدود الأردنية وذلك بهدف قطع دابرهم وتوفير حماية للمستعمرات الإسرائيلية على طول خط الهدنة بين الضفة الغربية وفلسطين الداخل. ولم تُعرض خطة عملية "قبية" وتفاصيلها على مجلس الوزراء بأكمله لنيل موافقته.
 
ومن قراءة أوامر هيئة الأركان وكذلك أوامر قيادة لواء المركز في الجيش الاسرائيلي يتبين لنا أن الهدف من العملية نسف عدد كبير من البيوت وإصابة ساكنيها، واحتلال القرية مؤقتًا وإلزام السكان فيها بتركها(أي طردهم). وجرى التشديد على تنفيذ هدم وقتل بأعلى الدرجات، والهجوم على قريتي شقبه ونعلين القريبتين لنشر الخوف والهلع بين سكانها وقتل أكبر عدد ممكن منهم ومن الجنود الاردنيين المرابطين فيها.
 
 
·      اريئيل شارون منفذ المجزرة
 
كلف شارون بقيادة الوحدة 101 وكتيبة رقم 890 من المظليين وقوامها 130 جنديا، مدججين بالسلاح وبكميات كبيرة من المتفجرات لتستعمل في نسف البيوت. وفي الليلة بين 14 و15 تشرين أول من العام 1953 تحرك الجنود باتجاه قريتي شقبه ونعلين ولكنها لم تدخل القريتين، وتبين أن ذلك كان بهدف التمويه، إنما تابعت سيرها نحو قرية قبية وفيها نفذوا جريمتهم البشعة.
 
·      المجزرة من بيت إلى آخر
 
وما أن وصل جنود شارون إلى قبية حتى باشروا في إلقاء قنابل يدوية ومواد متفجرة داخل البيوت عبر النوافذ والأبواب التي اقتحموها. وذهب ضحية هذه العمليات 69 شهيدًا فلسطينيًا من الأطفال والنساء من أهالي القرية. وتم نسف وتدمير أكثر من 45 منزلاً.
 
·      تلفيق العملية على موقع سلاح المظليين الإسرائيلي
 
نشر موقع سلاح المظليين على الانترنت خبرًا قوامه 12 سطرًا فقط ملخصًا فيه العملية، محملاً المتسللين كامل المسؤولية. ويضيف أن الذين سقطوا في القرية هم أردنيون وقتلوا بطريق الخطأ وعن غير قصد.
 
·      ماكينة التلفيق الإسرائيلية
 
تحركت ماكينة تلفيق الحقائق وتزوير الصورة التي تقودها دومًا الحكومة الاسرائيلية، فادعى الجنود أولا وذلك بتوجيه من قياداتهم أنهم لم يعرفوا مطلقًا أن مدنيين كانوا في البيوت التي تم نسفها، واعتقدوا أن البيوت كانت خالية. فإذا كانت خالية لما نسفوها فوق رؤوس ساكنيها؟
 
وادعى شارون في كتاب مذكراته أن جنوده قاموا بفحص البيوت أولاً وقبل نسفها على يدهم، للتأكد والتثبت من خلوها من السكان. ولكنه في مقابلة أجرتها معه جريدة يديعوت احرونوت في عام 1992 صرح أن الهدف المركزي من وراء هذه العملية هو قتل أكبر عدد من الناس. وأضاف مدعيًا أن السكان في تلك المناطق كانوا معتادين على عمليات الجيش الإسرائيلي بنسف بيوت عند أطراف القرى، وفي هذه الحالة اختبأوا في البيوت داخل القرية، ولم ينتبه الجنود الإسرائيليون إلى وجودهم.
 
وكذلك صرح نائب قائد الوحدة 101 واسمه شلومو باوم، أن عمليات النسف طالت 43 بيتا في القرية. وادعى أن جنوده عند دخولهم إلى البيوت كانوا يصرخون مطالبين سكانه بالخروج منه. "ولكن في نهاية العملية أخبرنا عن 11 قتيلاً". لماذا لم يخرجوا يا تُرى؟
 
وتأتي حلقة إضافية في مسلسل التلفيق والكذب وتزوير الحقيقة على لسان مصمم المذبحة بن غوريون قائلاً لشارون ونوابه في الوحدة: "أيها الشباب أُهنئكم على عمليتكم المباركة. ولكن آسف أنني لا استطيع أن أعلن ذلك على الملأ". وأضاف بن غوريون قائلا:" لا يهمني رد فعل العالم على العملية، المهم كيف ستبدو المنطقة من بعدها، لأن ما سيحدث سيمنحنا الراحة ويوفر لنا العيش بهدوء".
 
·      تقصير في الجيش العربي في الأردن
 
حتى ذلك الحين كان الجيش الاردني تحت قيادة كلوب باشا (المعروف بـ "أبو حنيك")، وعُرف هذا الجيش بـ "الجيش العربي". فبالرغم من وصول أخبار التحرك العسكري الاسرائيلي إلا أنّ قائد اللواء الثالث البريطاني في الجيش العربي الأردني "أشتون" أخطأ في تقدير أهمية وحجم الهجوم الذي قامت بتنفيذه قوة من الجيش الاسرائيلي في تلك الليلة. ولم يقم اشتون بإعلام مقر القيادة بالذي كان يجري في قبية مما حال دون وصول قوات عسكرية لمواجهة الفرقة الاسرائيلية. وظهر جليًّا أنّ القيادة الحربية العليا للجيش العربي قد عرفت بما كان يجري في قبية ولكنها لم تقدر حجم العملية جيدّا، ولم تبادر إلى التحقق مما كان يجري. ولهذا تشكلت لجنة تحقيق برئاسة وزير المعارف الأردني آنذاك أحمد طوقان ووزير العدلية شفيق ارشيدات والضابط العسكري صادق الشرع. وتبين للجنة أن هناك إهمالاً واضحًا من قِبَل عدد من الضباط المسؤولين المباشرين في ميدان العمليات. وتمت محاكمة جميع الضباط الذين ثبتت مسؤوليتهم، والأهم من هذا أن مجزرة قبية وضعت حدًّا لوجود كلوب باشا برحيله عن الأردن، وأيضا وضعت حدًّا فاصلاً في علاقات بريطانيا والمملكة الاردنية الهاشمية.
 
·      أرادتاسرائيل من وراء العملية المزيد من الأراضي
 
كان واضحا أن العمليات الانتقامية (كما تسميها المراجع الاسرائيلية)، تهدف إلى توسيع رقعة المنطقة الوسطى باتجاه الشرق، بذريعة توفير الأمن للعمق الاسرائيلي، والحيلولة دون وصول متسللين (تسمية أطلقتها اسرائيل على الفدائيين) إلى المستعمرات الاسرائيلية ومدن الساحل. وتندرج مجزرة قبية وما تلاها من مجازر، ومنها مجزرة السموع ضمن هذا الإطار.
 
·      ردود الفعل:
أ‌.      اسرائيليا: ارتفعت أصوات مؤيدة للعملية وداعمة لمنفذيها، واعتبرت عملية دفاع عن النفس وحق اليهود في العيش في وطنهم بسلام. ومقابل هذه الأصوات تعالت أصوات اسرائيلية منددة بالعملية. ومن بين الذين عارضوها كان وزير الخارجية الاسرائيلي موشي شاريت الذي ادعى أمام العالم(بكونه وزيرًا للخارجية) أن الجيش احتال عليه، وعرض عليه عملية انتقامية مغايرة، عارضها أيضًا بشدة. ولكن هذا الموقف لا يشفع كثيرًا لشاريت، إذ انه كان على علم ولو بتفاصيل قليلة بوجود خطة لعملية في إحدى قرى خط الهدنة. أما المعارضون للعملية فتركزت معارضتهم حول موضوع "طهارة السلاح" أي أنه كان يجب عدم اللجوء إلى استعمال سلاح الجيش الاسرائيلي ضد مدنيين، كما حصل في هذه المجزرة. والقصد هنا تقديم صورة زائفة عن قدسية الجيش الاسرائيلي وقدسية السلاح الذي يستعمله. وحاولت الحكومة الاسرائيلية التنكر للجريمة/المجزرة من خلال ترويج بن غوريون لخبر ملفق أن كل جنود جيشه كانوا مرابضين في معسكراتهم، وان الذين قاموا بتنفيذ العملية الانتقامية هم مجموعة من المواطنين الاسرائيليين الغاضبين. وطبعًا سرعان ما انقشعت الغيوم عن هذا الخبر الملفق. وعبر المفكر اليهودي المتدين يشعياهو ليبوفيتش عن استيائه وغضبه من هذه العملية وما تلاها من تصريحات كاذبة مشيرًا إلى تردي التربية وتراجع القيم الإنسانية التي كانت تنادي بها الصهيونية، على حد ادعائه.
 
ب‌.عالميًا: أصدر مجلس الأمن في الأمم المتحدة قرارًا يُدين اسرائيل بشدة. ولما جاء دور مندوب اسرائيل في الأمم المتحدة، وكان آنذاك آبا ايبان، كرر كذبة بن غوريون ان الجيش الاسرائيلي لم يقم بالعملية. ولكن أكثر من الشجب والإدانة لم تتخذ أي إجراءات ضد اسرائيل لا في الأمم المتحدة ولا في أي محفل دولي آخر.
 
ت‌.عربيًا وأردنيًا: أدانت الحكومة الادرنية العملية بشدة، وأجرت تعديلات على قيادة جيشها، كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، ونشرت فرقًا كثيرة من قواتها على طول الحدود بين الضفة الغربية وفلسطين الداخل، أي على طول خط الهدنة. وكذلك أدانت الحكومات العربية العملية واعتبرتها جريمة. وغير ذلك لم تحرك ساكنًا.
 
الخلاصة...
 
لم تكن مجزرة قبية هي الأولى أو الأخيرة التي تعرض، لها الشعب الفلسطيني، وما زال، على يد آلة القتل والحرب الاسرائيلية، لكن ذكرى وقوعها حتمت علينا تذكير الشعب الفلسطيني في كل مواقع انتشاره بما حدث، وما يجب أن يتعلمه ويدركه لحالته الراهنة ولحماية وجوده ومستقبله.

التعليقات