التخطيط أولاً../ بانة شغري بدارنة

-

التخطيط أولاً../ بانة شغري بدارنة
لكلّ منا حقوق أساسية: المسكن حق، والصحة حق، والتعليم حق، والعيش الكريم حق، والمساواة حق وشرط أساس للتمتع بكلّ الحقوق. ولكن، وللأسف الشديد، فإنّ حكومات دولة إسرائيل تحرم عشرات الآلاف من المواطنين العرب في النقب من ممارسة هذه الحقوق بحرية ومساواة، وتشترط المساواة في الحقوق بالتخلي عن الأرض وعن أسلوب الحياة القروي والبدوي، مستخدمة آليات مختلفة ومنها قوانين التخطيط. وهكذا استخدمت إسرائيل التخطيط اللوائي كآلية إضافية تهدف إلى تخليد التمييز ضد الأقلية العربية في إسرائيل في توزيع موارد الأرض، وعلى الأصح- التمييز في توزيع استخدامات الأراضي (للمسكن والزراعة والصناعة وغيرها). والأخطر من ذلك، أنّ التخطيط -وبالأحرى الحرمان من التخطيط- يُستخدم كآليّة تهدف إلى اقتلاع وتهجير السّكان، عرب النقب، من قراهم وأراضيهم وتركيزهم في أقلّ مساحة مُمكنة من أرض النقب، ليتم إسكان وتوطين مواطنين يهود على هذه الأرض، بهدف "تطوير"، أي تهويد النقب.

أوجه التمييز والتحديات التي نواجهها كثيرة، وأوّلها عدم أدراج عشرات القرى غير المعترف بها على أية خارطة مستقبلية. ففي الوقت الذي تخطط أذرع الحكومة المختلفة لتهويد النقب بواسطة مضاعفة عدد السكان اليهود في النقب في مخطط النقب 2015، وفي الوقت الذي تقرر الحكومة والمؤسسات التخطيطية المصادقة على وإقامة مزارع فردية ليهود وإقامة ودعم مستوطنات جديدة للمستوطنين الذين تم إخلاؤهم من قطاع غزة المحتل، فإنّ نفس المؤسسة التخطيطية تبخل علينا وتمنع إدراج قرانا على الخارطة والاعتراف بها على أراضيها. إنّ إدراج القرى على الخارطة يحتم تخطيطاً يعترف بالأرض كأرض مأهولة بسكانها ويُمكّن أهلها من التمتع بحقوق حرمتهم إياها المؤسسات الحكومية.

يحمل التمييز في التخطيط في طياته أوجهًا كثيرة من هضم حقوق عرب النقب، بهدف ممارسة ضغوط إضافيّة عليهم علّهم يتنازلون عن أرضهم. أهمّ وسائل القمع التي يكرّسها التمييز في التخطيط هي هدم البيوت. كل البيوت والمباني القائمة والمقامة في القرى غير المعترف بها تُعتبر حسب القانون الإسرائيلي بيوتاًَ غير قانونية، كونها أقيمت من دون تصريح. هذا على الرغم من استحالة استصدار تصريح لبناء بيت أو حتى أقامة خيمة أو أيّ مبنى كان، للسكن أو غيره، من وجهتي النظر القانونية والتخطيطية. الأمثلة كثيرة وتعرفونها. في الفترة الأخيرة أضحى هدم البيوت في تصاعد مستمر حيث أن حصيلة هدم البيوت في العام 2006 باتت خمسةً أضعاف ما هُدم في العام 2005، وهذا انتهاك صارخ لحق كل إنسان بمسكن لائق وواجب الدولة احترام وتأمين هذا الحق لمواطنيها وفق معايير دولية في مواثيق وقعتها والتزمت بها.

ووجه آخر من أوجه التمييز في التخطيط هو حرمان السكان من أبسط حقوقهم الأساسية والتي من شأنها أن تضمن لكلّ إنسان حقه في العيش بكرامة، كالماء والكهرباء والصرف الصحي. فكلها خدمات لا تُعطى إلا بعد استكمال التخطيط الذي يعترف بالقرية ومن ثم إقامة سلطة محلية تقدم هذه الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، يستخدم التخطيط كآلية لتكريس نقص حاد في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لسكان القرى بهدف "إقناعهم" بأنّ مصلحتهم تلزمهم الانتقال للبلدات للتمتع بهذه الحقوق الاساسية. وهكذا نجد أنّ الحق في الصحة وفي التعليم لا يعطيان إلا بتقتير وبعد التماسات للمحكمة "العليا".

كمثل على ذلك، أذكر التماسًا قدّمته "جمعية حقوق المواطن" في العام 2000، مطالبة فيه الحكومة بإقامة عيادات صحية في ثلاث قرى غير معترف بها. كما طالبنا بإقرار معايير موضوعية تتسم بالمساواة بين كافة مواطني الدولة لإقامة العيادات الصحية في إسرائيل، ومن ثم تحديد عدد العيادات التي يتوجب إقامتها وفق هذه المعايير في القرى العربية غير المعترف بها في النقب. نتيجة الالتماس أقيمت خمس عيادات وعيادتان إضافيتان في طور التخطيط. الأهم من ذلك أنه أثناء تداول القضية في المحكمة العليا قام وزير الداخلية، بدعم المؤسسة التخطيطية، بتعديل أنظمة قانون التخطيط والبناء بمحاولة لسدّ الطريق لإقامة عيادات ومدارس إضافية، إلاّ في خمس عشرة قرية أدرجت في الخارطة اللوائيّة 4/14/40.



عن المرافعة والتخطيط

فما هي إذاَ سبل مواجهة المخططات الحكومية وعلى رأسها الخرائط اللوائية التي تخلد وتكرس التمييز؟

السبل كثيرة والآليات متعددة، منها القانونية والتخطيطية والشعبية سواءً أكانت محلية أم دولية. جمعية حقوق المواطن، ومنذ أكثر من 10 سنوات، تواكب وتناضل مع عرب النقب من أجل إدراج القرى غير المعترف بها على الخارطة اللوائية والاعتراف بوجود الناس على وطنها وأرضها.

خُضنا تجارب عده في النضال القانوني للاعتراف بالقرى وإدراجها على خرائط النقب كخطوة في درب تحصيل الخدمات والحقوق وتثبيت الناس على أرضها. سأتطرق أولا للمرافعة الدولية، حيث قدمت "جمعية حقوق المواطن" تقريرًا في كانون الأول من العام 2005 للجنة الدولية لمكافحة العنصريّة التابعه للأمم المتحده، وصفنا فيه أوجه التمييز العنصري ضد عرب النقب في ممارسة الحق في مسكن آمن، وغير ذلك من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جهة، وعدم الاعتراف بملكية أراضيهم بل ومصادرتها من دون تعويض عيني والمحاولات الحثيثة لاقتلاعهم مرة بعد أخرى من هذه الأرض من جهة أخرى، على الرغم من أنهم يشكّلون أقلية وطن أصلانية تلزم المعايير الدولية إحترام قوانين ملكيتهم وعدم مصادرة أراضيهم، إلا وقت الضرورة القصوى بشرط إعادتهم إلى الأرض مع زوال تلك الضرورة أو في حال استحالت العودة لأسباب موضوعية يتوجّب تعويضهم العيني بأرض بديلة بمواصفات مشابهة حسب معايير عادلة.

تقريرنا وتقارير مؤسّسات أخرى والمرافعة الدولية التي قمنا بها أمام اللجنة أعطت ثمارها يوم 9.3.2007، حيث أدانت اللجنة التمييز العنصري الذي تنتهجه إسرائيل ضد الأقلية العربية وآثار هذا التمييز الواضح في القرى غير المعترف بها. وقامت اللجنة بالتعبير عن قلقها من نقل القرى البدوية غير المعترف بها إلى بلدات دائمة. وعليه، أوصت الحكومة بأن تفحص إمكانيات بديلة، وعلى رأسها الاعتراف بهذه القرى وبحقوق المواطنين فيها وفتح المجالات من أجل تطويرها وتحسين ظروفها.

وقد شكّل القانون والقضاء، على مدى سنوات، آليّة قمع وجهت لانتزاع السكان من أرضهم ولتهويد الأرض ومصادرتها بدءاً من قانون أملاك الغائبين 1950 مروراً بقانون التخطيط والبناء 1965 وما يسمى "قانون السلام" 1980 وأخيرًا بتعديل ما يُسمى بقانون طرد الغزاة (في كانون الثاني 2005). ولكن على الرغم من ذلك نحاول، في الأعوام العشرة الأخيرة، استخدام القضاء كساحة للمطالبة بالمساواة وبحقوق عرب النقب محاولين إلغاء وتغيير مخططات تمسّ بحقوقهم الأساسية وعلى رأسها المخطط اللوائي 4/14 الذي نشر في عام 1996. هذا المخطط تجاهل وجود عرب النقب سكان القرى غير المعترف بها والحلول التخطيطية الوحيدة التي أدرجها المخطط اتّسمت بالتمييز الصارخ وتجاهل احتياجات السكان. هذا على الرغم من أنّ القانون يلزم اللجان اللوائية للتخطيط والبناء بالتحضير والمصادقة على الخرائط اللوائية وفق اعتبارات تخطيطية مهنية تهدف إلى ترجمة احتياجات السكان في منطقة اللواء وتترجمها في المخطط. على الرغم من ذلك، تجاهل المخطط جميع القرى غير المعترف بها ولم يدرجها على الخارطة في الوقت الذي أقرّ المخطط ما يزيد عن مائة قرية يهودية. الحل السكني والاستيطاني الوحيد الذي سمح به المخطط للمواطنين العرب هو العيش في البلدات التي أقامتها الدولة لتركيزهم وإقامتهم في أية رقعة أرض، سوى البلدات غير قانونية- فلا يمكن استصدار تصاريح لبيوتهم المهددة بالهدم.

قدم السكان وممثلوهم في المجلس الإقليمي وجمعيات حقوقية اعتراضات ضد التمييز بالتخطيط وبعد أربع سنوات من النظر بالاعتراضات صادقت المؤسسة التخطيطية على المخطط ضاربة بعرض الحائط احتياجات السكان وحقوقهم. وبناءً عليه، قدمت "جمعية حقوق المواطن" في عام 2000 التماسًاً للمحكمة "العليا"، بالتعاون مع المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها وأطراف أخرى، مطالبين المؤسسة التخطيطية بتعديل المخطط اللوائي وفق اعتبارات تخطيطية مهنية، تعامل عرب النقب بالمساواة وتأخذ بعين الاعتبار مطلبهم السماح لهم بالسكن في قرى زراعية التي تتلائم واسلوب حياتهم إسوة بالمواطنين اليهود وبعدم تجاهل القرى غير المعترف بها.

نتيجة لهذا الالتماس، اعترفت سلطات التخطيط بالتمييز واقترحت تعديل سياستها في المخطط الجديد "ميتروبولين" بئر السبع (تمام 23/14/4) والذي سيشكل تعديلاً للخارطة اللوائية، بحيث يعمل المخطط الجديد على ضمان البحث عن وإيجاد حلول تخطيطية لضائقة القرى غير المعترف بها. كما التزمت بإشراك الملتمسين، وعلى رأسهم المجلس الإقليمي في التخطيط بالاضافة لالتزامها إجراء فحص جدي لمطلب المجلس الاعتراف بـ 46 قرية في النقب. بفضل الالتماس سُمح لنا بعرض مطالبنا على طاقم التخطيط وعلى موظفين كبار في المؤسسة التخطيطية ووزارة الداخلية أثناء إعداد المخطط الجديد. كما حاولنا في السنوات الستّ الماضية الاستعانة بالمحكمة للحصول على معلومات تتعلق بالتخطيط في مرحلة لا يلزم فيها القانون المؤسسة التخطيطية بإشراك الجمهور. خلال هذه الجلسات والمداولات طالبنا طاقم التخطيط بإدراج كل القرى على الخارطة، حيث أنّ كلا منها يتلاءم ومعايير تخطيطية مهنية والحق في المساواة يلزم الاعتراف بها حيث أنّ قرى وبلدات يهودية بحجمها وأصغر منها مُدرَجَة على الخارطة. في هذه الفترة، ونتيجة لتكاتف عوامل مختلفة -الالتماس واحد منها، تم إدراج حوالي عشر من هذه القرى على الخارطة (وإن كان التخطيط التفصيلي في بعضها لا يتجاوب بالضرورة مع مطالب واحتياجات السكان). بالإضافة إلى ذلك، وافق طاقم التخطيط على إدراج قريتي الفرعة وأبو تلول في المخطط واعتماد آلية قد تؤدي بالمستقبل للاعتراف بقرى إضافية. إلا أنّ هذا لا يكفي، حيث أنّ ما يقارب الـ 35 قرية ما زالت غير معترف بها وما زالت بيوتها مهددة بالهدم وسكانها مهددين بالحرمان من أبسط الخدمات لاعوام كثيرة مقبلة.

(الكاتبة محامية في "جمعية حقوق المواطن")




التعليقات