في ليلة الميلاد قبل 57 عاما دمرت إقرث؛ أبناؤها: "العودة إلى إقرث أمانة ننقلها إلى أبنائنا ليتمسكوا بها"!

"هذه الذكريات هي كل تبقى لنا من إقرث، أنا أعشق بلدي لأني ولدت فيها، ولعبت في أزقتها وتجولت في حقولها، كيف لا أذكر كل تفاصيل القرية"..

في ليلة الميلاد قبل 57 عاما دمرت إقرث؛ أبناؤها:
كان أهالي إقرث منهمكين في "صبة الباطون"، يلبسون الجزمات ويمدون مدخل القرية بالإسمنت، تحت الغيوم المتلبدة في الأعلى. أمطار الخير لم تهطل في ذلك اليوم رغم حلول الشتاء، كما لم يهل الخير على أهل إقرث ليس ليوم واحد، بل منذ 60 عاماً انتظروا خلالها العودة إلى قريتهم التي هجروا منها عام 1948.

قدمتُ إلى إقرث المهجرة بعد أعوام من زيارتي الأخيرة لها، شمس كانون أطلت في ذلك النهار من بين الغيمات. كانت تستقبل الوافدين إلى إقرث، تشاطرهم الحزن وتذكرهم بالأمل.. كلها مجرد تحليلات، لكن من يبحث عن الوطن في الوطن يتمسك بكل قشة أو بكل طلة من الأعلى، كيف لا وأهالي إقرث يطلون إلى السماء يتذرعون أسبوعيا من أعالي تلة إقرث التي تربض عليها كنيستهم، يتذرعون طالبين العودة إلى منازلهم بعد مسلسل عناء ولوعة وشوق امتد طوال 60 عاماً ، والأبطال ما زالوا أحياء يبعثون الحياة والأمل والحب للوطن في الأبناء والأحفاد.

أهالي إقرث الذين يحملون قصصا وحكايات مؤلمة عن العصابات الصهيونية عام 48، التي طردتهم من قريتهم بخبث ولؤم فريدين، يعيشون مسلسل المطاردة والملاحقة ليس نفسياً فحسب بفعل الغربة، بل على أرض الواقع حيث أقدمت مجنزرات البطش مؤخراً على تجريف الشارع الموصل إلى ركام بيوتهم التي ما زالت في موقع الجريمة إلى جانب الكنيسة التي بقيت قائمة يعاودها أهالي إقرث ويقيمون الصلوات فيها.

شباب وكبار كانوا في إقرث، منهم من انهمك في صب الباطون، منهم من حملت رضيعها بين ذراعيها مغطى بالحطة الفلسطينية، ومنهم من حمل طفلته على رقبته، وآخرون حرصوا على استقبال الزوار الذين أتوا للتضامن معهم في مسيرة التحدي والصمود وللتأكيد على عدم الركوع لممارسات الهدم والتجريف السلطوية.. كانوا يستقبلون الضيوف بحفاوة، يشرحون لهم حيثيات هدم الطريق الموصل إلى إقرث، والظلم والملاحقة التي يعانون منها، على الرغم من قرار المحكمة الذي أمر بعدم تجريف الشارع.

كان ذلك يوم الجمعة الماضي، حيث زار المئات من المتضامين والقيادات السياسية قرية إقرث، بعد الاعتداء الذي تعرضت له قبل أسبوعين، المتمثل بتجريف الشارع، الذي مده الأبناء بالإسمنت، مترا تلو آخر دون تعب ولا ملل بل برغبة وشغف كبيرين، ربما لأن مد الشارع يحمل في طياته معاني كبيرة.. وأي شعور هذا الذي يشعره المغترب عن بلده قسراً، والذي يعود ليعبد بيديه طريق القرية، لا نعرف ما يجول بداخله، ولا نشعر كما يشعر رغم تضامننا معه، لأن للمهجر إحساسه وشعوره الخاص به، بمقدورنا فقط أن نفهم معنى السعادة رغم الألم ومعنى العيش مع الأمل، إنها طريق العودة إلى البلدة، طريق العودة إلى إقرث، التي يؤمن أهالي إقرث بأنها ليست بعيدة.

رزق عطا الله، أبو ألبير، كانت له عبارات خرجت من القلب وبإحساس كبير فضحه صدى صوته وعيناه اللتان تحدثتا أكثر منه بألف مرة: "عيوننا تدمع لأنه لا يوجد بيت نستقبلكم فيه"، قال أبو ألبير، وأردف: "منذ كنا هنا لم نعرف الاحتفالات ولا الأعياد بطعمها لأنهم شردونا.. وجودكم اليوم وتضامنكم معنا هو عيد أكبر وأهم عيد بالنسبة لنا".

حنا ناصر، التقيناه جالساً على ركام أحد المنازل خلف الكنيسة، ممرض متقاعد، أخذ من حيفا مسكناً بعد أن هُجر وعائلته من إقرث. كم بلغت من العمر يوم التهجير؟

سألته فأجاب: "عمري اليوم 70 عاماً، كان عمري يوم التهجير عشرة أعوام". وهل ما زلت تذكر إقرث؟. "ما زالت صورة إقرث وشوارعها وترتيب المنازل مغروسة في ذاكرتي، وخلال هذه الأعوام قصدت أن أنعش ذاكرتي لكي أبقى أذكر هذه الصورة لأن هذه الذكريات هي كل تبقى لنا من إقرث، أنا أعشق بلدي لأني ولدت فيها، ولعبت في أزقتها وتجولت في حقولها، كيف لا أذكر كل تفاصيل القرية، فأنا عندما أزور البلدة اليوم، لا أصل منزلي عن طريق الركام، بل أصل إليه من خلال الطريق الذي كان قائما بناء على ا لتفاصيل الدقيقة المحفورة في ذاكرتي، وحتى أدخل المنزل من بوابة المنزل ومن نفس الجهة".

يحدثنا حنا ناصر، عن الحياة في إقرث قبل التهجير، عن الحب الكبير لقريته وعن أهاليها الطيبين والحياة الجميلة بها. ويؤكد أن العودة إلى القرية ليست حلماً بالنسبة له فحسب، بل حلم لدى أولاده الذين يأتون معه لزيارة القرية ويتجولون بين ركامها، ويقيمون الصلوات في الكنيسة وفق ما اعتاد عليه الأهالي حتى اليوم، ويؤكد أنه وأولاده وأحفادهم مستقبلاً لن ينسوا قضيتهم ولن يتوقفوا عن زيارتها".

يقول: "إسرائيل لم تترك بندا من المواثيق الدولية إلا وإنتهكته، وكل حقوق الإنسان داست عليها، استنفدنا كل الوسائل من أجل العودة، واليوم يجب أن تصل قضية إقرث وممارسات السلطات هذه إلى المحكمة الدولية، لأنها يجب ألا تكون أعلى من القضاء الدولي ومن المواثيق والأعراف الدولية، لأنهم قلعوا الشجر والبشر وحان الوقت ليدفعوا ثمن ذلك"!


وداد نعمة حداد، وزوجها عبد الله ثامر حداد، في منتصف السبعينات من عمريهما، يحدثاننا عن إقرث، وعن قصة التهجير وتدمير القرية بالبارود ليلة عيد الميلاد المجيد، تقول وداد ( 74 عاماً)، "لدي شعور أننا سنعود، حتما سنعود إلى القرية، حتى لو كنا ميتين، فسواعد الشباب ومواقفهم الشجاعة تجعلنا نؤمن أكثر أن العودة قريبة وهم قادرون على فعل ذلك".

هل لك أن تحدثينا عن إقرث والعيش فيها قبل التهجير: "كنت طفلة صغيرة، كان عمري ( 12 عاماً)، في أيامنا لم يكن الأولاد زي اليوم، كان همنا نلعب بالحارة، نروح على المدرسة اليوم الأولاد غير في عندهن اهتمامات وأمور بدهن يساووها وبرنامج طويل".

عبد الله حداد ( 77 عاماً)، يحدثنا عن ذكرياته : "أخذونا إلى الرامة، ووعدونا أن نعود بعد 15 يوماُ، لأن الأمور متوترة ويوجد خطر على حياتنا كما قالوا، أهالينا كانوا طيبين، كانوا يعيشون بسلام، وصدقوا هذا الكلام، وفعلاً حملونا في السيارات، هناك من رفض وبقي يحرس القرية، وأيضاً هم أجبروهم على السفر إلى الرامة، وأسكنونا في الرامة كل ثلاث عائلات في منزل واحد، يقول عبد الله: " والله هذيك الأيام ما بتنتسى، كنا نعيش كل يوم بيومه نستنى نعود للبلد، لكن فهمنا بعدين أنو اللي بستنانا مش سهل بالمرة".

ومضى عبد الله يحدثنا عن القلق الذي اخذ يسيطر على الأهالي: "بعد أن انتهت المدة، أخذ أهلنا يطالبون بالعودة، وحينها كانت المماطلة وفهمنا أن المخطط يقضي بعدم عودتنا، وأصبح عدد من الرجال يذهبون إلى القرية للاطمئنان عليها، ولذلك أعلنوها منطقة عسكرية مغلقة، كي لا نصل إليها ".

بلد الخيرات و"التين المعقود"

تحدثنا الزوجة وداد: "على الرغم من الإغلاق العسكري، كنا نتسلل إلى القرية، وكان الأهالي يقطفون الزيتون وأرض إقرث كانت معروفة بخيراتها وحقولها، كان الأهل يزرعون الدخان والخضار وأنواعا كثيرة من الحبوب وغيرها، حتى أنو كان التين مش يستعمل كالفاكهة وبس، كان في إقرث إشي إسمو "التين المعقود" اللي كانت الأمهات تكبسوا، وكان الرجال يوخذوه معاهم زوادة على الشغل بدل الأكل، عشان هيك غالبية الرجال وأهالي إقرث اليوم بعدهن بصحة منيحة رغم سنهن المتقدم.."، تنهي أم إيلي قصتها ضاحكة"!.

تدمير إقرث ليلة الميلاد المجيد

يعود عبد الله حداد ( أبو إيلي) ليحدثنا بألم كبير، بعد أن دخلنا الكنيسة بحثنا عن قليل من الدفء لأن البرد أخذ يشتد، يحدثنا عن مسلسل المماطلة وانتظار العودة في السنوات الأولى للتهجير، ويقول: "سنة 1951، أوكل الأهالي قضيتهم إلى المحامي محمد نمر هواري من الناصرة، وبالفعل حكمت المحكمة لنا أن نعود لبلدنا، لكن كل محاولاتنا فشلت، حتى في نهاية المطاف، الحكومة سلمت الأهالي مفاتيح البيوت للعودة، إلا أن الجيش الإسرائيلي استأنف على هذا القرار".

ويكمل عبد الله حديثه بحزن كبير،"ما أحيك ضدنا كان ظالما للغاية، ما فعلوه كان إجراماً بحق أهلنا، حيث أقدم الجيش بوحشية كبيرة وفي ليلة عيد الميلاد المجيد أقدس الأعياد عندنا، على هدم جميع منازل القرية في محاولة لطمس معالمها وإبعادنا ومحاولة اغتيال قضية إقرث" .

وينهي أبو إيلي وأم إيلي حديثهما: " كما قلنا لك في البداية، الحق لا يضيع ولو طال الإنتظار، إقرث ليست قرية، إقرث هي رمز لقضية شعب هجر من بلداته، وهذه أمانة ننقلها إلى أبنائنا ليتمسكوا بقريتهم وقضيتهم وعدم التنازل عن حق العودة إلى إقرث وإلى كل القرى".في ليلة الميلاد 24/12/1951 هدم الجيش الإسرائيلي قرية إقرث، بينما أهلها على بعد مرمى حجر منها ينتظرون تنفيذ قرار محكمة العدل العليا القاضي بعودتهم إلى بيوتهم.

بعد 57 ليلة ميلاد، ما زال الأقارثة ينتظرون..

In Christmas night, 24/12/1951, the Israeli Forces destroyed Iqrith Village, while the Iqritians are waiting for the executionof the Supreme Court Of Justice decision "the inhabitants of Iqrith could not be barred from returning to their village".

after 57 Christmas nights, Iqritians are still waiting…

فكرة ونص: رازي نجار
تصميم: وائل وكيم



التعليقات