عبد الفتاح قلق ومُحرَج ولكنه شديد الثقة بحزبه

عزمي بشارة مناضل مثقف ومفكر ملفت للنظر، مبهر ومجدد، وليس صدفة أن يصبح من كبار المنظرين للقومية الديمقراطية الحديثة في العالم العربي وأكثرهم تأثيرا. جمعتني به صداقة عميقة وثقة، ولم أتخيل يوما أن المؤامرة ستنال منه وسيضطر للبقاء في الخارج، ولم أستوعبها بسهولة

عبد الفتاح قلق ومُحرَج ولكنه شديد الثقة بحزبه

- قلق على مستقبلنا الجماعي ومهموم بمستقبل الأجيال الشابّة. محرج لأنه كان جادا في إعلان رغبته بالتنحي خلال لقاء صحفي، ثم خضع لضغوط الحزب

- يوصف بأنه راديكالي في مواقفه السياسية، محافظ في الإدارة، ويميل إلى تغليب التوازنات بين مراكز القوى، غير أنه يعتبر نفسه متنورا، ويرى أن تغليب التوازنات كان مطلوبا في عدة محطات بسبب نشأة الحزب وتشكله من أطياف مختلفة في الحركة الوطنية

- أدرك مؤخرا فقط قصوره اتجاه الأسرة، فأعاد تنظيم أوقاته، إلا أنه مدرك أيضا أن العمل السياسي له ثمن..

يكن بالغ التقدير والمحبة لعزمي بشارة، ويشير إلى دوره الكبير في إخراج جيل من خانة الدوغمائية، وإلى نقطة التحول الفكري والسياسي التي أحدثها ربطه القومي بالديمقراطي

- يوصف بأنه متشدد في مواقفه وفي رؤيته، لكنه يؤكد بأنه براغماتي في الوقت ذاته. كما أنه يقبل النقد وما يزعجه هو النقد المبني على معطيات مغلوطة

- يستذكر مرحلة تشكيل الوعي الوطني، وحقبة سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي المثقلة بالقسوة والملاحقات والاعتقالات وشظف العيش

- في مرحلة مبكرة وبالتوازي مع نمو وعيه الوطني، ومن خلال معاينته لدور والدته أدرك حجم الظلم الواقع على المرأة. وآمن بضرورة تخليصها من الاضطهاد ومساواتها بالرجل

 يمكنك أن تختلف معه، أن تناقشه، أن تنتقد خطوة قام بها، أو موقفا اتخذه، لكن لا يمكنك ألاّ تكن له الاحترام، والتقدير لدوره- ورصيده الحافل بالعطاء، وسواء أصاب أو أخطأ خلال مسيرته الطويلة، فدوافعه واستقامته ليست محل جدل، وفي الوقت ذاته- من الصعب أن تفصل سيرته الذاتية عن سيرة أسرة مناضلة قل نظيرها في الداخل، واعتبرت منارة وطنية في حقبة التراجع التراخي.

 تلقى ثقافته الأولى في بيت نابض بحب الوطن، وحينما تشكل وعيه، ودون أي تردد، وجه بوصلته نحو فلسطين، كان الثمن باهظًا عليه وعلى عائلته، لكن ذلك لم يزدهم إلا إصرارًا. ويقول يبقى هذا الثمن قليلاً بالنسبة للعائلات التي قدّمت الشهداء والأسْر الطّويل لأبنائها.

حينما نقابل عوض عبد الفتاح، لا نكون أمام شخص عادي، مهما اختلفنا معه، بل مع ما يمثله من حضور وإرث نضالي، واهتمام بالفكر ومع ما تمثله عائلته من عطاء وإيثار.

خلال مقابلة مطولة استمرت أكثر من ثلاث ساعات، أجريت في منزله في كوكب أبو الهيجا، جُلنا مع الأمين العام للتجمع الوطني الديمقراطي في محطات عديدة من مسيرة الحركة الوطنية، وتناولنا التطورات الأخيرة على صعيد الحزب، وخضنا في الشأن العام والخاص حتى تداخلا، وعرجنا إلى هواجسه ومكنونات نفسه، واستشرافه للمستقبل.

 تكررت كلمة "قلق" مرات عديدة على لسانه، وعبر عن شعور شديد بالقلق على مستقبل الأقلية الفلسطينية في الداخل، وتوقع أنها ستوضع في السنوات القريبة في اختبارات صعبة ومصيرية، ينبغي الاستعداد لها، ولا يخفي إحساسه بالحاجة إلى تحصينها وإلى زيادة قوّة التجمع الوطني الديمقراطي، الذي قد يواجه في المرحلة القريبة تحديات صعبة ومحاولات شطبه. لكنّه واثق بقدرة الحزب، قياداته و كوادره وأنصاره على هزيمة هذه المحاولات وعلى مواصلة التقدم. فهو يستمدّ نظرته التفاؤلية من عدالة قضية فلسطين، ومن اليقظة العربية الراهنة – معجزة الثورات. وفي الوقت ذاته لا يخفي شعوره بالحرج من إعادة انتخابة للأمانة العامة بعد أن كان قد أعلن في لقاء صحفي نيته التنحي.

يستذكر مرحلة تشكل وعيه الوطني في سنوات شبابه الأولى، ومنذ أواخر السبعينيات وعلى طول حقبة الثمانينيات بكل معاناتها وآلامها، حين تعرض هو وأفراد العائلة لاعتقالات متكررة، ولأحكام بالسجن على خلفية نشاطهم الوطني، وتتغير نبرة صوته حين يستذكر مشهد اعتقال الوالدة، فأم المناضلين ترقد في المستشفى بوضع صحي حرج.

فيما يلي المقابلة التي أجريت مع عوض عبد الفتاح صبيحة الثلاثاء الماضي:

كنت قد أعلنت بأنك لن تترشح للمنصب؟ ماذا دفعك للعدول عن هذا القرار؟

لا أخفي عليك أنه لدي شعور مختلط إزاء إعادة تكليفي بمسؤولية الأمانة العامة، أشعر بثقل المسؤولية أكثر من الماضي، هذا الشعور ساورني حين انتخبت أول مرة عام 1997، أحسست حينها بثقل المسؤولية، ولدي اليوم نفس الإحساس.

لم أكن راغبا في مواصلة حمل كل هذه المهام لأسباب شخصية وموضوعية مع أني أتقاسمها مع رفاقي في القيادة ومع كوادر حزبي، الذين لا يلينوا، وشعرت أن هناك حاجة للتجديد. واقترحت على رفاقي في القيادة أن نتوافق على قيادي آخر يحمل المهمة أفضل مني. أردت أن أعفي نفسي من المسؤولية الشاملة، خاصة الوضع الداخلي، وعن إدارة شؤون الحزب، فصرحت في لقاء صحفي بأنني لن أترشح لمنصب الأمين العام، اعتبرت القرار نهائيا لإلزام نفسي والآخرين، لكنني فوجئت بسيل من النقد والعتب على التصريح وعلى القرار. حتى من أصدقاء للحزب.

كنت أود أن أعود جنديا في صفوف الحزب، وأن أسهم في مجال التثقيف والتعبئة، فبناء الإنسان هو العامود الأساس في المجتمع، لكن سير الأمور قادني مرة أخرى نحو اتجاه كنت أريد تجنبه، أردت إفساح المجال للآخرين كي يتولوا المسؤولية على أن أواصل مشاركتهم في حملها، حتى آخر يوم في حياتي، لكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن. طوال حياتي السياسية لم أترشح لأي منصب، كنت أٌدفع تدريجيا فأجد نفسي في موقع مسؤولية.

ربما هناك من يعتقد خطأ أنني سعيد بتولي "منصب سياسي" لكنني لا أنظر إلى الأمر من هذا الجانب، أعتبرها مسؤولية ثقيلة الأعباء، وحملا يستنزف الطاقات ويرهق القوى، ويعني المزيد من التقصير بحق الأسرة.

 

 أستاء حين ينظر بعض الناس إلينا أننا "نعمل" في السياسة، فقد اختلط الحابل بالنابل في واقعنا السياسي وتفاقمت ظاهرة الشخصنة في العمل السياسي. إن العمل السياسي الوطني في واقعنا هو مهمة ورسالة ونضال دؤوب. نحن الرعيل المؤسس ولدنا في معمعان المواجهة مثل الرعيل الذي سبقنا. لم نكن ننتظر مكافأة أو معروف، أو تغطية إعلامية. كان الثمن الذي ننتظره هو المعاناة؛ اعتقال، ضرب، تعذيب، إيقاظنا من النوم بعد منتصف الليل، دفع أموال من جيوبنا، طردنا من العمل. أول مرة دعيت إلى مركز شرطة كان عمري 14 عامًا. تدرجنا بشكل طبيعي ودفعنا من مرحلة لمرحلة بشكل طبيعي، فتبدأ بالتعرف على اللعبة السياسية، وكيفية إدارة وإتقان العلاقات الداخلية للحزب أو الحركة السياسية. فتضطر أن تخوض العمل السياسي بكل إيجابياته وسلبياته ونزواته. وتقع في شعور من التناقض بين المبادئ العامّة وضرورة التعاطي مع الواقع. وينجم عن ذلك معاناة ليست بسيطة.

رغم أنك أمين عام منذ 13 عاما، هناك من يرى أنك توليت المسؤولية بشكل فعلي منذ نحو أربع سنوات فقط، أي بعد الرحيل القسري للدكتور عزمي بشارة؟ أي أن تجربتك الفعلية قصيرة؟

كان الدكتور عزمي بشارة رأس الحربة في قيادة الحزب، وكان مشاركا فعالا في عملية البناء والتنظيم، وحمل أعباء كثيرة، فهو متعدد المواهب وتميز عنا جميعا وليس صدفة أننا اخترناه منذ اليوم الأول لهذه المسؤولية. بعد تعرضه للمؤامرة كان الخيار أمامنا تعزيز روح القيادة الجماعية وتطويرها، أعتقد أننا نجحنا بحد أدنى من الأخطاء في قيادة الحزب إلى هذه المرحلة. بالإضافة إلى ذلك فكوني لست عضو كنيست، وهذا خياري الشخصي، فلست مكشوفًا للإعلام، ناهيك عن أن العمل التنظيمي التنظيمي الداخلي المضني، ولكنه الهام، خاصة في مراحل الحزب الأولى، لا يشعر به الناس ولا يقدرون صعوبته. فتكون كالجندي المجهول. ولكن ذلك يعطيك شعور بالرضى لأنك تبني حزبًا حديثًا متميزًا جديدًا على ساحة عرب الداخل. إن بناء حزب حديث ونوعي في فترة الانهيارات كحزبنا سيظل بتقديري علامة فارقة في تاريخ عرب الداخل.

رفع المؤتمر لواء التغيير، ودخلت وجوه جديدة للجنة المركزية، لماذا لم ينعكس ذلك على المكتب السياسي؟

عكس المؤتمر أكبر قدر من التغيير، فقد دخل عشرون قائدًا جديدا للجنة المركزية. أستغرب هذا النقد، فالمركزية هيئة دستورية أعلى من المكتب السياسي ومنتخبة من المؤتمر، أما الأخير فينتخب من اللجنة المركزية.

الأشخاص الذين ترشحوا للمكتب السياسي جيدون ومتميزون، وهناك مثلهم لم يترشحوا، لكن المستقبل أمامهم، وبالنسبة للقيادة الشابة، أعتقد أنها يجب أن تنمو بشكل طبيعي وتكتسب الخبرات وأن تتقدم بشكل تدريجي.

 التحديات الملقاة على عاتق المكتب السياسي واللجنة المركزية؟

ننطلق كحزب وحركة وطنية من واقع القضية الفلسطينية الموجودة على مفترق طرق، وأرى أن الصراع قابل لأن يدخل في مرحلة جديدة، في أية لحظة، ومن شأن ذلك أن ينعكس على فلسطينيي الداخل، كما أن هناك تحديات ومخاطر تقترب. فنحن أمام حقبة عربية جديدة آخذة بالتشكل، هي الحقبة الثورية الواعدة.

يتعرض فلسطينيو الداخل وقواهم الوطنية منذ الانتفاضة الثانية لحملات قمع وتحريض متصاعدة وغير مسبوقة تستهدف وجودهم القومي والاجتماعي، ومن أدوات هذا الهجوم الترهيب والإفقار وخلق الفرقة وإبعاد الناس عن العمل الوطني. لدى المجتمع العربي عناصر قوة، وهي الوعي الوطني والإنجازات الثقافية والعلمية والتنظيمية، واستخدامهما بشكل سليم يزيد القدرة على صد تلك الهجمات. والسؤال الذي يتبادر لأذهاننا كقيادة، كيف سنواجه ذلك نحن كعرب، وكتجمع؟

تتحدث إسرائيل عن اقتراب انفجار الوضع الفلسطيني برمته، ونحن الفلسطينيين في كل المواقع غير جاهزين وغير مستعدين بصورة كافية لذلك، وعلينا أن نعد أنفسنا. لا ننسى أن الهجمة السلطوية موجهة ضد فلسطينيي الداخل عموما، لكن من بين كل الأحزاب التجمع هو المستهدف الأكبر.

علينا الدفع باتجاه تنظيم المجتمع العربي عبر بناء لجنة المتابعة، وتعزيز التنسيق مع القوى السياسية المعنيّة، ودفعها للتحرك باتجاه خوض حملة تحشيد وتعبئة لهضم فكرة الانتخابات المباشرة للجنة المتابعة والاستعداد لتحمّل تبعات ذلك، وإقامة جسم تمثيلي وطني موحد. وبناء مؤسسات مهنية لتحصين المجتمع العربي. لا مناص أمام المجتمع العربي إلا أن ينظم نفسه بالاعتماد على قواه الذاتية، وهذه المهمة مصيرية بالنسبة للوجود السياسي والقومي العربي في الداخل ولمصيره بالنسبة لمستقبل الأجيال الشابة. أبنائنا وبناتنا.

 المهم في مشروع انتخاب لجنة المتابعة هو أنه ينطوي على إقامة لجان شعبية في كل قرية ومدينة، مشكلة من كافة الأحزاب والحركات السياسية والشخصيات المعنية بهذا المشروع والتي من مهماتها أيضا التصدي للقضايا الاجتماعية المحلية وهموم الناس اليومية بما فيها قضايا العنف. ومهمة هذه اللجان أيضا ضبط وتنظيم وتوجيه أية هبة شعبية قادمة بالاتجاه الصحيح، وعليها أن تكون مدركة أن النضال بحاجة لنفس طويل. النجاح في هذه المهمة ليس خدمة لفلسطينيي الداخل فحسب، بل خدمة للنضال الفلسطيني الوطني والديمقراطي عمومًا.

تتحدث عن هبّة؟ أعتقد أن مجتمعنا بعيد عن هذا التفكير؟

هناك ألف سبب للهبة، منها العنصرية، التهميش، الكبت الاقتصادي، البطالة، انسداد الأفق أمام الأجيال الشابة والخريجين الجامعيين. عشية الانتفاضة الثانية كان الجمهور في حالة استرخاء ولم يتوقعها أحد. طاقات الشعوب هائلة، ومن واجب القوى السياسية توعية الناس وضبط حراكهم، لا أدعو لانتفاضة أدعو لتنظيم المجتمع العربي والعمل على خوض نضال تدريجي بنفس طويل.

 

 وعلى مستوى الحزب يجب أن يواصل صعوده ويكون قادرًا على خوض المعارك القادمة بكفاءة أكبر. وذلك عبر تطوير التخطيط الاستراتيجي في كل المجالات، وتعزيز وتطوير الحركة الشبابية والطلابية وإيلائهما مزيدا من الاهتمام. وهذه من أهم التحديات والمهام التي سننشغل فيها بصورة أكبر.

أين تلقى عوض عبد الفتاح ثقافته وما هو تأثير عزمي بشارة عليه؟

أول ثقافة تلقيتها في البيت، الوالد والوالدة هما المدرسة الأولى والمصدر الثاني التثقيف الذاتي. عملت في المدن اليهودية منذ بواكير الصبا، في العطل المدرسية، وعايشت احتقار الشارع اليهودي لنا. أكثرت من القراءة والمطالعة منذ المرحلة الثانوية، تلقيت التربية الوطنية في البيت وتعمقت عبر القراءة، وبعدها قادني الوعي الوطني مثل غيري من الشباب الوطني إلى البعد الأممي، وكنا نرى، ولا زلنا، في الإمبريالية وإسرائيل عدوًا مشتركًا لشعب فلسطين وللأمة العربية ولقاطبة شعوب العالم. وكنا نتعاطف مع ثورة فيتنام وكوبا وغيرها من ا لثورات الإشتراكية. وحملنا المثال الاشتراكي والعدالة الاجتماعية بمفهومها الماركسي التقليدي، إلى أن جاء انهيار الاتحاد السوفييتي ليعاد النظر بمفهوم الحرية والعدالة، بحيث يتحقق التوازن بين الحرية الجماعية والحرية الفردية.

كان لعزمي بشارة دور كبير في إخراجنا من الدوغمائية، وكان الربط المتقدم بين القومي والديمقراطي وتجديد الفكر اليساري نقطة تحول كبيرة في تفكيرنا. كتابات عزمي بشارة وأفكاره شكلت إلهاما للحزب والحركة الوطنية، وعملت على إعادة معالم الأمور وتوضيحها.

عزمي بشارة مناضل مثقف ومفكر ملفت للنظر، مبهر ومجدد، وليس صدفة أن يصبح من كبار المنظرين للقومية الديمقراطية الحديثة في العالم العربي وأكثرهم تأثيرا. جمعتني به صداقة عميقة وثقة، ولم أتخيل يوما أن المؤامرة ستنال منه وسيضطر للبقاء في الخارج، ولم أستوعبها بسهولة.

هل تراجع خطواتك، وتخضعها للتقييم والمحاسبة؟

في السنوات الأخيرة اجتهدت أكثر من أجل تطوير مهاراتي وأدائي، وحاولت دائمًا تطوير آلية مراقبة ومحاسبة ذاتية. بقدر ما تسمح به قدراتي.

 هناك أمور لست راض عنها، كنت أود أن أبذل جهودا أكثر في مجال التثقيف الحزبي مثلاً والتوسع في حركة الشباب وغيرها.

في هذه المرحلة كل قيادات الحزب طورت أداءها. لا احد منا يستطيع القيام بدور عزمي بشارة لهذا كان لا بدّ من تقوية وتعزيز روح القيادة الجماعية مع الحفاظ على المراتبية والهرمية المنصوص عليها في الدستور والنظام الداخلي..

خطأ ارتكبته؟

إعطاء الثقة لمن لا يستحق، ولمن هو ليس أهلا لها. منحنا الثقة دون أن نقدّر إمكانية سوء استخدام هذه الثقة. أعتقد أنني لم أكن حازما كفاية في تلك المرحلة من باب الحفاظ على التوازنات، وبعد المشكلة لاحظ البعض أنني أصبحت أكثر شدة بل أن البعض اتهمني بالديكتاتورية واتخاذ قرارات منفردة.

تقصد سعيد نفاع؟

نعم. لم يشهد حزبنا منذ إقامته قضية صعبة من هذا النوع. ولذلك كانت مفاجأة أن يتصرف هذا الشخص بهذا الشكل دون مراعاة أدنى معايير الأمانة والأخلاق الحزبية وحتى الاجتماعية والسياسية. ولذلك كان لا بدّ من الحزم.

الحياة الأسرية؟

في أول تحقيق مخابراتي وبوليسي جدّي واعتقال لعدة أيام في أوائل الثمانينيات، أتهمني المحقق بأنني نغصت حياة العائلة وورطتها في مشاكل ودفعتها للـ"تطرف"، وبأنني دفعت بخطيبتي إلى هذا الطريق، وأنني السبب من وراء تدهور العائلة، وكأن هذه المخابرات كانت حريصة على العائلة. كانت فترة عصيبة ومؤلمة ومثقلة بالأوجاع والهموم، لكن صلابة أفراد العائلة الذين كانوا يتعرضون للتحقيق والاعتقال والتعذيب، ووقوف الوالد والوالدة بقوة وراءنا، كانت تشحنني بالوقود للاستمرار.

أمعنت في التقصير المتواصل مع العائلة، وحينما أذكر العائلة أتذكر عقد الثمانينيات عقد الملاحقة والاعتقال، والسجن الطويل الذي طال كل العائلة حتى الوالدة التي ننظر إليها كأم حنون ومناضلة لا تلين. أشعر أننا أثقلنا عليها فوق طاقاتها، لا يمكنني نسيان هذه الفترة بكل معاناتها وآلامها، ولا يمكنني أن أنسى صورة والدتي وهي مكبلة برجليها وأيديها في مقرّ الشرطة وعيونها تقدح شررًا ولا تعرف إن كان إبنها توفيق مقتولاً أم مصابًا. ورحت أصرخ بوجه ضباط الشرطة بأن يفكوا القيود عنها. هي الآن مقعدة ولكننا نحن أبناؤها وبناتها الـ12 تفرض حضورها وهيبتها علينا حتى وهي في هذه الحال.

سمعتك تقول مرة أن حياة والدتك كانت الدافع وراء تفتح وعيك على قضية اضطهاد المرأة؟

نعم منذ بداية صباي، وأنا دون الـ14 وحين كنت أنظر لحياة والدتي الصعبة، آمنت بضرورة رفع الظلم والاضطهاد عن المرأة العربية، ومساواتها بالرجل. لقد كان العبء الثقيل الواقع على الوالدة، كربة بيت وكعاملة في الحقل، الدافع الأساس لتفتح وعيي على ظلم المرأة. وزادني إصرارًا قراءتي لكتب النهضوي سلامة موسى ونوال السعداوي. وبدأت بمساعدة الوالدة في شؤون البيت وتعليمها القراءة والكتابة. كذلك أيضًا آلمني تحميل شقيقتي الكبرى عبء العمل المنزلي على حساب التعليم المدرسي.

لم أنتبه إلا في السنوات الأخيرة أنني بالغت في إهمالي لشؤوني الأسرية وخاصة أن حالات المرض ازدادت وبالأخص حالة الوالدة، لكنني بدأت أولي اهتماما أكثر منذ مدة، بعد أن شعرت أنه لزام علي أن ألتفت لأسرتي أكثر. كبر الأولاد، وحملت زوجتي فتحية المكافحة العبء وحدها رغم أنها امرأة عاملة أيضا، كان لزاما علي ترتيب أوقاتي لأمنحهم وقتا واهتماما أكثر. يحضرني أيضًا كيف تم اعتقال زوجتي وابننا أشرف في حضنها وكان عمره أسبوعين وتقديمها للمحاكمة وتغريمها بآلاف الشواقل بحجة الهتاف لمنظمة التحرير الفلسطينية وعرقلة عمل الشرطة أثناء محاولة اعتقال أحد أشقائي وبعد منتصف الليل، وقد تم اعتقالها في كمين نصب على الطريق بين كوكب وسخنين عام 1985.

للأسرة حق علي، لكن كل سياسي يدرك أن هناك أثمانا شخصية يدفعها، وبالمقارنة مع تضحيات أهلنا في الضفة والقطاع ومخيمات اللجوء، أو شعوب أخرى دخلت ثورات طويلة، وبالمقارنة مع الشهداء والأسرى.. نحن نقوم بأقل من واجبنا بل أشعر أحيانا بالتقصير.

توصف بأنك محافظ ولديك تشدّد؟

هذا يتعلق بكيفية فهم المحافظة. فإذا كان ذلك يعني الارتباط بثقافة مجتمعك وبقيمه وتقاليده العظيمة والحفاظ على الحياة الأسرية فأنا محافظ أما إذا كان المقصود غير متنوّر وتقليدي فهذا غير صحيح.

أعتقد أنني منفتح وأحمل بقوة أفكار الحداثة، والتنوير والمساواة والقيم الإنسانية، أنا ضد الجمود، بل نحن نمثل ثورة ضد الجمود السياسي. لقد تكونت ثقافتي منذ بواكير الشباب عبر الجمع بين الثقافة الدينيّة، والفكر النهضوي، والفكر المادي كالماركسية، والفكر النقدي لها أيضًا. مصدر ثقافتي الأنبياء المرسلون المسيح ابن فلسطين، والنبي العربي محمد عليهما الصلاة والسلام، وفلاسفة كماركس وإنجلز ولينين وغيرهم، وبعدهم مفكرون عرب إسلاميون وعلمانيون وساطع الحصري، الكواكبي، الأفغاني، ميشيل عفلق، ياسين الحافظ وعصمت سيف الدولة وغيرهم الكثيرون. السياسة بدون فكر قشرة لا تدوم ولا معنى لها، بل تتحول إلى انتهازية وقلة أخلاق.

ماذا ينتظر القيادة الجديدة؟

هناك حاجة ملحة للتجديد في المهمات التي تنتظر القيادة الجديدة وإطلاق المبادرات، وإعادة النظر في الكثير من آليات العمل، سواء التنظيمية أم الجماهيرية، وسنبذل الجهود على تطوير بناء الجهاز التنظيمي وإدخال عناصر جديدة وواعدة. نحتاج إلى وضع استراتيجيات حقيقية تتوكّل بها هيئات مهنيّة مختصّة، كثيرًا مما كان يصلح في السابق لم يعُد ينفع في الحاضر.

ينبغي بذل جهود أكبر اتجاه قضية السجناء، واتجاه أهلنا في الضفة والقطاع. أعتقد أن المهام والتحديات القادمة كبيرة، وأتوقع تطورات دراماتيكية على الساحة، كما أن الهجمة والمؤامرة خيوطها متشعبة، وينبغي التفكير في الرد على ذلك ومواجهته وهي مهمة ليست سهلة لكنني واثق من قدرات هذه الحزب. ومن قدرات شعبنا المناضل. هناك أيضًا مهام وقضايا ستكون مطروحة أمام الهيئات الجديدة مثل الشارع الإسرائيلي والعلاقات الدولية.

إلى أي حد تتقبل النقد؟

يزعجني النقد المبني على معلومات خاطئة. النقد الموضوعي ليس حقا بل واجبا وضروريا بحيث يكون مؤسسًا على معلومات وتقييم موضوعي.

---------------------------

أم المناضلين والأسرى

هذه الوالدة، هي نموذج الأم الفلسطينية المكافحة في مختلف بقاع الوطن والشتات، جمعت بين صلابة الموقف وحنان الأم، وأنشأت أبناءها على حب الوطن والعطاء والتضحية والاستقامة. كانت أما للرعيل الأول من أبناء الحركة الوطنية في المنطقة ولبعض المناضلين من الجولان السوري المحتل، تستقبلهم في بيتها تكرمهم وتقوم على خدمتهم وتشيد بالطريق الذي سلكوه. لم تتخلف، قبل أن يقعدها المرض، عن المشاركة في المناسبات الوطنية، ولم تتوان حين كانت تزور أبناءها في السجن، عن الاستغناء عن المال القليل الذي في جيبها لسد حاجة أسير عربي دون أن تقلق في كيفية العودة من حيفا أو شطّا أو كفار يونا إلى قريتها كوكب، قائلة لابنها الذي يرافقها: الله يبعث..، ولم تفكر مرتين حين هجمت على أفراد الشرطة بالحجارة حين رأت أحد أبنائها مصابا ومعتقلا، وقاومت مدفوعة بمشاعر الأمومة لتخليص ابنها، وبقيت تقاوم حتى وهي مكبلة اليدين..

لم تخضع لا هي ولا الوالد لنقد الناس حول طريق أبنائها الوعر. كانت أحيانًا تُصاب بالإعياء الشديد من كثرة الملاحقة وزيارة السجون وتعبّر أحيانًا عن غضبها. ولكنها تظل متماسكة في الموقف وهو موقف فطري عفوي نابع من القلب والوجدان والورع الشديد الذي تميّزت به.

 --------------------------

والد أبناء الحركة الوطنية

 تميز الوالد بصلابته، ورفضه للمساومة. قاوم في حرب الـ48، وترك استشهاد شقيقه الأكبر أثرًا بالغًا في نفسه. غرس في أبنائه حب فلسطين، وفتح بيته لأبناء الحركة الوطنية.

حين فصل ابنه عوض من سلك التعليم، عام 1979 قبل أن يكمل ستة أشهر (في ثانوية النقب ومن ثانوية عرابة عام 1980) ، واضطر للعمل في أشغال شاقة، حاول أذناب السلطة استغلال الموقف، وتوجهوا إليه عارضين عليه التوسط لإعادته، لكن الوالد نظر إليهم بازدراء واحتقار رافضا أي حديث حول الموضوع، فجروا ذيولهم وخرجوا بخيبتهم..

 توفي وهو فخور بأبنائه. كان يُعبّر عن إعجابه بعبد الناصر وحسن نصر الله وعزمي بشارة. حين كنت أزورهم في منزل العائلة كان يستقبلني بحفاوة، وكان دوما يقرأ ما أكتب ويعبر عن إعجابه به، كنا نتبادل أسماء الكتب، ونغوص عميقا في تاريخ فلسطين، والنكبة، وتاريخ كفر مندا، مبديا إعجابه مرارا بأحد أجدادي الذي ينسب له الفضل الأكبر في مقاومة مخطط لتهجير القرية.. كان يسرد تفاصيل وأسماء، قسم أعرفه وأجهل آخر.. وكان الحديث معه ممتعا ومفيدا.. وهو من نوع الناس الذين يصعب نسيانهم.

التعليقات