إسرائيل تعوض النازيين وتحرم الفلسطينيين!../ غسان فوزي

تم الاتفاق بين الطرفين على أن تقوم دولة إسرائيل بتعويض المستوطنين النازيين المطرودين من فلسطين عن كامل ممتلكاتهم

إسرائيل تعوض النازيين وتحرم الفلسطينيين!../ غسان فوزي

عندما اكتشفت في دراستي لتاريخ فلسطين العثماني أن الاستيطان الأوروبي المنظم بدأ بموافقة السلطان والحكومات العثمانية المتعاقبة منذ سنة 1840 إلى سنة 1914، بدأت أعد المعلومات وأجهزها لوضعها في الميدان لصالح النضال السياسي الذي كنت من مؤسسي مدرسته الوطنية الجديدة الناشئة بمرافقة صعود المقاومة والثورة الفلسطينية والثورة بعد هزيمة الدول العربية سنة 1967. والنضال الميداني فكر أيضا وإن ظن البعض أنه مجرد اجتماعات ومظاهرات لا يرقى منظموها إلى مستوى الفهم الفكري للسياسة والاجتماع ومقاومة الاستعمار القديم والجديد. أقول ذلك لكي أقطع بالبرهان أن من اختار طريق النضال يجمع بين الفكر والميدانية أينما كان موقعه. فليسترح الأكاديميون المتكبرون على المناضلين، وليتفعل المناضلون المستهترون بالأكاديميين والعمل الفكري.

كتبت ما كتبت لأقدم لكم مثالا عمليا جمعني مع الأخ والرفيق المناضل مراد حداد ابن مدينة شفاعمرو والقيادي في حزب التجمع الوطني الدمقراطي. ففي حين ظلت ملفاتي عن الاستيطان تنظر فرصة نشرها فاجأني الأخ مراد حداد باكتشاف ميداني لكنيسة من بقايا الاستيطان الألماني الذي بدأ في الأربعينيات. اكتشف مراد الكنيسة المهجورة في مستوطنة (ألوني آبا/ بلوطات آبا) التي تقوم على أراضي القرية الفلسطينية المهدومة أم العمد وغيرها. ولم يهدأ له بال حتى واجه المسؤولين في المستوطنة، وطالب باستعادة الكنيسة إلى ورثتها الطبيعيين من أبناء فلسطين، وذلك لوضعها في خدمة المجتمع الفلسطيني كله، وخاصة أهالي شفاعمرو والمنطقة. وما يتوفر لدي من معلومات يقول إن مبادرة الأخ مراد لها دور كبير في النجاح، وبذلك نكون قد استرجعنا شبرا من الأرض والعمار كان السلطان العثماني الحاكم الشرعي للبلاد قد منحها للمستوطنين الأوروبيين بهدف تشجيع الاستثمار واسترضاء الحكومة البروسية/الألمانية حليفته القريبة.

فما قصة الاستيطان الألماني إذا؟ وأين الألمان وأين آثارهم؟ وهل هي كنيسة واحدة فقط أم أنها أحياء وقرى كاملة سيطرت إسرائيل عليها؟ وكيف تم لدولة اسرائيل السيطرة على تللك الممتلكات وهل تم تعويض أصحابها الألمان، أم أن الدولة عاملتهم كما تعامل الفلسطينيين، أي أنها سلبت أملاكهم بدون تعويض؟ كل هذه الأسئلة لم تعد الآن مجرد بحث في التاريخ بل عمل على الأرض وسياسة وطنية بناءة أسستها فطنة الأخ مراد، والتعاون المستمر لجلاء الصورة عن فصل من تاريخ شعبنا الصابر المكافح، ولأجل الحصول أيضا على شبر من الأرض عليه كنيسة تستحق أن تقام فيها الصلاة وينعقد فيها دروس الإيمان بالحق والحقوق بعيدا عن الانغلاق والإقصاء والعدوان. وقد اتصل مراد بالقس فؤاد داغر وبدآ رحلة البحث عن أسباب وجود هذه الكنيسة، وعن أسباب تغيير معالمها خاصة إزالة الصليب الذي تربع عاليا على قبة الكنيسة، كما تبين آثاره. وبالتعاون مع المحامي وسام قحاوش وهيئات أخرى يتم التحضير جديا لاستعادة ملكية الكنيسة لصالح روادها المؤمنين والفلسطينيين جميعا.

الحقيقة أن دولة الخلافة العثمانية دخلت مرحلة تجددها العسكري العام من خلال تطورها نحو الاقتصاد الرأسمالي وزيادة الاتفاقيات مع الدول والشركات وأصحاب المشاريع الأوروبين. وكان أحد أشكال تلك الاتفاقيات  تشجيع بعثات الاستطلاع والتنقيب ومشاريع الاستيطان والبحث والمسح السكاني التي بادرت إليها مؤسسات أوروبية كثيرة. وذلك بالرغم من أن الجزائر الولاية العثمانية شبه المستقلة قد تم احتلالها سنة 1830 من قبل فرنسا، الدولة الصديقة والحليفة للحكم العثماني. وفي سياق البحث عن أفق وطرق لتحديث الدولة العثمانية وبقائها بمستواها العالمي القوي، وافق عدد من السلاطين الأقوياء على ترخيص الاستيطان لمجموعات من أمريكا وبروسيا/ألمانيا وروسيا وبولندا وغيرها. وكان أفراد تلك المجموعات وأفكارها من أتباع الفرق المسيحية واليهودية الغربية.

ابتدأ الاستيطان نحو سنة 1840 بواسطة مجموعات مسيحية تؤمن باقتراب نهاية العالم من ولاية مين الأمريكية. مثلت تلك الجماعة أول استيطان أوروبي/أمريكي منظم لكنها لم تستمر طويلا كجماعة. وقد توقف الاستيطان الأمريكي فقط بسبب عدم تحمل أعضاء المجموعة لظروف المعيشة في فلسطين ولأسباب تتعلق ببنيتها التنظيمية والفكرية. لكن مجموعات أمريكية أصغر عادت وظهرت في القدس سنة 1881 ومن أبرز المعالم الباقية لذلك الاستيطان عمارات فندق الأميركان كولوني في القدس. ومع تفكك المجموعات الاستيطانية الأمريكية الأولى كانت المجموعات الاستيطانية من الدولة الحليفة، الإمبراطورية البروسية، قد وصلت إلى فلسطين وحصلت على تصاريح الإقامة والعمل، فاشترت تلك المجموعات ممتلكات ومستوطنات وحقول ومباني الاستيطان الأمريكي وبدأت مشروعها الجديد. وفي المواجهات بين أهالي يافا وقراها سقط أول شهداء فلسطين مدافعين عن حقوقهم أمام الاستيطان المدعوم بالحكم الشرعي في البلاد، الحكم العثماني. أما القرى الزراعية الألمانية الثلاث: وليهلما، فالهايم، بيت لحم فقد أقيمت في زمن السلطان عبد الحميد بين 1902-1907، وذلك قبل الثورة الدستورية سنة 1908.

وفي أعقاب الاستيطان الألماني ومع استمرار تطوره،  جاء مشروع الاستيطان الفرنسي وكان مشروعا ثقافيا على نمط المشاريع الفرنسية المكرسة لتأهيل يهود فرنسا للمشاركة في الحضارة الفرنسية.  وكما في حالة الاستيطان الأمريكي والألماني، قدم السلطان الأراضي والتصاريح الحكومية والحماية البوليسية التي أتاحت لمنظمة الاتحاد الإسرائيلي العالمي، أليانس ايزرالييت يونيفيرسال، تأسيس مدرسة على أراضي يازور، عرفت فيما بعد باسم مدرسة "ميكفيه يسرائيل" وذلك في سنة 1870. وتبين لي من بحث في الموضوع أن أهالي يازور عارضوا المشروع وقدموا العرائض والشكاوى الرسمية واشتبكوا مع المهندسين والمساحين وأوائل المستوطنين الإداريين والشرطة العثمانية التي جاءت لحمايتهم. وقد شملت مقاومة المشروع  اليهود المقيمين في فلسطين من أوروبيين وشرقيين. فقد عارضوا إقامة المدرسة لكونها علمانية تنهى عن العبادة والقداسة، ولكون المدرسة كانت تبشر بالثقافة الفرنسية وتدرس اللغة الفرنسية باعتبارها لغة الحضارة المنتصرة. ولنترك البحث الفرنسي ونعود إلى الاستيطان الألماني.

بعد احتلال بريطانيا فلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين لصالح الحركة الصهيونية، كان في فلسطين مستوطنات ألمانية لها حضور اقتصادي في مجالات الزراعة والنقل والمواصلات والعقارات في القدس وحيفا ويافا والجليل. استمر انتعاش المستوطنات الأوروبي الألمانية إلى جانب المستوطنات الأوروبية الصهيونية وكانت مشاريع الاستيطان مستقلة عن الفلسطينيين في إداراتها ومصالحها ووجهة تطورها وفي تعاون فيما بينها. ومع صعود الحزب النازي برئاسة هتلر إلى الحكم في ألمانيا أصبح أغلب المستوطنين أعضاء ومناصرين للحزب النازي. وكانوا يمارسون نشاطاتهم الحزبية والسياسية المؤيدة لهتلر ولم يعرف عن أي محاولات لقمع ذلك النشاط من قبل الحكم البريطاني أو من قبل المؤسسات العسكرية والمدينة الصهيونية المدعومة من الحكم. وفي تلك الفترة، أي فترة صعود النازية، كان الحكم البريطاني والصهيوني في فلسطين يحارب الفلسطينيين بهدف القضاء على تمردهم وثورتهم المطالبة بوقف الاستيطان الأوروبي والحصول على الاستقلال.

بقي الأمر على هذا المنوال حتى نشبت الحرب العالمية الثانية في نهاية 1939، عندها قامت القوات البريطانية بمحاصرة المستوطنات الألمانية ووضع المستوطنين تحت الرقابة والاعتقال. بعدها تم نفيهم إلى أستراليا حيث بقوا هناك أو عادوا إلى ألمانيا. قامت بريطانيا بمصادرة ممتلكات الألمان باعتبارها أملاك عدو. وبعد إقامة دولة إسرائيل وهدم إقامة دولة فلسطينية نشطت حكومة إسرائيل في مجال السيطرة على الممتلكات الألمانية وعلى نقل الملكية من بريطانيا إلى دولة إسرائيل. وبعد مفاوضات عسيرة حققت إسرائيل السيطرة على تلك الممتلكات. وفي سنة 1952 مع بدء مفاوضات الإسرائيلية الألمانية الرامية إلى قيام حكومة المانيا الاتحادية الغربية بتعويض مواطنيها اليهود ضحايا النازية (ألمانيا الشرقية الشيوعية رفضت تعويض إسرائيل) تم فتح صفحة أملاك المستوطنين الألمان في فلسطين، والذين أصبحوا مطرودين أو لاجئين عن وطنهم وممتلكاتهم.

بعد جولات طويلة من المفاوضات والاختلاف بالرأي بين المتفاوضين الحكوميين الألمان والإسرائيليين وبمشاركة المنظمات الصهيونية العالمية، تم الاتفاق بين الطرفين على أن تقوم دولة إسرائيل بتعويض المستوطنين النازيين المطرودين من فلسطين عن كامل ممتلكاتهم. وتم تقدير الأملاك بمبلغ 54 مليون مارك ألماني. في المقابل وصل مبلغ التعويضات الألمانية للإسرائيليين 750 مليون دولار، وللمنظمات اليهودية مبلغ 113 مليون دولار. واتفقت الأطراف أن يتم خصم مبلغ 54 مليون فرانك من تلك التعويضات. وقد تم ذلك وتسلم المهجرون الألمان النازيون أو ورثتهم تلك المبالغ فعليا. إذا إسرائيل دفعت تعويضات لأعضاء في الحزب الألماني النازي ولمؤيدي الحزب النازي وذلك ضمن اتفاق وافقت عليه الدول الأوروبية الغربية والولايات المتحدة. فهل يسجل المفاوض الفلسطيني هذه الحقيقة أمام عينيه وأمام العالم!

لقد حان الوقت إذا لكي نتجاوز فشل الثقافي والسياسي الفلسطيني العام في الانتباه للاتفاق بتعويض النازييين، وإدراك الإمكانيات الكامنة للاستفادة منه لصالح حقوق اللاجئين والمهجرين. فهل ستسجل فئات المثقفين والسياسيين والصحفيين ومؤسسات دولة فلسطين والسلطة الفلسطينية هذه الحقائق! انعدام التعليقات الفلسطينية على اتفاق التعويض الذي مضى عليه واحد وستون عاما. يقابله تصاعد النقد والبحث الإسرائيلي العلني في الدراسات الإسرائيلية منذ ست سنوات في أقل تقدير. كما برز الاتفاق على طاولة البحث الجماهيري عندما تناولت الصحف الإسرائيلية جوانبه المختلفة، وذلك لارتباطه بمشاريع تطوير كبيرة في مدينة تل أبيب، وفي قضايا تعويض جديدة مرفوعة إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، وفي مناقشات برلمانية حضرها نائب واحد، على الأقل، من النواب الفلسطينيين في البرلمان الإسرائيلي/الكنيست.

اختتم بالقول إن إسرائيل دفعت التعويض للنازيين، وتسلمت أكثر ممتلكاتهم الشخصية، كما أنها قامت بشراء بعض الأملاك خاصة في منطقة المستعمرة الألمانية "سارونا" المعروفة بأنها القرية الحكومية (هكرياه) مقر المكاتب الحكومية والوزارات المختلفة. وقد بدأت الوزارات بالانتقال فارتفع سعر الأراضي مما دفع ببعض الورثة الألمان بتقديم شكاوى جديدة مطالبين بالمزيد من التعويض. من جهتها قامت السلطات الإسرائيلية بإنقاذ ثلاثة بيوت من المستعمرة الألمانية "سارونة" حيث قصتها من الأساس، ونقلتها إلى مكان خاص لتكن تراثا محفوظا. فيا لتواصل الاستيطانات الأوروبية وحنينها الأخوي المذهل في حين تهدم مدن فلسطينية كاملة بمعالمها الأثرية ومفاخرها العمرانية! إضافة لذلك فقد سمحت السلطات والهيئات الإسرائيلية المختصة لأحد الورثة بالرجوع إلى بيته وإنقاذ خزينته من النقود الذهبية التي كانت داخل جدران عمارة أخرى في سارونة. وحصل الوريث على كنزه المدفون فكم من كنوز الفلسطينيين سرقتها دولة إسرائيل، وكم من كنوز وأملاك يهود قتلتهم النازية سلبتها إدارات معينة في دولة إسرائيل حتى استدعى الأمر لجان تحقيق ومتابعة برلمانية!

تعويض النازي والإساءة إلى الضحايا الفلسطينيين واليهود أيضا يجب أن يكون على جدول المباحثات الفلسطينية والمطالب الفلسطينية أمام كل الدول الأوروبية وأمريكا. أما الكنيسة، فقد وجدت في بحثي أن الممتلكات العامة كالكنيسة لم تصادرها دولة إسرائيل وبقيت بيوتا دينية... فيا لهول المقارنة مع المقابر والكنائس والمساجد والأوقاف التي صادرتها اسرائيل من الفلسطيينيين. المهم أن ذلك يجعل مشروع مراد ومشروع تلاحم الأكاديمي والميداني تجربة مهمة وسنضع كل جهدنا لاستعادة الكنيسة إلى الحضن الفلسطيني الحنون. شكرا مراد حداد على حدة النظر وقوة الحدس الفلسطيني.
 

التعليقات