المهجرون الفلسطينيون في ظل الحكم العسكري

تعتبر فترة الحكم العسكري مرحلة حاسمة ومؤسِسة في مسار تثبيت الاقتلاع واللجوء الفلسطيني، حيث أن عدم عودة اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين الداخليين إلى قراهم ومدنهم، يقع في صلب أهداف الحكم العسكري الذي تم تفعيله رسمياً ما بين عام 1948.

المهجرون الفلسطينيون في ظل الحكم العسكري

(أ.ف.ب)

تعتبر فترة الحكم العسكري مرحلة حاسمة ومؤسِسة في مسار تثبيت الاقتلاع واللجوء الفلسطيني، حيث أن عدم عودة اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين الداخليين إلى قراهم ومدنهم، يقع في صلب أهداف الحكم العسكري الذي تم تفعيله رسمياً ما بين عام 1948 وحتى عام 1966.

وعلى الرغم من كون المهجرين الفلسطينيين في الداخل مستهدفين بشكل أساسي من قِبَل الحكم العسكري وأذرعه، إلا أن الأدبيات القائمة لم تنصفهم، وبهذا، تقوم هذه المقالة بتسليط الضوء على وضعية ومكانة المهجرين الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم خلال هذه الفترة.

جاء الحكم العسكري قُبيل انتهاء العصابات الصهيونية من المجازر والقتل والتهجير والسيطرة على الأرض، إذ بلغ مجمل عدد الفلسطينيين في المناطق التي قامت عليها إسرائيل عشية النكبة عام 1948، حوالي 900 ألف نسمة، وخلال أحداث النكبة، هجرت القوات الصهيونية ما يقارب من 750 ألفًا، ليتبقى منهم حوالي 156 ألف فلسطيني يعيشون داخل الحدود، والتي تحولت بعد النكبة، إلى دولة إسرائيل، وتُعرف بمناطق الـ48. ومن بين هؤلاء، بقي من 30 إلى 40 ألفًا ضمن ما يُسمى بـ'المهجر الفلسطيني الداخلي'.

هبة يزبك

وتم فرض المواطنة الإسرائيلية، على 'المهجرين'، كباقي الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم، ولكن السلطات الإسرائيلية منعتهم من العودة إلى قراهم وبيوتهم، وحولت جميع ممتلكاتهم وأراضيهم وقراهم المدمرة إلى ملكيتها، من خلال التنظيمات اليهودية ومؤسسات الدولة. وبهذا شكل الحكم العسكري الأداة الأساسية لتثبيت الاقتلاع ومنع اللاجئين من العودة لبلداتهم وقراهم، حيث أن تنفيذ قوانين الطوارئ الموروثة من الانتداب البريطاني والمتمثلة بالحكم العسكري، كانت بمثابة الجهاز السياسي والقانوني والعسكري، والذي وفر إمكانية الاستمرار ببناء الدولة اليهودية، وتوغل الاستعمار الاستيطاني في الوطن والأرض الفلسطينية.

شهدت السنوات الاولى من الحكم العسكري تحولاً جذرياً في المكانة السياسية للمهجرين، حيث قامت الحكومة الإسرائيلية عام 1951، بإيقاف عمل 'الأونروا' - وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في اوساط المهجرين، وهدفت بذلك لنزع صبغة اللجوء عنهم، وذلك بادعاء أن المهجرين هم 'مشكلة إسرائيلية داخلية'، ولا تقتضي 'التدخل الدولي الخارجي'، وبهذا ساهمت إسرائيل 'بعدم مَشكَلة' قضية المهجرين، وبدأت بشملهم ضمن الإحصائيات القائمة حول  الفلسطينيين غير المهجرين الباقيين في وطنهم، وذلك ضمن سعيها لتحويل المهجرين لمجموعة 'لامرئية'.

وبهذا الأسلوب، مَنعت إسرائيل تأطيرهم ضمن 'إيجاد الحلول' لوضعهم، محاولةً فَصل قضيتهم عن سائر اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات والمنافي، الأمر الذي ساهم فعلياً في تحويل قضية المهجرين لقضية 'هامشية' و 'مُهمَلَه' فلسطينياً وعربياً، على مدار أكثر من أربعة عقود إلى حين طرحها على الأجندات السياسية من قبل المهجرين أنفسهم، وذلك بعد توقيع اتفاقية أوسلو.

كنيسة إقرث المهجرة

وإلى جانب التنصل الإسرائيلي الرسمي من عودة المهجرين إلى بلداتهم الأصلية، وشملهم بالإحصائيات والسجلات العامة حول الفلسطينيين، منعاً لتشكل تكتل جماعي بأوساطهم، ومنعهم من المطالبة بحقوقهم الجمعية وعلى رأسها حق العودة، حيث قامت الدولة بعدة خطوات إضافية لضمان تثبيت التهجير، وذلك من خلال عدة ممارسات أساسية أتاحها نظام الطوارئ:

1.  هدم البلدات المهجرة والبيوت بالكامل، وفي الكثير من الحالات بيع حجارة البيوت والتخلص منها كلياً.

2. تجريد الفلسطيني المهجر من أدوات المواجهة ومصادرة السلاح.

3. ملاحقة المهجرين في بلدات اللجوء، وإبعادهم خارج حدود الوطن وهو ما يسمى بـ'الكب'. 

4. تفعيل سياسات الترهيب والتخويف وعلى رأسها قمع الجيل الشاب، وزجهم في السجون.

5. مصادرة الاراضي وتفعيل قانون 'الحاضر الغائب'، وإعلان القرى المهجرة مناطق عسكرية.

هذه الممارسات وغيرها، تؤكد على أن المهجرين هم أصلاً مشروع لاجئين خارج حدود الوطن، وليس بداخله وفق المشروع الصهيوني، الذي فشِل ولو جزئياً، بعد تمكن المهجرين من البقاء داخل حدود الوطن. وبهذا، تمثلت التجربة الجمعية للمهجرين بمزيج من الخسارة والخوف واللجوء المستمر، مقابل المثابرة والنضال من أجل البقاء على أرض الوطن رغم التهجير، إلا أن تشبثهم وبقاءهم داخل حدود وطنهم، لم يكن بالمهمة اليسيرة، في ظل التضييق اليومي على وجودهم وملاحقتهم المستمرة خلال فترة الحكم العسكري، التي عملت على الفصل المكاني والحيزي بين المهجر وبين بلدته الأصلية، كما وساهمت بتثبيت موقع ومكانة المهجر في البلدات المُضيفة.

سياسة 'التصاريح' وتجلياتها

مارس الحكم العسكري ضد الفلسطينيين الضبط الفعلي من خلال تقييد الحركة والتحكم اليومي بمسار التنقل، وحول سياسة 'التصاريح' للانتقال ما بين بلدة وأخرى، إلى آلية 'عقابية' يتم من خلالها السيطرة على الفلسطينيين. وقد تم إصدار التصاريح في حالات محددة، وبرز احتياج الفلسطيني لهذه التصاريح للخروج للعمل وضمان العيش الكريم، أما في حالة المهجرين، فقد شكل 'تصريح' العمل حالة اصطدام يومي مع مكانتهم الجديدة كمهجرين، وتجلى هذا الشيء بتحولهم للعمل كأجيرين في أراضيهم المصادرة وفي وطنهم المقتلع، الذي اضطروا لتشييد بنائه الجديد، ليستقبل المهاجرين اليهود الجدد في بلداتهم وأراضيهم وفضائهم.

وعلاوةً على الألم النفسي والشخصي الذي ولدته حالة التهجير وانعكاساتها اليومية، فإن إصدار 'التصاريح' للتنقل ضمن الوطن المسلوب، اشترط كذلك 'حسن السلوك'، وعدم القيام 'بمشاغبات'، وفي حالة المهجرين يضاف إلى تقييم 'حسن السلوك'، عدم المطالبة بالعودة إلى البلدة المهجرة، وكذلك عدم المشاركة في مظاهرات تتعلق بهذا الشأن. أي إن إسرائيل لم تهدف فقط إلى خلق نفسية فلسطينية عامة تتمثل بـ'العربي الجيد' و'العربي الخاضع'، من خلال سياسيات 'شد الخناق'، كذلك سعت لخلق نفسية وشخصية 'المُهجر الخامل' وهو بنظرها المهجر الذي لا يطالب بالعودة لبلده وأرضه، والذي يرضى بالأمر الواقع، وإن خالف ذلك، يعاقب إما بالحرمان من تصريح العمل، أو بالمحاكمة والسجن في حال نظم أو شارك بمظاهرات للمطالبة بعودته. ليس هذا وحسب، بل إن الحكم العسكري 'عاقب' أيضاً من اختار التوجه للقضاء؛ فبغض النظر عن القرارات القضائية لم تتوانى السلطات بمصادرة الأرض أو هدم البلد وإبقاءها منطقة عسكرية كحالة قريتي إقرث وبرعم.

إقرث

وبهذا 'استغلت' إسرائيل مرحلة الحكم العسكري للعمل، ليس فقط على هدم المكان وتطهيره، وإنما أيضاً على الضبط النفسي للمهجر ضمن استخدام آليات عقابية من شأنها قمع وجوده. كما عمل نظام الحكم العسكري على بناء شخصية مهجرة 'صامتة'، ليس فقط جراء تأثيرات صدمة التهجير والاقتلاع وفقدان الوطن، بل أيضاً جراء ممارسات سياسية قمعية وتعسفية هدفت إلى 'محو بقائه'، وإزالة صيغة التهجير والتخلص من استحقاقاتها.  

إن الإنهاء الرسمي للحكم العسكري، تمثل بتثبيت وضعية التهجير، وتثبيت بناء الدولة اليهودية الجديدة، وعلى الرغم من مرور 50 عاماً على انتهاء حقبة الحكم العسكري، إلا أن قوانين 'الطوارئ' هي أصل النظام في إسرائيل، وليست استثناءه، والاستثناء في مثل هذه الحالة هو نهوض الفلسطينيين في إسرائيل، ومن ضمنهم المهجرين، والاستمرار بمقارعة ومواجهة النظام الصهيوني، لبناء وعي فلسطيني متجدد ومتشبث، يضمن عدم الكف عن المطالبة بحق العودة للقرى والمدن المهجرة.

التعليقات