يافا في يوم الحب سنة 1948

ربما كان هناك من احتفل بيوم الحب من داخل المعارك والاشتباكات، ولكن يافا ستحتفل دائما سنة بعد سنة، وفي هذا اليوم المميز بالذات، بحب هؤلاء المجاهدين في سبيل صمودها أولا وبحب كل يافاوي تهجر من المدينة

يافا في يوم الحب سنة 1948

(أ.ف.ب)

يحتفل العالم بعيد الحب يوم الرابع عشر من شهر شباط/فبراير من كل عام. فهل فعلا يستطيع الشعب الفلسطيني المشرد أن يحتفل مع العالم؟ العائلات التي انفصلت عن بعضها وتفككت؛ الآباء والأمهات الذين فقدوا أولادهم؛ الأخوة الذين فقدوا إخوتهم وأخواتهم؛ الأعمام والعمات والخالات والأخوال الذين رحلوا رغما عنهم؛ والأحفاد الذين لم يحظوا بالتعرف على الأجداد والجدات.

كيف يمكن المحافظة على الحب في زمن النزوح والتشرد واللجوء؟ ولكن عنقاء فلسطين ستنبعث بإشعاع وإشراق الحب والنور والامل في كل عيد حب، بعد أن لم تنجح محاولات مهاجمتها وإفنائها حتى في عيد الحب سنة 1948.

سنة 1948 كانت سنة مصيرية صعبة شهدت تصعيدا عسكريا كبيرا ما بين الفلسطينيين واليهود بمشاركة فعالة للانتداب البريطاني بما تقتضي مصالحه التي كانت تتشابك مع مصالح الشعب اليهودي.

أرشيفات الدولة والأرشيفات الخاصة تكشف الكثير من تاريخنا وتاريخهم. فأرشيف الدولة مفتوح للمعاينة في الموقع الخاص به، ويحوي على الكثير من المستندات والمراجع المهمة. بالمقابل، لا يوجد لدى الشعب الفلسطيني في الداخل أي أرشيف منظم يحوي تاريخنا بشكل مركز، ومن هنا نغور في أرشيفاتهم للبحث عن الأحداث والإحصائيات والمعطيات من أجل ذلك وبوعي كامل أنها محدودة الضمان. ولكن مع انعدام البديل بالنسبة للكثير من التاريخ لا يبقى سوى استغلال هذه المصادر ودراستها ونشرها.

جنود بريطانيون أمام بلدية يافا (ويكيميديا)

المقال يعتمد على مواد محفوظة في أرشيف الدولة التي تتطرق للأوضاع التي سادت في يافا، مثل هذه الأيام من العام 1948 حيث شهدت المدينة أوضاعا حربية عامة، تصاعدت في هذا الشهر والأشهر التي سبقته وتلته، مثل نسف سرايا الحكومة يوم 1948/1/14 إلى أن احتلت قوات 'الهاجاناه' المدينة يوم 1948/4/26 وتوقيع وثيقة استسلام المدينة يوم 1948/5/15.

يستدل من هذه المستندات أن المدينة كانت موزعة لعدة جبهات حربية، ولكل جبهة قيادة موكلة بتلك الجبهة تترأسها قيادة عامة مسؤولة عن كل هذه الجبهات، كانت تتسلم تقارير يومية من كل جبهة هذه هي 'حامية يافا'. هذه الجبهات هي: أبو كبير، البصة (شرق منطقة النزهة) وشارع سلمة، المنشية، تل الريش (جنوب شرق يافا)، تل الريش الشمالية (قرب منطقة طاسو)، المذبح أو المسلخ (قرب أبو كبير)، الجبالية، كرم الصوان (جبالية 2)، سكنة درويش، القرية العربية (المناطق الثلاث الأخيرة تقع قرب منطقة بات يام وحولون)، وكرم التوت (بمحاذاة الحاووز في منطقة العجمي وشارع الحلوة).

هذا، وكان المحاربون في بعض هذه الجبهات من سكان المدينة بقيادة صلاح الناظر، وهو من المقربين للهيئة العربية العليا التي ترأسها المفتي أمين الحسيني، إضافة لمحاربين من دول عربية أو متطوعين أجانب كحملة الجنسية اليوغسلافية الذين تجندوا لجيش الإنقاذ بإشراف الجامعة العربية، ولكنها جميعها كانت موحدة تحت قيادة حامية يافا. كذلك كانت هناك حاميات في حيفا والقدس وكانت جميعها تحت إشراف جيش الإنقاذ بقرار من الجامعة العربية.

قائد حامية يافا كان مواطنا عراقيا يدعى عادل نجم الدين الذي غادر المدينة عند اشتداد المعارك في شهر نيسان/أبريل من سنة 1948، حيث رفض التعاون مع الشاب اليافاوي ميشيل العيسى الذي تسلم أمر القيادة من قائد الجبهة الوسطى فوزي القاوقجي، وفر بحرا بعد أن حاول الفرار برا، ومنعه العيسى بعد رفضه تسليم الحامية بشكل منظم ما أدى إلى فرار أغلبية أفراد الحامية، وعلى إثر ذلك فر الكثير من فريق أجنادين الذي حضر مع العيسى لنجدة حامية يافا.

بقايا السرايا القديم إثر تفجيره من قبل منظمة 'الإرجون' اليهودية عام 1948 (ويكيميديا)

يوم السبت 1948/2/14 كما جاء في مستندات أرشيف الدولة، الملف رقم 1463 للقسم التابع لمكتب رئيس الحكومة من مستندات الهيئة العربية العليا بعنوان 'مجرى المعارك بين العرب واليهود':

 'كرم التوت – هدوء نسبي عدا طلقات متفرقة أطلقها العدو؛

 سكنة درويش – أطلق اليهود النار من خزان الماء على استحكامات بيارة المحصل من الساعة 9 حتى 11 مساء، وفي الصباح حدثت بعض المناوشات معهم، فأصيب يهودي قرب خزان الماء. (ملاحظة خزان الماء التابع للمنطقة ذاتها )؛

 المنشية -... في الساعة العاشرة صباحا حاول بعض اليهود التسلل لشارع العالم، ولكن المجاهدين أطلقوا النار عليهم فقذف اليهود عليهم قنابل الدخان وفروا، في المساء كسر الجيش البريطاني باب دار أبو الروس وقبض على المجاهدين المستحكمين فيه، وأخذهم لمركز بوليس المنشية حيث ثارت ضجة مع البوليس الوطني والبلدي (إذ أن البوليس البريطاني كان قد جلا عن هذا المركز)، ثم اتصل الجنود البريطانيون بقائدهم الذي أمرهم بإطلاق سراح المجاهدين، وإعادة أسلحتهم. كما أمرهم قائدهم المذكور بعدم دخول البيوت العربية أو مصادرة أسلحة العرب؛

 تل الريش تبادل نار متقطع حتى الساعة 1 صباحا، في الساعة 1:30 صباحا حاول بعض اليهود الاقتراب من استحكامات المجاهدين ولكنهم ردوهم، وقتلوا أحدهم؛

 البصة هدوء في النهار، في الساعة 1 اطلق اليهود النار على استحكامات المجاهدين فأجابوهم بالمثل، كما ردوا محاولة هجوم قام بها اليهود، ودام تبادل النار نصف ساعة. وقد استشهد المجاهد كايد قحطان اليمني وهو في الاستحكام الأمامي؛

سينما الحمرا (ويكيميديا)

 المذبح... في الساعة 6 صباحا حضرت دبابة للهاجاناه عند بيارة الشيخ علي، وأطلقت رشاشاتها على استحكاماتنا، فأجاب المجاهدون عليها بالمثل، وفي الساعة السابعة صباحا حضرت دبابة للجيش وأخرى للبوليس عند قهوة البنا، قرب أحد استحكامات المجاهدين، فأنذروها بالرجوع فرجعت؛

تل الريش الشمالية هاجم المجاهدون اليهود في مستعمرة 'نيتر'، وتمكنوا من كسر وتحطيم كشافهم، وذلك لإسكات اليهود الذين يطلقون النار بكثرة على المجاهدين من المستعمرة المذكورة ومن معملي السبيرتو والسكب؛

 الجبالية أطلق اليهود قنابل المورتر والسايند على كرم الصوان، وأصابوا رجلا وفتاة عربيين بجراح خطرة، وصبيا بجراح بسيطة. وقد حاول بعض اليهود التقدم نحو الجريح العربي لأخذ بندقيته، فأرجعهم المجاهدون وقتلوا ثلاثة منهم. في الساعة الثامنة مساء حاول اليهود الهجوم على القطاعين الغربي والأوسط من المنطقة، ولكن المجاهدين ردوهم وأصابوا ثلاثة منهم، كما دمر المجاهدون أحد الأوكار اليهودية بقنابل المورتر، ودام تبادل إطلاق النار بشدة مع اليهود حتى الساعة 11.30 مساء؛

كرم صوان في الساعة 7:30 مساء نسف المجاهدون بيتا يهوديا مؤلفا من طابقين، وفي الظهيرة ضرب اليهود قنابل الهاون على الآمنين العرب، فأصيبت امرأتان وصبي بجراح، كما استشهد أحد مجاهدي سكنة درويش الذي جاء للنجدة'.

هذا باختصار شديد ما جرى في بعض الجبهات في هذا اليوم الذي تشير إلى مجمل الحوادث، كما جاءت في الملف المذكور أعلاه الذي تركزه حامية يافا. إلا أن تفاصيل هذا اليوم نجدها بالملفات المختلفة التي دونت به كل جبهة بالتفصيل المعارك والاشتباكات اليومية التي خاضتها، ثم إرسالها إلى حامية يافا التي تجمعها معا من أجل تلخيص حوادث كل يوم على مستوى المدينة.

ربما كان هناك من احتفل بيوم الحب من داخل المعارك والاشتباكات، ولكن يافا ستحتفل دائما سنة بعد سنة، وفي هذا اليوم المميز بالذات، بحب هؤلاء المجاهدين في سبيل صمودها أولا وبحب كل يافاوي تهجر من المدينة. 

التعليقات