العنف في مؤسسات التعليم: مرآة للمجتمع

قضية العنف في المدارس تتصدر عنوانين الأخبار لمدة ساعات، تتوالى فيها بيانات الشجب والاستنكار ويعلن الأهالي والطاقم التدريسي الإضراب، تعقد بعدها الجلسات الطارئة. لكن لسبب ما سرعان ما نعود بعدها للانشغال بعمليات قتل أو سطو مسلح أو عمليات هدم واسعة

العنف في مؤسسات التعليم: مرآة للمجتمع

كانوا ثلاثة، ربما استمعوا إلى آخر النشرات الإخبارية واستبشروا خيرا بتوقعات الأرصاد الجوية التي أنبأت بنهاية أسبوع دافئة بعد أيام من البرد القارس الذي خيم على النقب. لم يترددوا كثيرا، وضعوا أقنعتهم على عجل لتخفي ملامحهم ولكنهم تأكدوا أن تبقى رسالتهم شاخصة في وضح النهار وأمام الملأ. اعترضوا السيارة، وتأكدوا أن الرجل فهم جدية تهديداتهم بعد أن كسروا زجاج السيارة الأمامي، أنزلوه بسرعة فسلم لهم نفسه ملاقيًا قدره بعد الخطيئة التي اقترفها في اليوم السابق.

إنها ساعات الصباح من يوم الخميس في شقيب السلام التي تعج بحركة السير، هذا المشهد ليس مأخوذا من أفلام الملاحقات البوليسية التي تحظى بمعدلات مشاهدة عالية، إنها حادثة الاعتداء على معلم مدرسة ثانوية في قرية شقيب السلام في النقب يوم الخميس الماضي، والتي أعلن في أعقابها مجلس أولياء أمور الطلاب الإضراب، كانت خطيئة المربي هي إخراج الطالب من الصف ليمثل أمام مربي صفه.

رئيس مجلس أولياء الأمور في القرية، مصلح أبو كفيف، طالب بوضع حراسة على كل المؤسسات التعليمية، وأعرب عن خشيته من تكرار الحادثة في حال عدم اتخاذ وتدابير حازمة للقضاء على الظاهرة 'ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا ولقد طالبنا المجلس المحلي بوضع حراسة على كافة المؤسسات التعليمية'. وأضاف أبو كفيف قائلا 'سنعقد جلسة مع مدير دائرة المعارف في 'الوسط البدوي'، محمد الهيب، لمناقشة الخطوات القادمة ووضع خطة تفصيلية لمحاربة هذه الآفة'.

العنف في المؤسسات التربوية

إنها الخوارزمية المعهودة، قضية العنف في المدارس تتصدر عنوانين الأخبار لمدة ساعات، تتوالى فيها بيانات الشجب والاستنكار ويعلن الأهالي والطاقم التدريسي الإضراب، تعقد بعدها الجلسات الطارئة. لكن لسبب ما سرعان ما نعود بعدها للانشغال بعمليات قتل أو سطو مسلح أو عمليات هدم واسعة وأمور باتت تعتبر جزءًا من الروتين اليومي.

وتشير الإحصاءات في تقرير السلطة القطرية للقياس والتقييم في وزارة المعارف (فبراير 2016) إلى تراجع طفيف على مستويات العنف في المدارس العربية، وقد أظهرت النتائج تفاوتا بين المدارس اليهودية والعربية التي ينتشر فيها العنف بأشكاله المختلفة بصورة أوسع، وتحديدا العنف القاسي والعنف الجنسي، حيث أفاد ما يعادل نسبة 15% من طلاب صفوف الرابع حتى الحادي عشر، من العينة المستجوبة، تعرضهم للعنف القاسي في الشهر السابق لتمرير الاستمارات مقارنة ب 7% في أوساط الطلاب اليهود. وتشير النتائج إلى أن 17% من الطلاب تعرضوا للعنف الجنسي بنسبة تعلو بقليل أقرانهم من المجتمع اليهودي. وتؤكد نتائج الاستبيان أنه كلما كانت ظاهرة العنف أكثر خطورة انخفضت نسبة التبليغ عنها وعليه يمكننا الاستنباط أن نسبة العنف في المدارس العربية أعلى مما ورد في الاستبيان.

المدرسة مرآة للمجتمع

يؤكد الأستاذ خالد أبو عصبة في مقال نشر له في مجلة مدى الكرمل، أن ظاهرة العنف في المؤسسات التربوية لا يمكن فصلها عن المناخ الاجتماعي 'إن العمل التربوي التعليمي يرتبط ارتباطا وثيقا بواقع المجتمع بكل حيثياته وتفاعلاته ويتأثر به'. فالمدرسة لا تعمل في فراغ بل تكاد تكون مرآة عاكسة للمجتمع وقيمه.

كما لخص بحث عن الجريمة والعنف في المجتمع العربي صدر عن جامعة حيفا ومركز أمان للمجتمع الآمن، إلى تباين أسباب تفشي العنف في المجتمع الفلسطيني في الداخل بين السياسي الاقتصادي والبنيوي. فعلاوة على العنف الممارس من قبل الأجهزة القمعية المباشرة مثل الشرطة، والتي راح ضحيتها أكثر من 69 مواطن عربي منذ عام 2000 قتل على يد الشرطة، فإن سياسات الدولة والتي أقيمت على ركام القرى والمدن الفلسطينية تضييق الخناق أكثر وأكثر على الفلسطيني في كافة مناحي الحياة.

 وقد عزت الأبحاث استفحال ظاهرة العنف في المجتمع العربي إلى عدة عوامل متداخلة، منها تفكك الخلية الحمائلية وتراجع سطوة العائلة الموسعة، بعدما فقدت دورها الوظيفي في المجتمع الفلاحي القروي. وقد حدث ذلك بعدما صادرت إسرائيل الأراضي وفرضت تقييدات على حركة الفلسطينيين في ظل الحكم العسكري وقضت على أي ملامح لاقتصاد فلسطيني مستقل. أُجبر الفلسطينيون على أثرها بالانخراط في هامش سوق العمل الإسرائيلي كأجيرين وعمال، ما عزز النزعات الفردانية. يضاف إلى ذلك الشعور بالاغتراب وغياب الدولة التي ما زالت تغذي هذه الحالة لطبيعة تكوينها وسياستها الإقصائية تجاه المواطنين العرب.

وأظهر تقرير أعدته النائبة عن التجمع الوطني الديمقراطي والقائمة المشتركة، حنين زعبي، أن احتمال الإفلات من العقاب وعدم إدانة الجناة في المجتمع العربي يعادل 7.4 أضعاف نسبته في الشارع اليهودي، ما يشير بوضوح إلى أن الشرطة الإسرائيلية غير معنية بمحاربة الجريمة التي تُستخدم كأداة لبسط الهيمنة والتطويع، وتكفينا الإشارة إلى أن عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون إسرائيل بلغ سبعة آلاف أسير عام 2016، لندرك مفهوم الجريمة في الشرع الإسرائيلي. وتشير المعطيات إلى أن معدلات الجريمة في القرى والبلدات التي أقيمت فيها محطات شرطة تفوق تلك التي لم تقم بها مثل تلك المراكز. ويتضح من الحقائق والقراءات المختلفة أنه لا تعويل على الشرطة الإسرائيلية لحل مشكلة تفاقم الجريمة في مجتمعنا، فهل يمكن اتباع منهجية الحل من الداخل؟

نماذج عملية للحل

شدد الخبير في شؤون التربية والتعليم، الأستاذ خالد أبو عصبة، على أهمية العمل على إيجاد الحلول 'هناك ضرورة لطرح نماذج تدخل عملية للحلول على مستوى محلي تعتمد على طرح رؤية تربوية اقتصادية وقد أشبعنا من التحليل والتشخيص'. وأكد د. أبو عصبة على الحاجة الملحة لتعميق التربية القيمية داخل مدارسنا في ظل التركيز على الجانب التحصيلي فحسب 'مدارسنا لا تشتغل في المجال التربوي ومنشغلة في التحصيل العلمي'.

وفي معرض رده على دور المؤسسات الوطنية قال أبو عصبة 'لي عتب كبير على لجنة محاربة العنف المنبثقة عن لجنة المتابعة على انشغالها في الشكليات بدلا من المضمون'. وأشار أبو عصبة إلى صعوبة المهمة في ظل حالة من غرق مجتمعي في العنف وتسأل بمرارة 'كيف نتوقع من المبنى السياسي المحلي الذي يعتمد على العنف محاربته والقضاء عليه؟'.

وخلص في حديثه إلى ضرورة 'إيجاد ثقافة عمل سياسي ومهني جماعي وليس فرداني تتخذ نماذج عملية. وأنهى حديثه قائلا 'لقد تجاهلنا المهمشين والمستضعفين في مجتمعنا، ففي بحث أجريته وسيصدر في كتاب قريبا عن الموضوع، يتضح أن كل ضحايا العنف في إحدى البلدات ممن تسربوا من المدارس ولا أحد يعبئ بهم'.

التعليقات