المجتمع العربي: تغيرات الديمغرافيا والطبقة الوسطى

دأب صناع القرار في إسرائيل على مدار السنوات الأخيرة على التلويح ببعبع التكاثر الطبيعي وعملوا على بث الذعر في أوساط الإسرائيليين من الهاجس الديموغرافي والتحذير من مغبة فقدان الأغلبية اليهودية.

المجتمع العربي: تغيرات الديمغرافيا والطبقة الوسطى

عرعرة، أيلول/ سبتمبر 2016 (رويترز)

* انخفاض حاد في معدلات النمو الطبيعي في أوساط العرب وارتفاع معدلات الطلاق

* الطبقة الوسطى بين الاغتراب والانغماس في الاستهلاك ودورها في قيادة المجتمع


دأب صناع القرار في إسرائيل على مدار السنوات الأخيرة على التلويح ببعبع التكاثر الطبيعي وعملوا على بث الذعر في أوساط الإسرائيليين من الهاجس الديموغرافي والتحذير من مغبة فقدان الأغلبية اليهودية.

بالمقابل، عكفت حكومات إسرائيل المتتابعة على تقديم الدعم المباشر لتشجيع الولادة عند اليهود من خلال توفير مخصصات الأولاد وتقديم تسهيلات ضريبية، في حين سعت وفق ما يراه محللون لكبح معدلات الزيادة الطبيعية عند العرب، وذلك من خلال طرق مختلفة لعل أبرزها التضييق على القرى العربية ومنع توسيع مناطق نفوذها وعدم المصادقة على مسطحات البناء، ما فاقم من الأزمة السكنية الخانقة التي يعاني منها المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني.

وقد أظهرت إحصائيات نشرها معهد 'فان لير' في تقريره السنوي حول المجتمع العربي، تراجعا كبيرا على معدلات النمو ومعدل الخصوبة الكلي للنساء العربيات، في غضون ذلك كشف التقرير عن ازدياد عدد حالات الطلاق. وأشار التقرير إلى تراجع معدلات الولادات عند النساء العربيات من 4.3 في العام 2001 حتى وصلت 3.1 في العام 2013.

وبحسب التقرير فإن نسبة الطلاق في المجتمع العربي في الداخل شهدت ارتفاعا من 6.3% في العام 2002 إلى 7% في العام 2012 فيما بقيت نسبة الطلاق في أوساط اليهود ثابتة وتراوح 9%.

في النقب، على وجه التحديد، أظهرت معدلات الولادة ونسبة الخصوبة تراجعا دراماتيكيا من 8.7 في العام 2001 حتى وصلت 5.3 في العام 2013. هذا بينما ارتفع معدل الخصوبة الكلي عند النساء اليهوديات في الفترة الموازية من 2.5 إلى 3 ولادات.

وأظهرت توقعات التغيرات الديمغرافية التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن نسبة العرب ستنخفض من 21% عام 2016 إلى ما يعادل 19% في حلول العام 2065 (يشمل القدس والجولان المحتلين).

صعود الطبقة الوسطى بين العزوف عن السياسة والبحث عن امتيازات

ونقل الملحق الاقتصادي لصحيفة 'هآرتس' منتصف حزيران/ يونيو عن أستاذ علم الاجتماع، أ. عزيز حيدر، قوله إن 'نسبة الطبقة الوسطى في المجتمع العربي شهدت ارتفاعا ملحوظا من نسبة 17% قبل عقدين حتى وصلت 27% وإن اهتماماته تنصب أكثر حول قضايا الإسكان والتعليم من الصراع العربي الإسرائيلي' كما جاء في التقرير.

ويعتبر كثيرون أن الطبقة الوسطى هي قطار التنمية المجتمعية، وتشغل وظيفة تنويرية، وهي الطبقة المنتجة ومحل الحراك والتفاعل والإبداع في المجتمع. وعلى الرغم أن تصنيف الطبقة الوسطى في إسرائيل يعتمد على مستوى الدخل إلا أن مسمى الطبقة الوسطى ارتبط أساسا بأنماط الإنتاج والاستهلاك المغايرة، فالأمر لا يمكن اختزاله بمستوى الدخل فحسب، بل يتعدى ذلك لأمور تتعلق بمستوى التعليم والثقافة العامة.

وأثار الحديث عن صعود الطبقة الوسطى والتغييرات الديمغرافية في المجتمع العربي نقاشا بين من نبّه من أنماط السلوك السياسي المحلي للطبقة الوسطى التي تتسم بالعائلية والمصلحية وانغماسها بنمط حياة استهلاكي وعزوفها عن العمل السياسي الوطني وسط حالة من الاغتراب المجتمعي بسبب انكفائها على ذاتها والسلوك الانتهازي بحثا عن خلاص فردي واهتمامات غير مسيسة في ظل واقع مأزوم، ما حدا بالبعض القول أن الطبقة الوسطى 'تخون' دورها وتتخلى عن مهمتها في تطوير المجتمع.    

وذهب آخرون للقول إن هذه الادعاءات فيها من التجني والتهويل، فالطبقة الوسطى تفرز المثقفين والمتعلمين، وهم طليعة العمل الوطني، والانتعاش الاقتصادي سيؤدي بالضرورة إلى تناول قضايا سياسية، فمن ضمن لقمة العيش وأكثر قليلا يمكنه السماح لنفسه بالانشغال بالقضايا العامة. 

التعليم ومهننة العمالة

وأجرينا هذا الحوار مع المدير العام للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار، د. هنيـدة غانـم:

إلى ما ماذا تعزين هذا التراجع الملحوظ على نسبة الولادة؟

غانم: التغيير الحاصل في الديمغرافيا يمكن تفسيره من خلال عدة عوامل منها ازدياد نسبة التعليم من جانب ومهننة العمالة من جانب آخر.

هنيدة غانم

لا شك أن ارتفاع أعداد الطالبات العربيات اللواتي يطرق باب الأكاديميا كان له دور في تراجع معدلات الولادة إذ تجاوزت نسبة الطالبات أقرانهم الشباب. الشق الآخر لتحليل الظاهرة يتعلق بالتطور الحاصل على أنماط العمالة والتطور الاقتصادي في البلدات العربية. مهننة العمالة واتساع المهن المقترنة بالطبقة الوسطى مثل المدرسين والمحامين ساهمت في اتساع الطبقة الوسطى، إلا أنه على الرغم من ارتفاع مستوى المعيشة فإن الهرولة وراء سداد الالتزامات وانتشار القروض الاستهلاكية مع زيادة الاحتياجات تثقل كاهل الطبقة الوسطى وتبقيها تكافح بشق الأنفس للحفاظ على مكتسباتها.

بالمحصلة، اكتساب قيم ناتجة عن تطور الطبقة الوسطى والاستثمار أكثر في التعليم في أوساط الطبقة الوسطى مقارنة بمجتمع فلاحي أو قوى عاملة يحيلنا إلى إنتاج حقل قيم مختلق بسبب التغييرات في الحقل نفسه، ولذلك بالضرورة تغيير على التوقعات والتطلعات المعيشية ما يؤدي بدوره إلى خفض معدلات الولادة وهي أمور ارتبطت بالحداثة.

هل تعتقدين أن هذه التغييرات الحاصلة على معدلات النمو هي طبيعية أم نتاج سياسات موجهة؟

غانم: لا أعتقد أنه يمكن اختزال المسألة وتبسيطها حصريا بسياسات موجهة، بالمقابل لا شك أن حكومة إسرائيل مسرورة من هذا الانخفاض. هناك تمييز واضح ضد المواطن العربي، والأمر ينسحب على بنية الدولة وكيفية تقسيم الصالح العام والحيز العام، والمنطق الناظم لكل هذا هو الإبقاء على الهيمنة اليهودية، لكن في نهاية المطاف ما يحدد ليس الأرقام فحسب بل قدرة الأفراد والمجتمعات أن تكون فاعلة ومؤثرة في صوغ مستقبلها والأمر يتعدى النسبة العددية على أهميتها.

بنظري، العائلة الصغيرة والتي تستثمر في تعليم أبنائها وتمنحهم الأدوات لتسلق السلم الاجتماعي تميل أكثر للعمل وتتحلى بوعي سياسي أكبر مقارنة بغيرها، ما يؤدي لرفد طبقة المثقفين الذين يشكلون طليعة العمل السياسي والوطني بطاقات جديدة. أؤمن أن المجتمع الفلسطيني قادر على إفراز طبقة قادرة على أن تقود المشروع الوطني وتجترح آليات وطرق للمضي قدما، وعلينا أن نتذكر أن من يقود الحراكات والثورات ليس أبناء وبنات الخمسين عاما المنهكين بالقروض، بل شباب الطبقة الوسطى بالأساس.

تردي الأحوال الاقتصادية

وحاورنا د. فهيمة عباس من معهد 'ترومان' للأبحاث في الجامعة العبرية:

ما هو السبب على التراجع الديمغرافي حسب رأيك؟

عباس: من الواضح أن ارتفاع نسبة التعليم وتأخر سن الزواج عند النساء العربيات المرافق له يساهم في إحداث تغيرات ديمغرافية في المجتمع العربي ويؤدي إلى تراجع عدد الأولاد. كما أن الواقع الاقتصادي وتردي الأحوال الاقتصادية وغلاء المعيشة وتضخم الأسعار، لا سيما الارتفاع الحاد في أسعار العقارات والأراضي في ظل انعدام فرص عمل عالية الدخل في البلدات العربية، دفع بالكثيرين إلى التخلي عن فكرة إنجاب عدد أكبر من الأطفال.

ما هي أنماط السلوك السياسي المتوقع للطبقة الوسطى؟

فهيمة عباس

عباس: نرى مسارين مختلفين لنشأة الطبقة الوسطى في المجتمع العربي، من جانب ارتبط ظهور الطبقة الوسطى بالتمدد الحضري واتساع اقتصاد السوق عموما وصعود نفوذ السلطات المحلية في البلدات العربية على وجه التحديد. وهكذا تبلورت طبقة اجتماعية ارتبطت مصالحها بقربها من المجالس المحلية ورسخت علاقات نفعية مصلحية ما جعلها أقل ميولا لأخذ مواقف سياسية أكثر جذرية.

بالمقابل، نشأت طبقة من المتعلمين وهذه المجموعة التي تناولتها في بحثي والتي اختارت العيش في حيفا وتل أبيب لأسباب متنوعة، منها من اضُطر بسبب الضائقة السكنية أو بحثا عن فرص عمل أو من اختار السكن بحثا عن مناخ اجتماعي مختلف وأسلوب حياة غربي. هذه المجموعة وبحكم احتكاكها المباشر مع المجتمع الإسرائيلي وبعكس التكهنات حول مظاهر أسرلة متوقعة، إلا أنها تتبنى مواقف سياسية أكثر جذرية وتظهر وعيا سياسيا متقدما، الأمر الذي يمكن تفسيره بانكشافها المباشر على العنصرية والتمييز التي تسود المجتمع الإسرائيلي تجاه المواطنين العرب خاصة في فترات التي تشوبها أجواء توتر سياسي أو أمني. إجمالا يمكن القول أن هناك تباينا في أنماط السلوك السياسي وفقا للجغرافيا والسياق الاقتصادي، فالطبقة الاجتماعية التي نشأت في البلدات العربية وارتبط صعودها بالعلاقة مع السلطة المحلية تكون معنية أكثر بالإبقاء على مصالحها وتبتعد عن تبني مواقف مناوئة للسلطة، وذلك مقارنة بالطبقات التي نشأت بعيدا عن هذه الامتيازات، ولعل أكثرها فاعلية تلك الطبقة المثقفة التي تنشأ على هامش المدينة اليهودية وتصطدم يوميا بواقع العنصرية.

تحولات دراماتيكية

وقالت د. علا نبواني من قسم علم الاجتماع في الجامعة العبرية لـ'عرب 48' إن 'التغيرات الحاصلة في العائلة العربية هي تحولات دراماتيكية، نحن نشهد انخفاضا كبيرا على معدلات الولادة والسبب يعود في رأيي لسعي النساء العربيات لتحسين ظروف حياتهن وحياة أولادهن'.

وأضافت أن 'طالبات العلم والعمل يجدن صعوبة على الملاءمة ما بين العائلة والعمل، فنتائج أبحاثي الأولية تشير إلى أن الزواج المبكر دون سن 21 عاما والإنجاب المبكر دون سن 22 عاما وعدد الأولاد الكبير يضعفان من فرص المرأة العربية في الانخراط بسوق العمل وترقيها لمناصب رفيعة بوظائف إدارية تكنولوجية ومهنية'.

اقرأ/ي أيضًا | عن صعود الطبقة الوسطى

التعليقات