26/11/2023 - 18:05

الحرب الإسرائيليّة الفلسطينيّة: كيف خذلت "ميتا" الفلسطينيّين مرّة أخرى؟

غالبًا ما تعكس سياسات إدارة المحتوى ديناميكيّات القوّة الدوليّة، وكحال العديد من الاستراتيجيّات الّتي تتبعها الشركات الأخرى، فإنّ سياسات ميتا مدفوعة بمزيج من المصالح التجاريّة والسياسيّة الّتي تفلتر العالم من خلال عدسة المصالح العالميّة الأميركيّة

الحرب الإسرائيليّة الفلسطينيّة: كيف خذلت

مظاهرة لفلسطينيّين أمام مقرّ شركة ميتا (Getty)

إنّ الاعتماد على الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ المتحيّز، سواء فيما يخصّ الرموز التعبيريّة (الإيموجيّ) أو إدارة المحتوى، يعدّ أمرًا مجرّدًا من الإنسانيّة ومهينًا.

كفلسطينيّ، عاودت ميتا خذلاني مرّة أخرى، ففي مثال جديد على التجرّد من الإنسانيّة، كشفت إحدى مزايا تطبيق واتساب الّتي تسمح للمستخدمين بالبحث في الصور الّتي يُنشئها الذكاء الاصطناعيّ، عن صور عنصريّة صارخة ضدّ الفلسطينيّين، حيث عرض تقرير حديث لصحيفة الجارديان، أنّه عند إجراء بحث عن "فتى مسلم فلسطينيّ" يتمّ توليد صورة كرتونيّة لطفل يشهر سلاحًا، في حين أنّ الذكاء الاصطناعيّ يولّد عند البحث عن "فتى إسرائيليّ" صورة أطفال يمرحون ويلعبون.

هذا ليس سوى غيض من فيض في الاتّجاهات العنصريّة المتكرّرة الّتي ترتكبها ميتا، الشركة الأمّ المالكة لواتساب، إذ شهدت نمطًا متصاعدًا في هذا الاتّجاه في أثناء سنوات خدمتي السبع الّتي قضيتها كمدير في مؤسّسة الحقوق الرقميّة الفلسطينيّة حملة.

إنّ الاعتماد على الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ المتحيّز، سواء للرموز التعبيريّة (الإيموجيّ) أو إدارة المحتوى، يجرّد الفلسطينيّين من إنسانيّتهم، كما أنّه مهين لهم، وعلى مدار الأزمة الراهنة، أسكتت ميتا وراقبت الأصوات الفلسطينيّة باتّباع أسلوب منهجيّ، كاتمة واحدة من السبل الوحيدة غير المفلترة الّتي يمكن للعالم بأسره أن يسمع عبرها صوت الفلسطينيّين مباشرة.

ومع فضح الإبادة الجماعيّة أمام أعين العالم خلال الشهر الماضي، اعتمد الناس على وسائل التواصل الاجتماعيّ من أجل مشاركة أصواتهم والإبلاغ عن الوقائع الّتي تجري على الأرض، إلّا أن تهمًا وجّهت لميتا جرّاء استهداف وإزالة المحتوى المناصر لفلسطين في المقام الأوّل، وعليه، شكّل هذا الصراع القائم اختبارًا حاسمًا لشركة ميتا، أفضى إلى فشلها القاطع، حيث فرضت خلاله رقابة على الأصوات الفلسطينيّة على المستويين الفرديّ والتنظيميّ.

إسكات الفلسطينيّين

قامت ميتا في الشهر الماضي بتعطيل صفحة الفيسبوك الخاصّة بشبكة قدس الإخباريّة، وهي منصّة إعلاميّة فلسطينيّة بارزة يتابعها حوالي 10 ملايين متابع، إلى جانب عدد من الصفحات الإعلاميّة الفلسطينيّة الأخرى. أمّا حكومة إسرائيل، الّتي تضغط بشكل روتينيّ على شركات وسائل التواصل الاجتماعيّ في محاولة للسيطرة على الأخبار، سرعان ما تواصلت من على منصّة X (تويتر سابقًا) لنشر عبارة "شكرًا" على نحو غامض.

ليست هذه هي المرّة الأولى الّتي تخذل فيها ميتا الفلسطينيّين خلال الأزمات، ففي أيّار/مايو 2021، ووسط احتجاجات حاشدة ضدّ الإخلاء القسريّ للعائلات الفلسطينيّة من حيّ الشيخ جرّاح في القدس الشرقيّة المحتلّة، لجأ الفلسطينيّون إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ بشكل جماعيّ لمشاركة وجهات نظرهم - وقوبلوا برقابة واسعة النطاق، كما انطوى تقرير نشر عام 2022 بتكليف من ميتا، على أدلّة حول التحيّز ضدّ الفلسطينيّين – وهي بالتحديد القضايا نفسها الّتي أمضيتُ سنوات وأنا أتحدّث عنها، وعليه، أعربت ميتا عن التزامها بالتغيير، وشعرتُ كما لو أنّنا وأخيرًا قد أحرزنا تقدّمًا.

لكنّ هذا الشعور لم يدم طويلًا، وتمّ تفسير الانتشار الأخير للرقابة المفروضة من جانب واحد، وتقييد الرؤية، والأشكال الأخرى الرامية لإسكات الفلسطينيّين على أنّها "خلل فنّيّ"، بيد أنّها تمثّل قيودًا غير مقبولة تحول دون تبادل وجهات النظر عبر الإنترنت. لا توجد مساءلة قائمة على الأعطال الفنّيّة، والأهمّ من ذلك أنّه لا يوجد ما يحول دون وقوعها مرّة أخرى.

في الماضي، دفع الحظر المفروض على الوصول إلى بعض المنشورات بعض المستخدمين إلى اتّهام ميتا بفرض رقابة متعمّدة، وتبدو أحدث المشاكل "الفنّيّة" أكثر فظاعة من سالفتها بكثير، فعلى سبيل المثال، صنّف الرمز التعبيريّ (الإيموجيّ) للعلم الفلسطينيّ على أنّه رمز "يحتمل أن يكون مسيئًا" من قبل منصّة إنستغرام، ممّا أدّى إلى إزالته، كما حدث "خطأ فنّيّ" آخر واجهه مستخدمون فلسطينيّون على فيسبوك وإنستغرام، أدّى إلى منع عرض صور الضحايا الفلسطينيّين في المستشفيات، على اعتبار أنّها صور "عارية".

ومن بين الأمثلة الأكثر أهمّيّة وإثارة للقلق، الترجمة الخاطئة الّتي لم تتمكّن ميتا من تفسيرها لعبارات عربيّة بريئة موجودة في السير الذاتيّة لبعض مستخدمي إنستغرام الفلسطينيّين، حيث أضيفت كلمة "إرهابيّ" إليها، وعزت الشركة ذلك لاحقًا إلى خطأ في الترجمة. لا توجد مساءلة قائمة على الأعطال الفنّيّة، والأهمّ من ذلك أنّه لا يوجد ما يحول دون وقوعها مرّة أخرى.

تشكيك عامّ

لماذا يبدو أنّ كلّ هذه الأخطاء الفنّيّة تؤثّر في الفلسطينيّين حصرًا، ولماذا يتكرّر هذا النمط مع كلّ تصعيد؟

إنّ استخدام كلمة "إرهابيّ"، بدلًا من مصطلح آخر أكثر حياديّة، لم يؤدّ إلّا إلى زيادة الشكوك العامّة فيما يتعلّق بمصداقيّة الشركة وقدرتها على معاملة المستخدمين الفلسطينيّين والعرب على قدم المساواة، ويبدو أنّ هناك تحيّزًا عميقًا في قواعد البيانات وأنظمة التعلّم الآليّ التابعة لشركة ميتا، بالرغم ممّا تبديه الشركة من أسف نحوها.

ولم تصدر أي إشارة مفادها أن ميتا تعتزم إجراء تحقيق داخليّ صارم في هذه الأمور، كما هو الحال في العديد من أوقات الصراع الأخرى، حيث لم يواجه المحتوى التحريضيّ باللغة العبريّة أو العنصريّة ضد الفلسطينيّين نفس القيود أو الرقابة.

غالبًا ما تعكس سياسات إدارة المحتوى ديناميكيّات القوّة الدوليّة، وكحال العديد من الاستراتيجيّات الّتي تتبعها الشركات الأخرى، فإنّ سياسات ميتا مدفوعة بمزيج من المصالح التجاريّة والسياسيّة الّتي تفلتر العالم من خلال عدسة المصالح العالميّة الأميركيّة، وهذا سيؤدّي إلى إثارة مخاوف بشأن التطبيق العادل والشامل لسياسات إدارة المحتوى، ومدى إعطاء منصّات وسائل التواصل الاجتماعيّ الأولويّة للمصالح السياسيّة والاقتصاديّة على حساب حقوق الإنسان. علمًا بأنّ الإسرائيليّين لا يواجهون حاليًّا النوع نفسه من الرقابة المفروضة على الفلسطينيّين.

بناء على ما تقدّم، ينبغي أن تكون سياسات إدارة المحتوى محايدة، كما ينبغي أن نتمسّك بالحقّ في حرّيّة التعبير، بغضّ النظر عن القوّة السياسيّة أو الاقتصاديّة وقربها من مصالح الولايات المتّحدة أو الحكومات الإسرائيليّة، وينبغي أن تسترشد السياسات بحقوق الإنسان والقانون الإنسانيّ الدوليّ؛ وينبغي رفض أيّ معيار يعجز عن تحقيق المطلوب على نحو حتميّ.


* نشر المقال أيضًا بالإنجليزيّة في موقع "ميدل إيست آي".

التعليقات