14/04/2024 - 18:15

مواصلة تدفّّق المعزّين إلى بيت الشهيد دقّة تحدٍّ لنظام الترهيب

إنّ مواصلة تدفّق المعزّين إلى بيت الشهيد، المفكّر، وليد دقّة في باقة الغربيّة، ورغم الاعتداء الوحشيّ على خيمة الاعتصام كأسلوب ترهيبيّ، يشكّل تحدّيًا رمزيًّا ومعنويًّا، لإجراءات القمع غير المعهودة، منذ الحكم العسكريّ...

مواصلة تدفّّق المعزّين إلى بيت الشهيد دقّة تحدٍّ لنظام الترهيب

صورة للمعزّين في بيت الشهيد وليد دقة (صورة خاصّة بـ"عرب 48")

أضاف الاعتداء الّذي نفّذته شرطة نظام الأبرتهايد الفاشي، على خيمة العزاء الّتي نصبتها عائلة الشهيد الأسير وليد دقّة، أمام بيتها، لاستقبال المعزّين، دليلًا جديدًا على هشاشة وخواء مواطنة فلسطينيّيّ الـ48 كانت منحتها دولة كولونياليّة للقلّة الباقية الناجية من التطهير العرقيّ، كشرط للاعتراف الدوليّ بها. كما مثّل ذلك الاعتداء تنكيلًا ساديًّا بعائلة ثاكلة، لابن أسير تعرّض للتنكيل على مدار أكثر من ثلاثة عقود ونصف، وهي ممارسة متجذّرة في التجربة الصهيونيّة الكولونياليّة، اتّخذت شكلًا أكثر وحشيّة وسفورًا في العقدين الأخيرين.

كان لسان حال الجهة المنفّذة لهذه العدوانيّة يذكّر بهذه الحقيقة المرّة، ويعبّر عن سعي المؤسّسة الصهيونيّة الفاشيّة، ليس لإزالة الوهم بأنّ مساواة يمكن أن تتحقّق في دولة عنصريّة واستعماريّة فحسب، بل أيضًا لتعميق الشعور بالخوف والارتداع عن أيّ محاولة لتجاوز خطوط الدائرة الّتي تضيق دومًا، حول عنق هذا الجزء من شعب فلسطين.

حتّى وقت قريب، وقبل أن ينقشع تمامًا وجه دولة إسرائيل، أمام معظم شعوب العالم ومنظّمات حقوق الإنسان الدوليّة، ككيان فصل عنصريّ، استعماريّ استيطانيّ، وامتداد لأنظمة الإبادة الجماعيّة ذات النشأة الأوروبّيّة، توقّعت جماهير الشعب الفلسطينيّ، خاصّة نخبها، من خارج هذه المنطقة المحتلّة منذ عام 1948، أن يستثمروا مواطنتهم، في إطلاق حراك شعبيّ عارم ضدّ الإبادة المستمرّة في غزّة، كما فعلوا في مناسبات تاريخيّة سابقة. غير أنّ هذا لم يحصل، وذلك لأسباب كثيرة أهمّها حملة الترهيب بالغة الشدّة.

إنّ تماثل فلسطينيّي الـ48 مع نضال الشعب الفلسطينيّ التحرّريّ، لا شكّ فيه. والشعور بالفاجعة والغضب إزاء الإبادة الجماعيّة الهمجيّة، عارم، وجميع المبادرات الصادرة عن الهيئات التمثيليّة القطريّة، كلجنة المتابعة، أو عن مجموعات من الأكاديميّين والمثقّفين والنشطاء، جرى محاصرتها ولم يسمح لها بالتحوّل إلى سلوك جماعيّ شامل مؤثّر، والسبب الرئيسيّ وراء ذلك، الظاهر والمتجسّد في الميدان، هو فرض ما يشبه حالة الطوارئ الّتي لجأ إليها نظام الأبرتهايد، على المواطنيّين العرب دون اليهود، منذ شنّ الحرب الإباديّة. طبعًا هناك أسباب داخليّة (اقتصاديّة اجتماعيّة وحزبيّة) لا تقلّ أهمّيّة، وقد تمّ تناولها من قبل الباحثين بكثافة.

إنّ خطورة المرحلة الراهنة ليست نابعة من وجود حزبين في الحكومة، لا يخفيان هويّتهما وممارستهما الفاشيّة والإباديّة، المتمثّلين في حزبي عوتسماه يهوديت، والصهيونيّة الدينيّة، بل في المنظومة الصهيونيّة ككلّ، بحكومتها ومجتمعها الاستيطانيّ، الّذين يدعمون حرب الإبادة بدون أدنى شعور بالإنسانيّة تجاه ضحايا المقتلة.

ومن نافل القول، إنّ حرب الإبادة، الّتي تمثّل نكبة فلسطينيّة أشدّ من نكبة 1948، واصطفاف المجتمع الإسرائيليّ ونخبه السياسيّة والأكاديميّة والمثقّفة حولها، ألحقت المزيد من التشوّه في هذا المجتمع وهذه النخب، وعرّت إسرائيل كدولة بالكامل، وزجتها في خانة النبذ العالميّ الشعبيّ، والرسميّ، المتصاعد، وهو أمر غير مسبوق. لقد شحن المجتمع الإسرائيليّ وأحزابه وقياداته، والأجيال الجديدة بمقادير غير مسبوقة من الحقد، والعنصريّة، والكراهية، والّتي عبّرت ليس فقط عن الرغبة في إحداث المزيد من القضم من الحقوق وما تبقّى من حيّز للتعبير، بل في توجيه التهديد ضدّ الوجود الفعليّ لهذا الجزء من شعب فلسطين. كلّ ذلك يضع هذا الجزء من شعب فلسطين أمام تحدّيات وأسئلة جديدة، إضافة إلى القديمة، والّتي لم تجد بعد أجوبة عمليّة، شافية. هناك مبادرات وتحرّكات بدأت تظهر تباعًا، ولكنّها تحتاج إلى قدر أعلى من الجرأة والسرعة والبداهة، كفعل جماعيّ منسّق.

إنّ المجتمع الفلسطينيّ داخل الأخضر، كما هو الحال مع إخوتنا في القطاع والضفّة الغربيّة، باقون في وطنهم، مهما تضخّم الخطر، وهذا ما كرّره الفلسطينيّون بعد ارتكاب جريمة النكبة عام 1948 وعدم تحقّق العودة حتّى الآن، بالقول إنّهم يفضّلون الموت في وطنهم على تركه. وقد قدّم ويقدّم الفلسطينيّون في قطاع غزّة، الّذين يتعرّضون لأبشع جريمة إباديّة في التاريخ المعاصر، أسطع مثال عمليّ على هذا القول، وهو فعل أسطوريّ أذهل الأعداء قبل الأصدقاء. كما كان فلسطينيّو الـ٤٨ أيضًا جسّدوا هذا القول بالفعل عام 1956، عندما أقدمت حكومة الكيان على ذبح 49 فلسطينيًّا مسالمًا، في قرية كفر قاسم، بهدف دبّ الرعب بين الناس، ودفعهم للهروب والالتحاق بالّذين طردوا عام 1948. كما أنّ هذا الشعب، رغم الخسائر الفادحة، والعذابات الّتي لا توصف، فإنّه على خلاف المجتمع الاستعماريّ الاستيطانيّ الّذي يعيش قلقًا وجوديًّا، غير مهجوس بقلق وجوديّ في وطنه الّذي يعيش فيه منذ آلاف السنين، دون أن يتركه، وهو مهجوس بكيفيّة تحقيق حرّيّته، ومنشغل في معركة طويلة ومعقّدة في عمليّة تحرّره، تتقدّم أحيانًا وتنتكس أحيانًا أخرى.

لكنّ السؤال الّذي أشغلنا جميعًا داخل الخطّ الأخضر، منذ بدء تنفيذ مخطّط الإبادة الهمجيّ ضدّ سكّان قطاع غزّة، والعدوان الدمويّ المستمرّ على الأهل في الضفّة الغربيّة والقدس، وما رافق كلّ ذلك من تصعيد قمعيّ وترهيبيّ وعنصريّ ضدّ المواطنين العرب في الجليل والمثلّث والنقب، هو كيف نصوغ تفكيرنا السياسيّ مجدّدًا، وبناء عليه استراتيجيّتنا، وكيف نخرج من حالة السلبيّة، الطارئة، ونجسّد التفاعل السياسيّ والإنسانيّ المطلوب مع ما يجري. وهو سؤال كبير أضيف إلى أسئلة وتحدّيات أخرى كانت نشأت قبل الحرب، في سياق تسارع انزياح الخريطة السياسيّة والايدلوجيّة والحزبيّة، الصهيونيّة، انزياح نحو الفاشيّة، الّذي نشهده منذ أكثر من عقدين، وبالارتباط بمخطّط نشر الجريمة كجزء من آليّات السيطرة والتحكّم بحركتنا وبحرّيّتنا وبحقوقنا.

إنّ مواصلة تدفّق المعزّين إلى بيت الشهيد، المفكّر، وليد دقّة في باقة الغربيّة، ورغم الاعتداء الوحشيّ على خيمة الاعتصام كأسلوب ترهيبيّ، يشكّل تحدّيًا رمزيًّا ومعنويًّا، لإجراءات القمع غير المعهودة، منذ الحكم العسكريّ، والّذي يضاف إلى ما يتجلّى حاليًّا من إرهاصات العودة إلى الفاعليّة المعهودة، والمطلوب الارتقاء بها في سياق تجسيد لإنسانيّتنا وأخلاقنا، والدفاع عن وجودنا وحياتنا وأمننا، وعن دورنا التحرّريّ كشعب يرزح تحت نير نظام أبارتهايد كولونياليّ.

التعليقات