22/06/2008 - 11:01

من الرئيس التوافقي الى الوزراء التوافقيين../ معن بشور

من الرئيس التوافقي الى الوزراء التوافقيين../ معن بشور

هل تدرك الأطراف المعنية باستمرار أزمة تأليف الحكومة أي ضرر يلحقه استمرار هذه الأزمة بالوطن على كل المستويات؟

قد لا يخرجنا تشكيل الحكومة من الأزمة المصيرية التي تعصف بالبلاد منذ سنوات، ولكن كل تأخير في تشكيلها من شأنه أن يصب الزيت على نار هذه الأزمة ويزيدها اشتعالاً على نحو يهدد مصير البلاد والعباد.
فعلى المستوى السياسي يشّكل العجز عن تسوية حكومية إعلانا مدوياً عن عجز الساسة اللبنانيين جميعاً عن حلّ مشكلات بلدهم بأنفسهم، وأن أي حل يحتاج إلى وسيط من الخارج، أو وصي، أو متنفذ، بكل ما يعنيه ذلك من أثر سلبي على المجتمع والدولة، وعلى الوطن والكيان، خصوصاً أنه في كل الأزمات السابقة كان كل طرف لبناني يضع المسؤولية على هذه الجهة الخارجية أو تلك.

وعلى المستوى الاقتصادي فبعد أن تفاءل اللبنانيون بصيف مثمر على صعيد السياحة والاصطياف، وعلى صعيد جذب الاستثمارات ، فإن كل تأخير في تشكيل الحكومة يعطي إشارات سلبية لكل من حزم حقائبه للسفر إلى لبنان، أو من أعدّ مشاريعه للاستثمار فيه.

وعلى الصعيد الأمني فإن الخلاف المستحكم على صعيد الأزمة الحكومية يجعل الاستقرار في البلد هشاً، ويقرأ فيه العديد من اللبنانيين إعلانا بان اتفاق الدوحة لم يكن أكثر من هدنة مؤقتة، كما يرى فيه المستفيدون من العبث بأمن لبنان واستقراره فرصة لتحقيق أغراضهم.

وعلى الصعيد الاجتماعي، تتحول الهواجس المتبادلة إلى حواجز نفسية ومتاريس سياسية تنطلق من خلفها العصبيات المريضة، والغرائز المنفلتة، والأحقاد الدفينة، والمصالح اللعينة.

هل يمكن للبناني أن يصدق أن حقيبة من هنا (أياً كانت أهميتها)، أو وزيراً من هناك (أياً كان اسمه أو موقعه)، يمكن أن يكون سبباً في دخول العهد الجديد شهره الثاني دون حكومة؟
وهل يمكن لأي لبناني، أن يقبل بأن تتحكم المكابرة من هنا، أو العناد من هناك، في إبقاء بلده أسير الفوضى والاهتزاز؟

قد يحاول البعض تفسير ما يجري بأنه وليد أزمة طبقة سياسية متحكمة في البلاد، أو وليد نظام بات عاجزاً عن حل مشاكل الدولة، أو حتى وليد أزمة كيان بات أعجز من مواجهة المشكلات الضاغطة على شعبه. لكن بالإضافة إلى كل هذا، لا بد أيضا، من التذكير بأن هناك أزمة ثقافية عميقة عنوانها "ضعف ثقافة التسوية"، أو حتى غيابها عن الساسة القيمين على أمور بلد اشتهر بأن التسوية كانت دائماً علّة وجوده، وسبب استمراره، وآليته المعتمدة لاجتراح الحلول.

فمرجعية ثقافة التسوية في بلد كلبنان تكمن في الروح الميثاقية التي ولدت مع استقلال لبنان عام 1943، بل ولد استقلال لبنان معها، والتي ولدت مع السلم الأهلي عشية اتفاق الطائف عام 1989، وولد معها هذا السلم وذاك الاتفاق، كما ولدت مؤخراً مع اتفاق الدوحة الذي ما كان ممكناً أن يقوم لولا تمسك اللبنانيين بالروح الميثاقية ومعهم الأشقاء العرب.

وفي كل هذه الحالات بقي الاستقلال منقوصاً لأن دولته العادلة لم تقم، ولأن السلم الأهلي بقي ناقصاً وعاجزاً عن فتح ذراعيه لكل اللبنانيين، بل بقي طيلة العقدين الماضيين أسير قوى الحرب والمال والتحالف بينها.
ولعل من المفارقات اللافتة أن غياب "ثقافة التسوية" مع الشريك في الداخل وبين أبناء الوطن الواحد كان يرافقها ترويج لثقافة التسوية في الخارج مع أعداء طامعين بالوطن لم يتورعوا، ولن يتورعوا، عن مواصلة الاحتلال والعدوان والقتل الجماعي بحق أطفال شعبنا وشيوخه والمدنيين فيه رغم الوعود البراقة التي تغدقها علينا الإدارة الأمريكية بقصد الإيقاع بين اللبنانيين، ولعل وعد رايس الأخير يندرج في هذا الإطار، خصوصاً أن اللبنانيين يدركون أن إدارة عاجزة عن وقف بؤرة استيطانية صهيونية في القدس لن تكون قادرة على إجبار تل أبيب على الانسحاب من مزارع شبعا، وهو الانسحاب الذي لا يتم إلاّ من خلال المقاومة بكل أشكالها.

فثقافة التسوية هي أن تجيد التنازل لشريكك في الداخل حين تكون قادراً، وأن تدرك أن هذا التنازل شجاعة وشرف ومنعة وحصانة لك من أن تتنازل للخارج.
ثقافة التسوية أن تفهم معاناة البيئة الأخرى وهواجسها وأن تسعى إلى نقلها إلى أبناء بيئتك، ولو أدى الأمر إلى خسارة لموقعك في البداية فهي خسارة تبقى أقل بكثير من الخسارة الناجمة عن تحريض بيئتك على البيئات الأخرى وعلى مجاملة أبناء خطك السياسي على غير حق، وعلى المزايدة لكسب ودهم وربما "دعمهم" أو أصواتهم.

ثقافة التسوية هي ثقافة تشذيب العصبيات لا إطلاقها على مداها، وثقافة تهذيب لغة التخاطب لا السقوط في "التشاتم"، وهي ثقافة تصويب الاتجاه لا الاندفاع في أتون الهاوية، ثقافة نقد الذات قبل نقد الآخرين.
ثقافة التسوية هي ثقافة الدفاع عن حق من تختلف معه في الرأي في وجه كل من يحاول قمعه أو منعه، بل هي ثقافة القدرة على إقناع الآخر والاستعداد للاقتناع منه.
ثقافة التسوية هي ثقافة المشاركة والتراحم في آن، لا الوقوع في شرك المحاصصة والتقاسم، فالأولى سمو وتكامل، والثانية دنو نفس وانحطاط خلقي وسياسي.

ثقافة التسوية، تبدأ بالخروج من المنطق "البوشي" – نسبة إلى جورج بوش- الذي يعتبر أن من ليس معه فهو ضده، وهو منطق ليس بعيداً عن واقعنا اللبناني والعربي، بحيث لا ندري من أخذه عن الآخر، نحن أم جماعة "المحافظين الجدد" الذين باسم "الليبرالية الجديدة" أقاموا أكبر ديكتاتورية دموية في العالم.

ثقافة التسوية هي الوجه الحقيقي لثقافة المقاومة – بالمعنى الواسع والشامل – لأنها تحصنها من شرور الانزلاق في زواريب الداخل ومتاهاته، ولا غرو هنا أن نتذكر أن من ركائز الميثاقية الوطنية اللبنانية التي حملها البيان الوزاري الاستقلالي لحكومة رياض الصلح هو القول الشهير "لبنان لن يكون للاستعمار مقراً أو ممراً" فالتسوية في الداخل هي ضمانة للصلابة بوجه الأعداء في الخارج، أما الانقسام والاحتراب فهما وقوع في مخطط الأعداء، بل إنهما اقصر الطرق إلى التفريط بالثوابت.

فهل يتحلى اليوم كل القيمين على شؤون البلاد بقليل من ثقافة التسوية ليعالجوا الأزمة الحكومية وكل الأزمات اللاحقة؟
وكما نجح اللبنانيون في الإتيان برئيس توافقي فلماذا لا ينجحون بتشكيل حكومة توافقية، بل بحكومة كل وزير فيها هو وزير توافقي؟

التعليقات