05/11/2009 - 14:43

بين سطوة المركزية السنية وتقية التأول الشيعي../ د.عمر سعيد

بين سطوة المركزية السنية وتقية التأول الشيعي../ د.عمر سعيد
لا يمكن لمن في رأسه دماغ وعينان، أن يخطئ بصره تلك الندب المتقرحة والجراح المفتوحة التي خلفتها حراب الفرق والمذاهب على وجه المجتمع الإسلامي وعلى قوامه وأنماط تدينه. تلك الانقسامات التي تفجرت إبان المراحل الأخيرة للخلافة الراشدة (الفتنة الكبرى)، وامتدت أفقيا وعرضياً بطول الحقب التاريخية اللاحقة، وما زالت مفاعيلها تؤذي عصب الأمة إلى يومنا هذا. غير أنه، إذا كان بمقدورنا، من ناحية منطق الاجتماع البشري والتاريخ، تبرير التنازع السني الشيعي في تلك العهود مع كل مأساويته، أي حينما كان الإسلام هو النسق الحضاري التاريخي المهيمن للإنسانية، وعندما اعتبرت كل فئة أن صراعها ضروري بل وواجب مقدس كونه يطمح لتثبيت قواعد الإيمان وترسيخ قسمات الدين الجديد ومجتمعه، ولما شدت بعض الجهات الاجتماعية الصاعدة بخيوطه سعيا للاستحواذ على مفاتيح حكمه بكل ما يعنيه ذلك من قياده للإمبراطورية الأولى في ذاك الزمان.... فكيف لنا إذن، وحالنا ليس بحال، أن نتفهم الآن حماسة بل رعونة الخطاب المذهبي الصادر عن أوساط دينية وازنة في مجتمعاتنا، واستحضاره لذات عناصر المواجهة السنية الشيعية بما يرافقها من أخبار وروايات مغرقة في شذوذها ودمويتها، إلى واجهة وأولويات الأمة، وهي في سفلى درجات سلم شللها وانحطاطها؟!

هذه المقالة الناقدة لن تتعاطى مع الأدوار الخبيثة التي يضطلع بها كثيرون من أساطين النظام العربي وأسيادهم ومخابراتهم وأقلامهم المأجورة في تأجيج نار الفتنة المذهبية كإجراء مفهوم وضروري من جهتهم، لاعتراض وإجهاض الدور المقاوم لإيران وحزب الله وحلفائهما في المنطقة في تيار الممانعة، ذلك لأنها مسألة باتت مكشوفة للجميع وتحظى بمعالجات سياسية قوية ومتواصلة. لذا ستتركز في مناقشة دعاوى تلك الأوساط التي تدعي تمثيلها للخطاب السني وحمايتها لدين الإسلام من التبديع والتحريف، وهي جبهة عريضة تشمل غالبية مركبات السلفية المعاصرة وأحزابها، ونفراً غير قليل من المثقفين الأصوليين وبعض مشايخهم "المتلفزين" جيداً، ومن خلفهم سواد شعبي مذعن ومردد آخذ بالاتساع.

وبطبيعة الأمر، فإن استثناء حركة الإخوان المسلمين المصرية والتنظيمات الإسلامية الفلسطينية وشبيهاتها في منطقتنا العربية من هذا التعميم هو أمر ضروري، خاصة وأن خطابها السياسي الديني متعقل ويتصف بالمسؤولية الواضحة في هذا المستوى، وتبدو مدركة تماماً لأهداف تلك الحملة وواعية لأولويات مهامها، رغم اقتصار ذلك الوعي والانضباط غالباً على نخبها القيادية والفكرية والميدانية دون أتباعها الكثر.

غني عن التأكيد أن مهمة حلحلة تلافيف وتناقضات مشهدنا الديني- السياسي هي مسألة شائكة وقد تكون شبه مستحيلة، فهذا الخليط العبثي المدمر للذات ليس طارئاً على وعي مجتمعاتنا، حيث في كثير من المواضعات الفقهية والحوادث التاريخية، انبرى المسلمون بعلمائهم وجمهورهم، للدفاع عن شقائهم وجهلهم، ظانين أنهم بذلك يذودون عن روح الدين الحنيف ورسالته السمحاء. حينما نمعن النظر بهذه القضية لا بد أن يستعصي علينا فهم واستيعاب دوافع ذاك الهوس المذهبي الموجه ضد الآخر الشيعي، أو حقيقة التوجس السني المبالغ فيه من أي حضور مشارك له في ميدان العمل والتمثيل، حتى ولو كان ذلك في نطاق الفعل الجهادي المقاوم ضد عدو مشترك.

وتزداد دهشتنا بالذات لأن التيار السني ومنذ قرون مديدة، قد سجل "انتصاره الساحق" في ساحات المنازلة التمذهبية، حتى صارت غالبية أمة الإسلام، بعربها وعجمها تعتمده وتدين به. إذن، ما معنى أن تظل هذه المعزوفة المزعجة تطحن وعينا وتتردد في سماء بلادنا، وتتصدر معارض الكتب والصالونات الثقافية والمنتدبات الشعبية والفضائيات المتكاثرة باطراد، كما لو أن "التشيع" يتربص بأهل السنة في جنبات بيوتهم وتحت أشجار حدائقهم.... لينقض ويفترس رصيدهم الديني؟!! لماذا يتعين على القوى الشيعية الوطنية (وهي المتضررة أساسا بهذا الاستهداف) وصاحبة المشاريع المتصادمة مع قوى الغزو والاستعمار، أن تجد نفسها في حالة دفاعية مستمرة تتطلب منها أن تثبت لهؤلاء صدقها وحسن نواياها في صبيحة كل يوم جمعة... وأن تتحمل بخضوع نفاياتهم الفكرية والطائفية دون رد فعل يذكر؟!

لا شك أن إعادة شحن المناخ العربي بشجون الماضي السحيق واستحضار منظومات اللعن والتكفير، التقليدية منها والمستحدثة، في أجواء مريبة من التغافل واللامبالاة ممن يفترض أن يعول عليهم في التصدي لهذه الظاهرة المتوسعة تباعا في صفوف الفئات الشعبية، قد جعل من كلمة "شيعة" أشبه برمز حركي يثير لفظه على الفور تداعيات وحساسيات دفينة. بعد هذا، فقد كان كافيا على سبيل المثال، بأن يوصف الحوثيون في اليمن بالشيعة، وهم تيار من الشيعة الزيدية أقرب إلى السنة منها إلى الشيعة الإثني عشرية، حتى يغرق هؤلاء في ظلام دامس من الإهمال والتجاهل في محنتهم المتواصلة، بل وأن يترك العنان للتيار الوهابي والسلفيين وبغطاء كامل من قبل الأنظمة المتحالفة معهم للمشاركة الفعلية في قتالهم وقمع مطالبهم العادية المشروعة في المساواة وإنهاء سياسة التهميش، وكالعادة، بعد أن تتهم إيران وحزب الله في إذكاء نار التمرد لإعادة تنصيب الإمامة الزيدية واختراق العالم السني.

في المستوى السياسي وارتباطه بهواجس الأمن القومي العربي يحتج أصحاب هذا التيار، لشرعنه عدائهم للشيعة، بحقيقية تورط بعض أهم المرجعيات والقيادات الدينية الشيعية في وحل العمالة للاحتلال الأمريكي للعراق، واعتمادهم نهجا تصفويا، هذا فضلا عن الدور الإيراني الملتبس هناك واحتضانه تلك الزعامات الطائفية. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن رسالة النعي والتعزية بوفاة عبد العزيز الحكيم والتي بعث بها حزب الله، بكل ما تضمنته من عبارات المجاملة والتمجيد، توفر مجالا خصبا للمزايدة المبرمجة، عدا عن كونها، فعليا، محرجة وطنيا وتفتقر لأي مبرر جدي، مثلما لا تسهم في دفع مشروعه الجهادي المميز نحو القمم المرجوة، بل ومن شأنها خلق الانطباع المنطقي وكان ممارساته النضالية تبقى محكومة بالتزامات مذهبية ضيقة، ولا ترقى لحالة كفاحية شاملة تمثل وجه الأمة وتتجاوز نطاق الطائفة والقطر.

أما على المستوى الديني، فيدعي هؤلاء، بقناعة قاطعة، أن النزاع السني الشيعي ضارب الجذور ومؤسس على صراع عقائدي خالص، وعليه فهو مسألة شرعية بالمطلق، ينبغي التعامل معها بمنطق الدين وأدواته الفقهية، تماماً كما واجه ذلك الأسلاف في لحظات وقوعه وتطوره. غير أنهم ينسون أن ظاهرة التمذهب بشكل عام والتشيع على نحو خاص، لم تكن سابقة على العقيدة الواحدة الموحدة، وإنما نشأت منها وعلى أساسها في سياق التباينات المجتمعية والانفجارات الشعبية المتظلمة وثقافة القبيلة، وفي معمعان الصراع السياسي الدامي للظفر بالسلطة وامتيازاتها، حيث جرت فصولها في ظل مناخ ثقافي واجتماعي وعرقي وديني سريع التبدل وشديد الفعالية، شكل فيه الفقه (النص بعلاقته مع الواقع) السلاح الأيديولوجي الرئيسي في تلك المواجهات.

بكلمات أخرى، فإن فقه الأسلاف لم يكن محايداً بالكامل، وعليه فان كثيراً من المعتقدات "والمسلمات"، بل وحتى التصورات الدينية المذهبية، إنما جاءت ثمرة لذلك الاشتباك الشامل والعنيف، وتحولت تحت وطأة الاستقطابات الحادة والمقاتلة المستعرة إلى نظريات وتفسيرات ارتقت، بحكم قانون التوريث والتصحيف، إلى مصاف الحقائق الدينية المقدسة وأضحت تمارس فعلها النفاذ في صياغة العقل الإسلامي العام، والمذهبي منه على وجه التحديد. يمكن لنا أن نذهب لما هو أبعد من ذلك حينما ندعي أن وعينا الديني الراهن، وخاصة في الأمور التي ليس فيها نص، قد خضع هو الآخر لعملية تفكيك وإعادة بناء وإنشاء اقتضتها ضرورات المنازلة المذهبية، وحددتها الممارسة الفقهية الموجهة والمجندة بشقيها السني والشيعي.

في الجانب السني، فإن عصر التدوين بكل ما أفرزه من أحكام فقهية وجمع للروايات وكتابة التاريخ الإسلامي... الخ في ظلال شجرة النزاع تلك، فإنه قد صاغ طبائع العقل الإسلامي اللاحق ومنظومته الفكرية بشكل نهائي، وذلك بعد أن احكم وصايته المطلقة على تأويل النصوص القرآنية، وهكذا أصبحت أحكام السلف الفقهية مرجعية أساسية تقارب في أهميتها مرجعية النصوص الأولى، الأمر الذي أسهم عميقاً في إضعاف مرونة النص وفعاليته في دفع الممارسة الإنسانية المتعقلة للدين، هذا فضلا عن تنميط الموقف الجمعي تجاه المتشيعين وفرقهم المختلفة، في الوعي الشعبي العام.

وهنا يجب عدم إغفال حقيقة أن النشاط الفقهي أنتج أحكامه ومعارفه وفقاً لأدوات زمانه (قياس، إجماع، نماذج معاشة...) وفي أحيان كثيرة بتأثير من سجالاته وصراعاته مع الشيعة، لذا فإنه وإن كان ما يبرر ذلك في وقت حدوثه، لكنه لا ينبغي أن يرقى به إلى هذا العلو السامق من التبجيل المطلق، ونجاته من سهام النقد والمناقشة الجذرية. ونحن، وحينما نستخدم مصطلح السلفية، فإنه وفضلا عن اشتماله على منظومة الرؤى والتأويلات الفقهية لتلك الحقبة التدوينية وما تبعها بذات الخط، فإننا نقصد حصراً الموقف والمنهج المعارضين لتوسيع حدود فعالية العقل والرأي في الممارسات الدينية واقتصارها على النقل والتكرار وتفضيل الرواية على الدراية. ليس صدفة، بعد هذا، أن نكتشف أن أبا حنيفة النعمان، بكل ثقله الديني، لم يسلم أحيانا متتالية من التجاهل والإقصاء من قبل أبرز رموز تلك الحقبة من الفقهاء وعلماء الحديث نظراً لآرائه المعتدلة في شأن التشيع وإعمال الرأي في الاجتهاد، فما بالكم بابن حزم وابن رشد وغيرهم من المفكرين اللاحقين الذين حاولوا الإفلات من سلطة السلفية وتحديداتها؟!

أما في القضاء الشيعي المقابل، فقد استهلك مشروعهم قرونا من الفوضى والضبابية قبل أن يبدأ بالتبلور وممارسة الاجتهاد العقلي والتنظير الفلسفي، مما جعله معتمدا كليا على أخبار أهل البيت (المدرسة الإخبارية)، لهذا بقيت تصوراته وحججه، على الأقل في مراحلها الأولى، تعاني قصوراً معرفياً واضحاً مقارنة بما تم انجازه في المعسكر السني.

لقد انصب اهتمام الشيعة في تلك الفترة على تأمين بقائهم الجسدي أمام الملاحقات والقهر الدموي الذي عمدت إليه الدولة الأموية ضد أهل البيت وأتباع الإمام علي. هذه الحالة الدفاعية المرعبة (وهي بالذات ما عبرت عنه من خلال نظرية التقية والانتظار) واعتماد السلبية المطلقة في مسألة الحكم والسياسة انتظاراً لظهور المهدي، كل ذلك مهد الأرضية النفسية لاستقدام وتسرب بعض المعتقدات الغريبة عن منطوق النص والمتعارضة مع العقلية الإسلامية السائدة وقتذاك، حيث عكست، كما يبدو، رغبة في التعزي بفرج قادم قريب، وجسدت احتجاجاً على القوة الغاشمة التي مورست ضدهم من جهة، ورفضاً للانصياع للسلطة القهرية التي "تهادن" وتعايش معها فقهاء أهل السنة والجماعة (مفضلين حكماً غير عادل على استمرار الفتن...) من زاوية أخرى، وقد تصاحب ذلك مع عمليات تأويلية باطنية متشعبة لتأكيد نظرية الإمامة وعصمة الإمام وغيرها. فضلا على ذلك، فيمكن التعامل مع كثير من المواقف التي ميزت الفكر الشيعي عندها بوصفها إستراتيجية ثقافية هجومية فعالة لمقارعة وإرباك خصومهم من التيارات الأخرى، ولكنها انطوت أيضا على مواقف عدائية طالت أهم صحابة رسول الله، الأمر الذي أسهم في اتساع الهوة المذهبية وإلهاب وتيرة الصراع.

المحنة ذاتها تكررت خلال الخلافة العباسية والتي تحالفت بداية مع الشيعة وتحققت بفضلهم، لكنها سرعان ما تنكرت لهم ولدورهم وانقلبت عليهم وتبنت الفكر ألمعتزلي (عرفت بالقدرية في الدولة الأموية) الذي ساد في زمن المأمون، ثم عادت وانقلبت على المعتزلة في فترة المتوكل لصالح التحالف مع السنة الحنبلية ( وقد شكلوا معارضة قوية لإيديولوجية الدولة المعتزلية) وهكذا تضاعفت محنة المتشيعين حينما وجدوا أنفسهم أمام تيار سني ورث علم الكلام المعتزلي وأدواته ومناهجه العقلية، مما مكنه من تطوير فكره وتعزيز حججه القوية حتى في مواجهة الفلسفة وتحييدها وإنتاج نظرية الخلافة الأشعرية في مواجهة الدولة الفاطمية الشيعية في مصر. في مناخ ملتهب من الصراع الوجودي، حيث كانت الشيعة الإسماعيلية الباطنية قاب قوسين أو أدنى من السيطرة حتى على بغداد، وعلى خلفية مثل هذا الاستقطاب ( الأزهر الشيعي مقابل المدارس النظامية السنية) تقدم الإمام الغزالي (في زمن الدولة السلجوقية وبتوجيه من الخليفة)، وهو المعروف بسعة معارفه وقدرته الاستثنائية على المحاججة العقلية، ليصوغ بذلك مواقفه القاطعة ضد الفلسفة (تهافت الفلاسفة) وضد الشيعة (كتاب فضائح الباطنية)، والتي ما زالت أهم مرجع سني في سجاله مع الشيعة ليومنا هذا.

وبالرغم من المسوح الهرمسية والغنوصية التي تشربها العقل الشيعي مقارنة مع أصولية الفهم السني وظاهر انسجام معتقده مع منطوق النص، إلا أن تلك الحقائق لم تقابلها على مستوى الممارسة الفقهية نزعة عرفانية مطابقة بل تجاوزتها إلى رحاب التفكر المنطلق وغير المقولب، وبالذات فيما يخص مفهوم الحرية وإعمال الرأي في المسائل الشرعية. فقد أفضت حالة القهر المتواصلة التي تعرض لها المتشيعون، ومعارضتهم للفكر السياسي السني الذي غالباً ما تحالف مع السلطة الحاكمة (أو لنقل شكل غالبا المذهب الرسمي للسلطة الحاكمة) واستبعادهم لأدوات الاجتهاد الفقهية التي اعتمدها أهل السنة في تثبيت توجهاتهم وتقريع الادعاءات الشيعية، وأخذا بالاعتبار جذورهم المشتركة مع التيار المعتزلي...، كل ذلك أسهم في توسيع حدود فعالية الرأي والتخريج العقلي المتحرر من سلطة الأسلاف وأفضى بلا شك إلى تجذير معاني الحرية والممارسة العقلانية للتدين في تعامله مع المستجدات، وخاصة في أوساط نخبها (ولا نقول جماهيرها لأسباب لا مجال لحصرها وأولها الطبيعة الهرمية للمؤسسة الدينية وما يترتب عن هذا المبنى من عوائق في انسياب ونقل تلك المواقف وتذوتها شعبيا..) قياساً مع الاتجاهات السنية، وهي حقيقة جذبت انتباه الكثير من الباحثين أمثال محمد أركون وعبد الإله بلقزيز ونصر حامد أبو زيد وعبد الجواد ياسين ويحي محمد وغيرهم الكثار.

وما دامت تلك الصيرورة التاريخية الاجتماعية التي تدخلت وما زالت في إنتاج وصياغة عقلنا وواقعنا الراهن، محيدة وغير معتمدة في عمليات التقييم والمراجعة ويتناولها كل طرف بوجه تلفيقي لتدعيم وتبرير مشروعه، لذا لن يكون مستغربا أن يختصر الشيعة، في العقل الشعبي السني، بكونهم مجرد فئة مارقة (هذا إذا لم تكفر) تجعل من الفقيه معصوماً كالأنبياء وتسب الصحابة وتنافق بالتقية وتمارس زواج المتعة.... وتتآمر على العرب والمسلمين.

إن اعتماد نظرة علمية نقدية متحررة من إرث الصراعات الماضوية والمواقف المسبقة في عملية تتبع تطور الخطاب الفكري الديني الشيعي، وخاصة في العقود الأخيرة، لا بد له أن يخلص إلى نتيجة غير متوقعة تفيد أن ذاك المشروع ما زال قيد الانبناء ويعيش حالة من التشكل والنمو والتكامل حتى هذه اللحظة، بحيث تطال عمليات البناء والهدم تلك أهم المسائل التي ميزته على طول العصور، وذالك خلافا لواقع حال المشروع السني الذي أخاط وأغلق أطرافه نهائيا وختم أبوابه العقائدية والفقهية بالشمع الأحمر بعيد عصر التدوين.

هذه الالتماعة المحتجبة عن التشخيص بفعل سطوة المركزية السنية وغمامة غبار المعارك المذهبية، هي بلا شك غاية في الأهمية والخطورة وينبغي التقاطها من قبل التيار السني المركزي المنفتح والمسؤول لإحداث تقارب مذهبي حقيقي، وهي السمة عينها التي كانت وراء انحسار ظاهرة النيل من أقرب صحابة النبي، خاصة بعد فتاوى الإمام الخميني وغيرها من المبادرات البناءة والتي كان آخرها سلسلة الفتاوى النوعية التي جاءت عن المصدر الشيعي اللبناني المميز السيد محمد حسين فضل الله، هذا علما أن مثل تلك السلوكيات كان لها ما يقابلها في التاريخ السني حينما ألزم الأمويون المسلمين بسب الإمام علي وأتباعه في مساجدهم، إلى أن جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز وقطع دابرها. هكذا هو الأمر بما يخص زواج المتعة عند الشيعة الذي خضع بدوره لإعادة تقنين، حيث يتم تناوله في الأدبيات السنية وكأنه رخصة في ممارسة الانحلال الجنسي من دون ضوابط، حتى في المجتمعات الشيعية العربية الراهنة(؟!!)..... ويتجاهل هؤلاء (وبعضهم يقبل ويؤيد) أن في المجتمع السني، وإن كان اغلب الفقهاء يفتي بتحريمها، تروج كثير من الممارسات المشابهة مثل الزواج العرفي أو زواج المسيار.... ويتناسون أيضا أن زواج المتعة كان قائماً في الإسلام الأول فحرمه الرسول ثم سمح به...ثم عاد وحرمه.. وهناك من يقول (منهم الشيعة وبعض السنة) إن الخليفة عمر بن الخطاب هو من حرمه قطعاً؟!!

يوفر زمن الأزمات فرصا ذهبية لاستدعاء التفاصيل وإبراز مواضع الخلاف وكشف المستور عادة. فترافقا مع تفشي أنباء الاحتجاجات الصدامية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة، انطلقت الحملات الإعلامية في فضائنا العربي كما تتدفق المياه الغضبى من خلف سد عظيم في لحظة انهياره، احتفالا وتعليقا وتحليلا وتهليلا.

كان اللافت في هذا الحراك العربي، وهو الساكن والساكت عادة عن تناول شؤون الحكم وشرعية السلطة في دوله القطرية، أنه أوغل هذه المرة في تحليل أزمة الحكم في إيران وعلل غالبهم ذلك الاحتقان السياسي إلى تطبيق نظرية ولاية الفقيه "الخاوية من قيم الديمقراطية والحريات الفردية" (؟!!)، وما زال كثير منهم يردد ذلك "الاكتشاف العظيم" ويتوسع في تحليله حتى صار يبدو كمن يتلذذ بممارسة متعة محرمة عليه محليا طال انتظاره لفرصة التمتع بها. وبصرف النظر عن عظمة ديمقراطية بلدانهم التي يمثلونها ويبشرون بتنورها، إلا أن الدولة الإيرانية التي تطبق ولاية الفقيه، وهو شكل محور للمركزية الدينية الشمولية (أشبه بمزيج مستحدث للنظام البابوي في القرون الوسطى مع الشيوعية الستالينية)، وبالاحتكام للنتائج، فإنها تمارس ديمقراطيتها الخاصة تلك واقعا معاشا، على علاته، نتمنى أن يتوازى معه النظام العربي، ولا يعيقها تأخر مضمونه عن التطور في كافة المستويات، واجتراح الانجازات الواحد تلو الآخر.

إن الادعاء القائل بتخلف هذا الأسلوب من الحكم قياسا بمشروع الدولة السني سواء أكان ذلك دولة الخلافة التقليدية أو دولة الإصلاح والنهضة أو دولة "الحاكمية" الصحوية، هو بالأكيد أدعاء صحيح وحقيقي من ناحية نظرية، غير أن نتائج تطبيق النماذج السنية الأصولية في الحكم حتى الآن (السودان مثالا) لم تبشرنا خيرا.

لأسباب شتى، لم يطور السلف فقهاً سياسياً يعتد به لمفهوم السلطة وممارسة الحكم، فعدا عن المقولات العامة التي أضحت معروفة للجميع لكثرة تداولها، فان ما وصلنا منه متردد وضعيف ويتناقض أحيانا وروح الإسلام من حيث أنه لا يمتلك عناصر العدل وقابلية التطور والبقاء، هذا فضلا عن طبيعته المهادنة للسلطة عندما نجده يقبل ولا يدعو لخلع الحاكم الجائر والفاسق والمتعدي على الحكم ولا حتى فك العقد معه، أو تحديد مدة حكمه أو تحريم التعامل معه، بل يدعو للخضوع له بحجة درء الفتنة وصونا لدماء المسلمين (وهي نزعة متأصلة في الفكر السني السياسي – يمكن تسميتها بالتقية السنية- وقد أسهمت في إطالة عمر أنظمة الفساد والخيانة، وأن تبخر النزعة الثورية الواضحة التي بثها سيد قطب من ممارسات أتباعه تؤكد أنها كانت استثناء).

وعليه فإن نظرية الحاكمية الصحوية التي نادى بها المودودي وصاغ معالمها النهائية سيد قطب، ما هي إلا إعادة إنتاج للتصور الإسلامي من مسألة الحكم على أساس التصورات والأدوات الحديثة، وهي بالتالي عملية إسقاط وتحميل مضامين لمفاهيم إسلامية قديمة لم تحتملها أصلا ولم تكن مدركة لها عندها. هكذا هو أيضا حال نظرية "ولاية الفقيه"، التي يمثل قفزة نوعية في الفكر السياسي الشيعي وانتقاله من مفاهيم السلبية المطلقة والانتظار إلى ساحات المقاربة والمبادرة، علما أنها لا تحظى بإجماع شيعي كامل مما يجعلها نموذجا تحت التجريب ما زال يخضع بدوره لعملية تطوير مستمرة، وهو أمر يمكن ملاحظته بقياسه على ولاية الفقيه الأولى في الدولة الصفوية والتي استقدمت هذا المشروع لأسباب سياسية معروفة وقتها.

ونهاية، لا بد لنا من الإشارة إلى أن انشغال فقهاء السلف بالفقه الفرعي حصرا وانصرافهم إلى تحصين مذاهبهم تحت وطأة واقع الانقسام الدموي وتبعثر السبل، على حساب التفرغ لتطوير الفقه الأكبر، أي فقه السنن والتاريخ والحضارات، بما يتضمنه من عبر وفهم لقوانين حركة المجتمع بكل اشتراطاته وتعقيداته، وتنفيذا لمقاصد الشرع المغيبة في التفكر والاعتبار، كل ذاك قد أسهم كثيرا في استحكام التعصب المذهبي وتضييق مساحة الحرية والاجتهاد العقلي وأسس، بلا شك، لتخلف المجتمعات الإسلامية وأوصلها لما هي عليه الآن.

إن إغفال تلك الظروف التي أحاطت وتداخلت وولدت هذا العداء من شأنه أن يديم ويعمق حالة الصدام ويفني أخطر الفرص التاريخية بل وغير المتكررة لعقلنه (ولا نقول إنهاء) علاقة الجانبين، والمتوفرة راهنا بوجود قيادة دينية وطنية للمجتمعات الشيعية تعي أهمية التقارب السني الشيعي وتسهم بحق في ردم الهوة المذهبية وتتطابق نضاليا مع التيار السني الرئيسي في محاربة قوى الظلم والاستكبار. بالاعتماد على حقائق الاستقطاب الناجز في العقل الإسلامي الشعبي، فإن هذه المهمة التاريخية لن يكتب لها نجاح إلا ببذل الجهود المنظمة المستدامة والواسعة ضمن مشروع إعلامي وفقهي مشترك يطلق خاصة لهذا المجال ويكون محوره تحقيق التقارب وتجاوز التفصيلات المذهبية المدمرة، بالتوازي مع إجراء نقد جدي لموروثنا الثقافي في ضوء سطوة التاريخ وتدخلاته.

التعليقات