31/10/2010 - 11:02

استهداف لحزب الله، أم لنموذجه النضالي المعياري؟../ د.عمر سعيد

استهداف لحزب الله، أم لنموذجه النضالي المعياري؟../ د.عمر سعيد
بصرف النظر عن حسابات بيدر السياسة اللبنانية ومحصوله الطوائفي، وتعففاً عن مجاراة تخريصات سلاطين الفول والزيت (عذراً من شاعرنا الكبير) وأزلامهم من مشايخ وعلمانيين، فان المؤكد أن حزب الله يظل النموذج الاستثنائي الأكثر إلهاما وتألقا في سماء أمتنا الحالك، وقد يكون بسبب ذلك أنه الأكثر استهدافاً بين مجمل حركات المقاومة في منطقتنا والعالم.

وبقدر ما تتراكم المفارقات المضحكة وعلامات "الاستفراغ" على وجه المواطن العربي المتخم جوعاً وتجهيلاً وذلاً وبطشاً، وهو يسمع ويشاهد صنوف التطاول المنفلت والمزايدات بحق ذلك الحزب، سواء أكان ذلك بلغة عربية منمقة حيناً، أو بلسان شعبي هابط على شاكلة "بتاع وبتاتيع" أحيانا أخرى، فإن حدسه الصادق البسيط سيظل يدفعه أكثر، ولو حتى معنوياً، إلى التعلق بما هو حقيقي وأصيل، ورفض الانصياع لدعاوى وفذلكات تصدر عن جهات منزوعة المصداقية والشرعية، قد لا يسعف مع بعضها ماء بحور الدنيا لغسل خطاياها تجاه أمتها وشعبها.

باعتقادي، لن تنجح حملة التهويش ضد حزب الله بكسر ظهره الجماهيري أو حتى بتآكل رصيده الوطني الأخلاقي، ولكنها قد تخدش، مؤقتا، من محياه في بعض القطاعات الشعبية المعزولة ثقافيا أو تلك الشوفينية وطنيا (!!؟)، وأن أقصى ما يمكن أن تحققه، في المستوى السياسي، لا يتعدى تعميق الفرز بين معسكري المقاومة والاستسلام، فضلا عن التنبيه لخطورة وحجم المشروع المعادي بعد انفضاح دور مركباته العربية التي باتت تجهر بمقاصدها دونما رادع من حياء أو خجل.

مع ذلك، وفي المدى المنظور، قد يفلح هؤلاء بخلق حالة عابرة ومحصورة من البلبلة، الأمر الذي سيفتح شهيتهم للمزيد العجيب من حملات التشويه المنسقة التي ستستهدف أساسا تحطيم "هالته" ونموذجيته النضالية الصلبة، لكني أرجح أنها ستفضي، في المدى البعيد، لنتائج عكسية حاسمة لما أرادته تلك الأطراف من وراء حملاتها المتوسعة تباعا، وذلك لتعارض هذا المسعى المكشوفة عناصره مع الميول والمصالح الجذرية للأمة، وجهله لطبائع التواصل الذي شيده حزب الله مع جماهيره العريضة، وهو ما سأسعى لتبيانه في مقالتي هذه.

في كتابه الرائع وذائع الصيت "الإنسان ذو البعد الواحد"، أتاح لنا هربارت ماركوز نافذة وسيعة للإطلال على الآثار التدميرية المذهلة المصاحبة لتطور المجتمعات الصناعية والحداثية على الثقافة وأنماطها، وانعكاس ذلك في عقل ونفسية وسلوك الإنسان والمجتمع، وأوضح لنا كيف تتشيأ كافة حلقات المجتمع ونتاجاته بفعل جهاز الإنتاج الذي يمارس تأثيره القهري في شتى ميادين الحياة المادية والروحية والإبداعية، بما في ذلك الفن والأدب والصحافة والأخلاق والجنس... الخ، حتى يمسخ الإنسان وكل محيطه وعلاقاته ويختصر في بعد واحد. غير أنه إذا كان متاحاً لماركوز استثمار مفاهيم وأدوات تحليلية ونقدية مشتقة من النظرية الماركسية والمناهج الأخلاقية للغوص في مغامراته الفكرية، فإن واقع المجتمعات العربية يبدو مفارقاً للزمن وغارقاً في غيبوبة مزمنة، بل متخالفاً مع منطق التاريخ ووقائعه، وبالتالي مستعصياً على الدرس والتحليل من منظور المناهج المعاصرة والمستحدثة. فإذا صح أن مجتمعات الوفرة والديمقراطية الصناعية اختزلت أفرادها في بعد واحد، فإن النظام العربي وتشكيلاته الأمنية والأبوية قد سحقت مواطنها العادي إلى ظل إنسان خال من الإبعاد، وأسكنته وادياً غير ذي زرع، وألزمته بعلاقات إنتاجها للفساد والقهر والفقر.

إزاء هذه الحالة العبثية، فليس أفضل من أن تحال هذه المعضلة العقلية إلى مجال علم الآثار أو المستحثات لاعتمادها كأدوات أو وسائل إيضاح علها تساعد في تشكيل مدخل أولي للمقايسة مع خصائص تلك الأنظمة، وليس مستغرباً بعدها أن يكون كتاب "كليلة ودمنة" أو "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني أو حتى "نوادر جحا" هي أفضل المرجعيات الممكنة لتوظيفها في عملية استقصاء وتحليل "انجازات" النظام العربي واكتشاف خصائصه الفريدة ودورها في تولد محنة مجتمعاتنا.

كما هو معلوم، لا يتبقى في ذهن الإنسان المقهور المفترش لتعاسته سوى القنوط لرحمة الله، والتحاف آماله التي طال انتظارها، وهي بطبيعة الحال ليست كبيرة في طموحها، وقد تقتصر على أن ينعم بمعايشة حالة جدية تعاكس واقع حرمانه وتهميشه، وتؤمن له كرامته المهدورة وتفك إسار فعله المشلول، وتعيد تشكيل وجوده الإنساني الأساسي بإبعاده الطبيعية. من هذه البوابة يمكن لنا الولوج لأدراك نوازع وأسباب ذلك الإعجاب والاحترام الذي يحوز عليه حزب الله في وجدان الجماهير. وهو على كل حال، ليس مجرد إعجاب من بعيد بحزب مناضل وصلب نظيف السلاح واليدين، أو بقيادة غير مألوفة في الحيز السياسي العربي، بل أيضا لقدرة خطابه في خلق حالة قوية من التماهي مع أهدافه لدى جمهور الهدف.

هذه القضية الهامة لم تحظ بالاهتمام المناسب وقد يكون مفيداً التوقف عندها قليلا: يلاحظ أنه في خطابه التعبوي والسياسي يتبع حزب الله آليات تواصل بالغة النفاذ والقوة في إشاراتها ومضامينها ودفئها، تذكرنا بما عرف تاريخياً "بمنهج التوليد" السقراطي، والذي يجعل من المتلقين، على كافة مشاربهم، كما لو أنهم جزء عضوي من نسيج المقاومة الشاملة، وأنهم ليسوا مجرد سواد شعبي خامل يسعى فقط لنيل رضاه وتعاطفه، وإنما، وهو الأهم، يدفعهم للشعور، لحد الاعتقاد الجازم، أنه بفضل كل فرد منهم نجح مشروع المقاومة، ومن دون أي فرد منهم ما كان النصر ممكناً، وبالتالي فهم شركاء حقيقيون وفعالون في اجتراح النصر أيضا.

فضلاً عن ذلك، فإنه وخلال تراسله الخطابي المتعاقب عبر الأثير، يغذي السيد نصر الله المخيال الجماهيري بعناصر ملحمية منتقاة بعناية من الحقل الديني والثقافي التراثي، ويعرضها بتلاحم خلاق مع التجربة الكفاحية المعاصرة لكافة روافد المقاومة، فيعيد بذلك إنتاج المتخيل بعد أن يرصعه بكثير من الاستعارات والمجازات اللغوية المحفزة، ويصوغه في قوالب جاذبة وفعالة تتجاوب مع متطلبات الحقبة التاريخية وضروراتها وتحدياتها.

هذا السياق الانبنائي المحكم لخطاب قائد حزب الله، يتضافر بدوره مع إطلالته المتلفزة المباشرة في تعظيم فعالية التراسل تلك مع جماهيره، ليس بفضل لغة جسده ونبرته وتناسبهما اللافت ومضامين حديثه فقط، وإنما أيضا وأساسا بهيئته الموقرة كرجل دين مقاوم يعتمر عمامته السوداء، وذي رصيد ممهور بالدم والتضحية.... والانتصارات، مما يختصر المسافات في مشوار الظفر بقلوب مشاهديه، ويسهل تقبل وتصديق كل ما يأتي به حتى ولو كان غريباً في لحظته تلك.

هذا المركب الديني الرمزي لظهوره يمارس فعله الخطير أيضا في اعتراض وإسقاط وابل التحريض المذهبي الذي، في كثير من الأحيان، يصدر عن "مشايخ السلاطين"، الذين يوظفون دينهم ولحاهم وعمائمهم بل وأكثر من ذلك في سبيل انفضاض الناس من حول حزب الله ومشروعه.

وفي مستوى تراسلي آخر، فإن المراقب الفطين سيكتشف بالأكيد أن عقلانية حزب الله المعهودة في كافة دوائر نشاطه، ربما تبدو وكأنها مستمدة من لا عقلانية افتراضاته الأولية ومنطلقاته في إدارة وإنجاح مشروعه المقاوم، خاصة وأنها تأتي متخالفة مع جوهر الطرائق التقليدية والحديثة بشان التعامل مع جبهة الأعداء. وهذه مسألة إشكالية هامة ينبغي التنبه لحضورها في صميم عقيدة وممارسات هذا الحزب، وتلعب دورا إيحائيا قويا في تبلور صورته المتحدية في الوعي والمتخيل الجماهيري المتعطش لها والمشمئز من خنوع حكامه المزمن وتبريراتهم.

فقد درج سلاطين الزمان القديم، على عظمهم، وأباطرة العصر الحديث، على جبروتهم، على تضخيم وتهويل قوة أعدائهم حتى ولو كانت فعلاً متواضعة، وذلك كإجراء دعائي ضروري لتسويغ دمويتهم المفرطة وتثبيت هيبتهم وتمديد سطوتهم، وقد جثمت هذه السياسة في صلب ثقافة الحروب حتى يومنا هذا. وعن هذه القاعدة يقول ابن الطقطقي في كتابه "الفخري": "لا يجوز للملك أن يصغر في نفسه أمر عدوه، وإن كان صغيراً في نفس الأمر، ولا يجوز لجلساء الملك أن يصغروا أمر عدوه عنده، فأنهم إن صغروه حتى ظفر به العدو كان وهناً له إذ غلبه عدو صغير، وإن ظفر هو بالعدو لم يكن قد صنع طائلاً". في مقابل هذه العقلية، اتبع المستضعفون خطا معاكسا يجعل من أبسط الانتصارات والوقائع حوادث مفصلية تشيد عليها حكايات البطولة، وتخضر معها حقول الآمال، فتشحذ الهمم وتفل من عضد الطغاة. فها هو الرسول الكريم (ص) يلوم احد أصحابه لدى عودتهم من موقعة بدر عندما أجاب الناس الفرحين عمن قتل وسلم فقال "والله ما قتلنا إلا عجائز صلعاً"، فيقول له الرسول " أولئك يا ابن أخي الملأ (أسياد القوم)".

سواء جلنا بناظرينا هنا أو هناك، فإن تلك التدابير يمكن أن تحتضن في مفهومنا المعاصر المعروف "بالحرب النفسية" أو بالتربية التعبوية، وتنضوي جميعها تحت عباءة فنون ونظريات الحروب. غير أن سلاطين العرب تلجأ، على طول الخط، إلى عملقة وبهرجة قوة عدوها لهدف واحد ووحيد، وهو إشاعة الإحباط وقمع الطموح التحرري لشعوبها وشرعنه الاستسلام وإدامة سلطتها الاستبدادية، وهذا ما بات يعرفه كل الناس.

من هنا تحديداً، أي في اللحظة الزمنية التي يكتمل فيها المشهد العربي العام بصفته مستكيناً للضعف والهوان ومستسلماً لسطوة اختلال ميزان القوى، ومذوتاً لعقلية العجز عن الفعل والمواجهة، تبدأ وقت ذاك فرادة وخصوصية مشروع حزب الله . فهذا الحزب يفترض أن التحضير الصحيح والفعل المقاوم والإرادة الصادقة والإيمان بالنصر (وكلها عوامل ذاتية) هي الأصل في معادلة أو مقولة "ضرورة توازن الشروط الموضوعية والذاتية" التي تعتمدها النظريات السياسية كشرط لنجاح أي مشروع كفاحي، وينطلق من أن الظرف الموضوعي المحيط بنشاط المقاومة ليس محدداً لنجاحها إلا بقدر إيمانها هي به وترددها وركونها إليه، وهو بنظرها (أي العامل الموضوعي) مرتهن بشكل عميق بالصيرورة النضالية الواعية واتساع دوائرها وانجازاتها.

هذا ما شهدناه عندما كان وهم "أوسلو" يغشي العيون، ومعه تتحول إسرائيل لدولة شقيقة، وشلالات الوعود الوردية تفيض في كل مدينة ومخيم، فكانت المقاومة ماضية في قتالها وتنجز نصرا تلو الأخر، في مسار بدا متنافراً بالمطلق مع "عقلانية" تلك المرحلة من فصول حفلة الزواج والمصالحة الدولية و"شروطها الموضوعية".

بكلمات أخرى، فإن مشروع المقاومة ظهر منذ بدايته متناقضاً جذرياً مع حكمة ومنطق السلاطين إياه فضلاً عن مدارس الفكر العسكري، فانطبع في الأذهان وكأنه مشروع لكسر الحواجز النفسية المتراكمة ولتجديد الثقة بالنفس وبإمكانية النصر، لهذا نجده يلجأ، خلافاً لما تعودنا عليه، إلى التقليل من قوة وبأس عدوه، بل ويقسم قائده أن إسرائيل "أوهى من بيت العنكبوت"، في حين أن الأذن العربية اعتادت أن تسمع قولات من رؤساء أهم دولها مثل السادات حينما قرر "أن تسعة وتسعين من أوراق اللعب بيد أمريكا"، وحينما أطلق خلفه صيحته المهولة "الله... دي أمريكا!!!!" وغيرهما الكثار.

بناء على ما تقدم، يجوز لنا الاستنتاج أن تلك الجماهير المحيدة، والتي تبحث عن ثأر مزدوج لممتهني كرامتها، يكون أوله لعدوها الذي احتل الأرض وقتل وشرد الإنسان، وثانيهما موجهاً لحكام تفننوا بإذلالها، ستتماهى بالقطع مع جوهر ذاك الخطاب وأصحابه، ولن تنطلي عليها خدعة اعتباره ملحقاً لإيران "الطامعة والمهددة " وهي ترى هذا البلد المسلم الأكثر التزاماً بقضية فلسطين والأكثر استهدافا من قبل أعدائها، هذا فضلاً عن نجاحاته الباهرة في مجال العلم والتصنيع والتكنولوجيا المتقدمة، مقابل حكام يبدون وكأنهم ينتمون ذهنيا لحقبة الكهوف والبداوة الأولى، ولا علاقة تربطهم بهذا العالم الحقيقي.

من هنا، وإغلاقا منا لدائرة تفرده عن التنظيمات المقاومة الأخرى، فلا محيد عن التأكيد أن حزباً لا يطرح نفسه بديلاً عن الدولة، ولا يسعى لاقتناص حكم أو رئاسة، وينأى بسلاحه عن مواجهة أي قطاع من شعبه، وحتى الخونة منهم، فمن الطبيعي أن يتحول إلى نموذج نضالي معياري ويضحي يمارس تأثيره الإيحائي والمباشر على كافة فصائل المقاومة والممانعة، باعتباره الشكل الأكثر اكتمالا على مستوى تطابق الدال والمدلول عليه، الأمر الذي يجعله أصلا مولداً (على الأقل في ظل قيادته الحالية) تتشامل فيه كافة عناصر الضرورات، وذاك بعد أن تحلقت حوله هالة استحقها عن جدارة، عصية على الاختراق والتحطيم، خاصة في وعي من عايش تمزق ألمع الهالات من حول أهم فصائل المقاومة خلال هرولتها وراء السلطة والسلطان.

هذا هو مربط الفرس، وهنا، باعتقادي، مكمن السر وراء استهدافه، ألا وهو تحقيق انزياح في طبيعته النضالية المعيارية، كشرط ضروري لتآكل تلك الهالة من حوله وتدجين جموحه الثوري، ومن ثم إخضاعه إلى معايير ومنسوب الممانعة العادية (وليس القضاء عليه باعتبار أن ذلك مهمة مستحيلة)، الأمر الذي يسهل بعده التلاعب في مقياسها، كما شهدنا ذلك لدى كافة فصائل المقاومة الفلسطينية الوطنية منها والإسلامية.

التعليقات