31/10/2010 - 11:02

الحكومات العربية تسمح لقوافل الإغاثة الغربية!/ محمود المبارك

-

الحكومات العربية تسمح لقوافل الإغاثة الغربية!/ محمود المبارك
قبل قرابة عقدين من الزمان، وخلال عودتي الصيفية من الولايات المتحدة، التي كنت أقيم فيها أثناء تحضيري لدرجة الدكتوراه، مررت بتجربة مثيرة من خلال خطوط الطيران التي اعتدت استقلالها. فقد تسببت خطوط الطيران تلك - والتي كانت تتصدر قائمة الخطوط العالمية - في عدم الانتظام في مواعيد الرحلات، وفي تأخير زادت مدته على ست ساعات، كما شملت معاناتي ومعاناة بقية الركاب، المعاملة غير اللائقة التي كانت سبباً في تذمّر الكثيرين، خصوصاً أن عدداً من الركاب من أمثالي قدموا من أقصى الغرب الأميركي، الأمر الذي يعني قضاء زهاء يومين، والتنقل بين خمسة مطارات قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة.

حبَّرت خطاب شكوى إلى إدارة الخطوط، بدأت فيه بمقدمة لطيفة، أثنيت فيها على ما تقدمه الخطوط - التي كانت تحتفل بمرور خمسين عاماً على إنشائها - وطلبت من الادارة بأدب جم ملاحظة ما يعانيه المسافرون، بسبب التأخير غير المبرر، والمعاملة غير اللائقة، ووضعت اسمي وعنواني على الخطاب، إلا أن رداً واحداً لم يصلني من تلك الخطوط!

بعد عام وخلال إجازة الصيف التالية، تكررت تجربتي الأولى بحذافيرها، فقررت هذه المرة أن أكتب خطاباً باللغة الإنكليزية. وبخلاف الخطاب الأول - الذي كان رقيقاً في عباراته ولطيفاً في محتواه - استخدمت عبارات قاسية ضد مسؤولي الخطوط، إذ قلت: «إن عدم احترامهم للركاب يعكس عقولهم غير المحترمة»، ثم اخترت لنفسي اسماً أميركياً وقعت به الخطاب، ووضعت عنواني في الولايات المتحدة.
ولدهشتي البالغة فما إن عدت من إجازتي حتى وصلني بالبريد المسجل خطاب يقطر عطراً! فقد أعربت إدارة الخطوط عن بالغ أسفها واعتذارها لي - أو بالأصح للأميركي صاحب الخطاب - وقد ضحكت من الأعماق حين قرأت العبارة، التي قالت: «إن خطابكم أيها السيد قُرئ في اجتماع كبار مديري الخطوط حرفياً، ونعدكم بأن كل ما ذكرتموه من ملاحظات سيُؤخذ في الاعتبار، وأن تجربتكم تلك لن تكرر»!

كنت أتخيل حال القوم في اجتماعهم المهم! وهم يحاولون قراءة خطي السيئ الذي لا أستطيع إنكاره، بيد أنني لم أفهم كيف ولِمَ أغفلوا خطابي العربي المهذّب؟
عادت إلى ذاكرتي هذه التجربة مرة أخرى، وأنا أتابع سير قافلة النائب البريطاني جورج غالاوي، المحمّلة بمئات الأطنان من مساعدات الإغاثة الإنسانية لغزة، حيث جالت في خلدي تساؤلات حائرة لا أزال أبحث عن إجاباتها: تُرى لمَ ترفض حكومات عربية مرور قوافل الإغاثة العربية، وتسمح في الوقت ذاته لمثيلاتها الغربية بالمرور؟ ولو كانت هذه القافلة عربية المنشأ والتكوين، فهل ستفتح لها حدود خمس دول عربية كما تفتح أبواب الجنة للصالحين؟
أليس غريباً أن تفتح الحدود المغربية - الجزائرية للمرة الأولى منذ أكثر من عقد ونصف العقد من الزمان لأصحاب الشعور الشقراء والعيون الزرقاء - على رغم اتفاقنا مع غايتهم النبيلة - في حين ترفض الدولتان العربيتان مرور مواطنيهما بين حدود البلدين قبل وأثناء وبعد مرور القافلة الغربية؟ ثم أليس الأولى بالحكومات العربية أن تعطي قدراً من التعاون والاحترام لهيئات الإغاثة المحلية، بالقدر نفسه الذي تعطيه لهيئات الإغاثة الغربية؟ ألم تكن الحكومة المصرية منعت وصول قافلة إغاثة إنسانية قام بها شرفاء مصريون، استجابة لنداء هذا الكاتب المنشور في هذه الصفحة بتاريخ 25/8/2008، تحت عنوان «أبطال كسر الحصار ليسوا عرباً!»، فما بال المسؤولين المصريين اليوم يستقبلون قافلة غالاوي استقبالاً رسمياً حافلاً؟! وهل أصحبت «عقدة الخواجا» - كما أطلقت عليها في تعقيبي على قصة الخطوط السالفة الذكر آنذاك - هي العقيدة المهيمنة على تفكيرنا العربي رسمياً وشعبياً، وتعاملنا مع بعض ومع الآخر؟!
واقع الأمر أن التبعية التي تعيشها حكوماتنا العربية، آلت بها إلى قبول كل ما هو غربي اللون والطعم والرائحة، والتردد في قبول كل ما هو وطني أو عربي! فقافلة الإغاثة الغربية التي قطعت في طريقها قرابة 8 آلاف كيلومتر، وعبرت حدود خمس دول عربية شملت كلاً من المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر قبل وصولها إلى غزة، لم تتعثر قيد أنملة، بل إنها بحسب تصريحات منظميها وجدت تسهيلات في كل بلد عربي مرت به.
وعلى رغم ترحيب الشعوب العربية الحار بما تقوم به حكوماتها من عدم إعاقة مرور هذه القافلة، إلا أن السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل مواطن عربي هو: أليست الحكومات العربية قادرة على كسر الحصار على غزة؟! فلماذا لا تقوم هذه الحكومات إذاً بكسر الحصار، بدلاً من مجرد عدم إعاقة النشطاء الغربيين، خصوصاً أن هذا الحصار بالمنظور القانوني الدولي الصرف، يمثل «جريمة ضد الإنسانية» نتجت عنها «جريمة إبادة» وهما جريمتان من أخطر جرائم القانون الدولي اليوم؟!

وإذا كانت الحكومات العربية تراعي حساسيات معينة، إن هي قامت بكسر هذا الحصار، فلِمَ تقف سداً منيعاً أمام محاولات شعوبها الرامية إلى كسره؟
من يدري، ربما كان الخوف من المحاسبة القانونية الدولية مقبولاً عند الحكومات العربية، فقط في حال حذّر منها حقوقيون غربيون! ومن يدري، فربما لم تعلم الحكومات العربية بتحذيرات الحقوقيين العرب، لأنها لا تقرأ أصلاً إلا ما يُكتب لها من الغربيين!
وتبعاً لذلك، فإن هذه المقالات قد لا تصل إلى أسماع المسؤولين العرب إلا إذا تمت كتابتها باللغة الإنكليزية ومن ثم نشرت في الصحف الغربية بأسلوب خال من الذوق الرفيع، تماماً كما كانت طريقة المسؤولين في الخطوط الجوية من أصحاب العقول «غير المحترمة»!




* حقوقي دولي


"الحياة"

التعليقات