31/10/2010 - 11:02

عن غرائب تقارير الرقيب الأميركي../ محمد خالد الأزعر

عن غرائب تقارير الرقيب الأميركي../ محمد خالد الأزعر
معظم اللاعبين في حقل العلاقات الدولية يراقبون بعضهم البعض.. كل منهم يتابع بشيء أو آخر من الاهتمام والفضول والقلق ما يطرأ على قدرات الآخرين وطاقاتهم الكمية والنوعية من تغيرات وتحولات، بالتقدم والنمو أو بالتقهقر والانتكاس.

في إطار هذه الحالة من التربص والاستطلاع المتبادل، التي قد تنحدر أحياناً إلى درك التلصص والتجسس، لا يستثني أحد من الأطراف أي مجال من مجالات الحياة. إذ أنهم يخضعون كل شاردة وواردة عند الغير لعيونهم المبثوثة وتحليلاتهم الضحلة أو المعمقة، خشية ما يحسبونه مخاطر آنية أو مستقبلية عليهم أو طمعاً في مكسب قد يتحقق لهم.

ومع قناعتنا بعمومية هذه الحالة وانغماس أكثرية الوحدات الدولية فيها، فإن من المتصور تناسب هذا الانغماس طردياً مع حجم الدور والمكانة التي تقدرها هذه الوحدات لنفسها في الميدان. بمعنى أنه كلما زاد إحساس الفاعل الدولي بدوره ومكانته وتضخم شعوره بمساحة المصالح التي ينبغي أن تستقطع له، تصاعد انشغاله بأحوال الآخرين بالجوارين القريب أو البعيد.

وتقول الشواهد والخبرات إن أي خلل يلحق بحسابات فاعل دولي أو إقليمي للعلاقة بين قدراته وإمكاناته ومواهبه وبين دوره ومصالحه ومكانته، ينعكس على سلوكه الخارجي.. وأن آيات هذا السلوك قد تتجلى في مشاغبات وتحرشات في الحد الأدنى، لكنها قد تصل في حدها الأقصى إلى إثارة المنازعات والصراعات والحروب.

بناء على هذه التعميمات، لابد أن نغبط القوى الدولية التي تتجنب بحكمة قياداتها وحسن إدراكهم مثل هذا الخلل، بحيث يأتي سلوكها على قياس قدراتها بلا زيادة ولا نقصان. والحق أن اجتراح المعادلة الصحيحة بين القدرة والمكانة بما يقود إلى سياسات وسلوكيات خارجية أميل إلى التوازن والاعتدال قضية صعبة المنال.

وبالطبع فإن من يعز عليه تبصر هذه المعادلة بالنسبة له هو ذاته، سوف يستحيل عليه أكثر فأكثر تبصرها في غيره. ويبدو أن شيئاً من هذا الخطأ المزدوج في معرفة طاقات وحدود مكانة الذات وقياس قدرات الآخرين وما يستحقونه من أدوار ومكانات، يحدث بين يدي السياسة الأميركية.

بيان ذلك أن الولايات المتحدة هي أكثر الفواعل الدوليين عكوفاً على استطلاع ما يدور ويجري في عوالم الآخرين. وليس بلا دلالة على استشعار التميز والتفرد وعظم الدور والمكانة قياساً بسائر القوى الدولية، أن واشنطن تتخذ من رؤاها ومفاهيمها وتقديراتها معياراً لابد أن تراعيه هذه القوى مهما بلغ شأنها في الميدان الدولي.

هذا أمر واضح مثلاً من التقارير التي تصدرها مؤسسات أميركية بشكل دوري متضمنة أحكاماً وعلامات جدارة واستحساناً أو عدم رضاء وامتعاضاً، بشأن قضايا يفترض انها تقع في صميم الشؤون الداخلية للدول «ذات السيادة». كأوضاع حقوق الإنسان ومستوى الأداء الديمقراطي وحجم الفساد ومدى الالتزام بنزاهة القضاء ونظافة العملية الانتخابية هنا وهناك..

الكل يعرف أن واشنطن تضطلع بما يمكن وصفه بدور «المراقب العالمي العام» انطلاقاً من استشعارها لقوتها الذاتية مقارنة بشركاء العلاقات الدولية في هذا العالم. ومن المعروف أيضاً أن التسامح مع هذا الدور يقوم على التسليم بحجم المصالح الأميركية المنتشرة في جهات الدنيا الأربع ومكونات القوة التي تقف وراء هذا الحجم اقتصاديا وعسكرياً وعلمياً وتقنياً وإدارياً... الخ.

لكن المدهش، وهذا هو بيت القصيد، أن القيادة الأميركية تبالغ ـ وبشكل فج وصارخ أحياناًـ في الاعتقاد بقوتها الذاتية، وتقع كذلك في خطأ قياس قوة الآخرين. ويتداعى عن ذلك مشاهد شبه هزلية تدعو للسخرية والتندر. مؤخراً، أصدرت وزارة الدفاع الأميركية تقريراً يحذر من «نقص الشفافية المحيط بالتوسع العسكري للصين والطريقة التي يمكن أن تستخدم بها قوتها..».

بعد ذلك عرفنا أن سبب هذا التحذير هو إعلان الحكومة الصينية عزمها زيادة إنفاقها العسكري لعام 2008 بنحو الخمس قياساً بالعام الماضي، أي من نحو 41 مليار دولار إلى 59 ملياراً!. كذلك عرفنا من التقرير الأميركي سبباً آخر للغضب الأميركي هو أن الجيش الصيني« يواصل محاولاته لاختراق أجهزة الكمبيوتر العسكرية في واشنطن وتوسيع أسطوله البحري والاستثمار في الصواريخ النووية العابرة للقارات وأسلحة تدمير الأقمار الصناعية».

وأن «هذا الجيش يسعى ليصبح قادراً على الفوز بحروب إقليمية ضد أعداء يتمتعون بقدرات تقنية عالية..». حسناً، الصين من أقدم دول العالم؛ سكانها ربع البشر على هذه المعمورة ويعدلون خمسة أمثال سكان الولايات المتحدة ؛ فيها 153 مليون معمر يساوون أكثر من نصف الأميركيين جميعاً!.. وسبق لها أن تعرضت للغزو بل والاحتلال ممن هم أحدث منها عهداً بالحضارة وأقل عدداً من بلاد الشرق والغرب.

ولا يعرف عنها ممارسات استعمارية ولا استخدام القوة العسكرية في فرض الرؤى والتوجهات السياسية وغير السياسية.. مع ذلك كله ونحوه مما يوجب الاطمئنان فإن الولايات المتحدة تحاول إثارة الفزع من هذه الدولة، وهي إذ تفعل ذلك لا تعبأ بأسس المقارنة والقياس العقلاني بين معطياتها هي ذاتها وحال الصين!.

مثلاً، لا يلحظ التقرير الأميركي المومأ إليه أن موازنة الدفاع الأميركية تكاد تساوى عشرة أمثال نظيرتها الصينية حتى بعد التعديل!.. وأن تكلفة الحرب على العراق وحدها تقترب من سقف التريليون ونصف التريليون دولار، وهذا يوازي ما تخصصه دولة بحجم الصين للدفاع لثلاثين عاماً تقريباً!.. وأنه لو كانت الموازنات العسكرية تتحدد وفقاً لحجم السكان فقط ، وليس بحسب طبيعة السياسات وأولوية التلويح بالقوة، لكان من حق بكين تخصيص تريليونين ونصف من الدولارات سنوياً قياساً بما تخصصه واشنطن للغرض ذاته.

كذلك فإن العتب أو الغضب الأميركي من محاولات اختراق الصين للمعلومات العسكرية الأميركية ـ وغير الأميركية جدلاً ـ وتطوير قدراتها الصاروخية، يبدو مثيراً للدهشة.. لأن ذلك يعني أن واشنطن ذات الآذان والعيون المبثوثة براً وبحراً وفضاء في جهات الدنيا كلها ؛ تسمع وترى وترصد وتحلل على مدار الساعة، تحرم على غيرها ما تبيحه لنفسها.

في كل حال فقد احتجت الصين على تقرير واشنطن معتبرة إياه تدخلاً في شؤونها الداخلية. ولفتت النظر إلى أنها «لا تشكل تهديداً للدول الأخرى»، وضرورة أن يكون لدى الولايات المتحدة «تفهم صحيح للصين ونموها». وفي هذا تلميح إلى فوارق أهداف القوة العسكرية واستخداماتها الفعلية بين البلدين الكبيرين أولاً وإلى أن الصين من حقها أن «تمد رجليها علي قدر لحافها» ثانياً وهذا هو الأهم.

ولكن إذا كانت الولايات المتحدة من التبجح والاستقواء بحيث تبادر إلى متابعة ثوابت ومستجدات قوة الصين بكل ما تمثله من منعة، ترى ما الذي تفعله بحق من هم دون ذلك من الدول بكثير؟!
"البيان"

التعليقات