31/10/2010 - 11:02

في ممكنات التنمية المستقلة/ عبد الاله بلقزيز

-

في ممكنات التنمية المستقلة/ عبد الاله بلقزيز
يكاد ينعقد إجماع الباحثين في مسائل التنمية، والمهتمين بها، على أن التنمية المستقلة لم تعد ممكنة. يميل البعض منهم إلى القول إنها كانت ممكنة في شروط اقتصادية ودولية مختلفة في السابق، لكنها أمست- اليوم- مستحيلة في مناخ من العلاقات الاقتصادية جديد، فيما يذهب بعض آخر إلى القطع بأنها كانت دوماً مستحيلة، حتى حينما جرب أمرها من جرب، ولم تكن- في حقيقة أمرها- أكثر من فرضية ايديولوجية.

يشترك في هذا الاعتقاد “استحالة التنمية المستقلة” جمهور الباحثين والاقتصاديين الليبراليين، الذي لم يبرح موقع الدفاع عن النظام الرأسمالي و”الاقتصاد الحر” وقسم من مثقفي اليسار “سابقاً” قطع حبل الصرة بالفكرة الاشتراكية حول الاقتصاد، ودخل في زمرة المرددين لأذكار الانتصار الليبرالي وأوراده. ومع أن الإنصاف يدعونا إلى الاعتراف لبعضهم بالسعي الجدي في نقد مثالب تجارب التنمية المستقلة السابقة، وفي محاولة استثمار بعض مكتسبات تجربة التقدم الاقتصادي الليبرالي دون السقوط في التمذهب الأعمى لهذا الخيار، فإن الأمانة تدعونا إلى عدم تجاهل محاولات بعض آخر من هذا القسم من مثقفي اليسار الراحل، إنتاج قراءة عدمية لتراث النضال من أجل التحرر الاقتصادي ومكتسبات حقبة التنمية المستقلة، وهي محاولات مشفوعة- للأسف- بتمذهب ايديولوجي للخيار الليبرالي التبعي فاق نظيره لدى الليبراليين وتفوق على نفسه.

لندع أمر الليبراليين والتائبين المتكبرين جانباً، ولننظر في ما قاله الناحون منحى الاعتقاد بامتناع إمكانية التنمية المستقلة في الشروط الراهنة والمستقبلية بعد أن كان أمرها ممكناً في ما مضى.

يستند هؤلاء في الاعتقاد إياه إلى جملة أساند لعل من بين أهمها ثلاثة: أولها أن التنمية الاقتصادية في العالم المعاصر، وخاصة في العقدين الأخيرين، لم تعد محكومة بآليات داخلية صرف (قوة العمل، الرأسمال، السوق القومية، الموارد الوطنية المتاحة...)، ولم يعد إطارها وطنياً أو قومياً، وإنما باتت محكومة بقوانين أشمل تفيض عن حدود الكيانات الوطنية، وباتت مدعوة إلى البحث عن نفسها في إطار تكتلات فوق- قومية من جنس التكتلات الإقليمية. وثانيها أن التجربة أقامت الدليل على استحالة مثل هذه التنمية المستقلة كما في الاتحاد السوفييتي و”المعسكر الاشتراكي”، حيث كشف إخفاق دوله وانهيارها الاقتصادي عن طوبى هذه التنمية “التي كانت دول هذه المنظومة سباقة إليها منذ عقود طويلة” وكما في حالة بعض بلدان الجنوب التي قامت فيها، قبل ثلث قرن أو أكثر، نظم وطنية سعت في هذا الباب وانتهت تجربتها إلى سقوط مروع. وثالثها أن الاقتصاد العالمي شهد- منذ عقد التسعينات من القرن العشرين الماضي- منعطفاً تاريخياً غير مسبوق في الطبيعة والنتائج، تمثل في ظاهرة العولمة وما رتبته من حقائق جديدة من قبيل سقوط الحدود بين الاقتصادات، وانحكام الأسواق بأحكام موحدة (قيام “منظمة التجارة العالمية”) وتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، والاندماج التلقائي للفضاءات الاقتصادية في الاقتصاد العالمي.. الخ.

ولنا حول أسانيد هذه العقيدة ملاحظات ثلاث:

* الملاحظة الأولى تتعلق بالصلة بين مبدأ التنمية المستقلة وبين آلية الاندماج الاقتصادي في المحيط فوق- القومي أو الإقليمي (التكتلات الكبرى). ليست هذه الصلة- في مفهومنا- صلة تعارض وتنابذ بل صلة تجاور وتكامل، ذلك أن التكتل الاقتصادي ما كان دائماً- ولا هو اليوم- إطاراً للتبعية، وإنما هو إطار لعلاقات الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات، ذلك حاله في تكتل ال”نافتا” و”الاتحاد الاوروبي”، ويمكن أن يكون حاله كذلك في الإطار العربي أو في الإطار الإسلامي إن خرج هذان أو أحدهما إلى الوجود.

والملاحظة الثانية تتعلق بثقل تجربة البناء الاقتصادي السوفييتي- الأوروبي الشرقي- الجنوبي أو العالمثالثي في الميزان. فإذا كان من السهل لكل متسقط هنات وهفوات أن يتخذ من انهيار الاتحاد السوفييتي و”المعسكر الاشتراكي” والمواقع الوطنية في منظومة الجنوب تكأة لإصدار حكم الإعدام- الايديولوجي- في حق تجارب التنمية المستقلة فيها، فإن من السهولة أكثر أن نرد عليه ببيان الفارق بين أحوال تلك الدول، حين اعتناقها عقيدة التنمية المستقلة، وبين ما هو عليه أمرها اليوم من سوء بعد أن جربت خوض رهان الليبرالية الانتحاري.

* أما الملاحظة الثالثة، فتتعلق بسابقة تنموية أسقط نجاحها المبهر كل التحفظات والاعتراضات على فكرة التنمية المستقلة، هي الصين. بدأت الصين تجربة التنمية المستقلة منذ ميلادها الحديث، وخلال عهد ماوتسي تونغ. واستمرت فيها بعده منذ ربع قرن، ثم شهدت ثورتها الاقتصادية العظمى في العقدين الأخيرين على النحو الذي حولها “فجأة” إلى عملاق كبير في العالم المعاصر، فعلت ذلك قبل العولمة، منذ بدء تنفيذ الإصلاحات التي أطلقها الرئيس الراحل دينغ كيساو بينغ، وإطلاق برنامج التحديث الاقتصادي “العصرنات الأربع” من طرف هوا كوفينغ (1978) ثم استأنفت ذلك بنفس أقوى وبمعدلات من التقدم والتنمية أعلى في عصر العولمة، وها هي الصين اليوم- في زمن العولمة- أقوى مما كانت عليه في أية حقبة من تاريخها: الدولة الوحيدة التي انتهضت بإمكانياتها ومواردها الذاتية، بل وفي ظل الحصار الرأسمالي الشديد الذي أطبق عليها والدولة الوحيدة التي لم تحتج إلى ديون وقروض أجنبية كي تنهض والدولة الوحيدة التي لا تغامر بتعريض ميزانها التجاري للعجز، والدولة التي لا تكاد تستهلك- إلا لماماً- ما لا تستطيع أن تنتجه.. إلخ، ها هي الصين- إذن- تثبت أن خيار التنمية المستقلة ليس مستحيلاً إلا لدى من أقامه على مقتضى الغش فانتهى بذلك إلى فساد.



التعليقات