31/10/2010 - 11:02

لماذا لم نطوِّر آليّة مُراكَمة؟../ نبيل الصالح

لماذا لم نطوِّر آليّة مُراكَمة؟../ نبيل الصالح
عذرًا على الكتابة في ظرف يتفقّد خلاله الفلسطينيّون في غزّة ما تبقّى من أضلعهم، ويبحث الأطفال عن إخوتهم وأترابهم، ولكن سخرية القدر تفرض على الباقين أحياءً أن يستخلصوا العِبَر مِن موتِ مَن سقطوا نيابة عنهم. وما يزيد موتَ الميّتين موتًا هو إفلاتُ اللحظة دون استخلاص عبر ودروس تُعين على محاربة المجرمين -أو مقارعتهم على الأقلّ-، وذلك أنّ هذه الحالة التي عاشتها أجزاء الشعب الفلسطينيّ كتجربة جماعيّة، وإن كانت متفاوتة في التعرّض لجرائم إسرائيل، ليست حالة طارئة وعابرة، كما قد يبدو، بل متكرّرةٌ هي ما دامت إسرائيل على ما هي عليه، وما دامت توازنات القوى في العالم على ما هي عليه، وما دامت الظروف تتيح تآمُرَ الأطراف الضالعة في هذه المحاولة لكسر مقاومة الفلسطينيّين الباقية بعد تفريط القيادات الفلسطينيّة الموالية لإسرائيل.

من بين جوانب تجربة الفلسطينيّين في الداخل، في الحرب الأخيرة، هنالك الاحتجاج الجماعيّ. عند مراجعة حركة احتجاج الفلسطينيّين في الداخل على جرائم إسرائيل في غزّة (وهو احتجاج يفوق في حجمه ما اعتدنا عليه في حالات مماثلة مضت)، يسود شعور بأنّ خللاً ما يعتري العملَ الجماعيَّ الفلسطينيَّ في إسرائيل ينعكس على مستويات عدّة.

على سبيل المثال، تأتي الدعوة إلى النشاطات الجماعيّة المنظّمة متأخّرة، وعبْر خطوات متردّدة اعتذاريّة ليس أشدّها رداءَةً إعلان الإضراب العامّ في أيّام الأحد، حيث لا نشاط ولا تعليم في المدارس وما إلى ذلك من مُرافِقات أيّام العطل، على الأقلّ في الجليل والمدن المختلطة. كذلك إنّ النشاط الاحتجاجيّ المركزيّ يقتصر -في المعتاد- على مظاهرة، يعتمد حجم عدد المشاركين فيها على حدّة المجازر الإسرائيليّة، لا على جهود الحشد الذاتيّ. وتتخلّف حركة الاحتجاج الحاليّة (ولا أقول: "النضال" -لأنّه محفوظ لأبطال غزّة)، على الرغم من تقدّمها النسبيّ كما ذكرت آنفًا، في توزيعها الجغرافيّ بين مناطق تركيز الفلسطينيّين المختلفة داخل إسرائيل، وفي أنماط الاحتجاج وتبدّلها، وفي تصعيدها، ناهيك عن الأداء المشهديّ لبعض الأحزاب التي باتت تشارك حتّى في جنازات الشعراء بأعلامها الملوّنة، وتريد لعددها أن يفوق عددَ أعلام الأحزاب الأخرى، ويبارز أعضاؤُها غيرَهم في إطلاق الشعارات الخاوية، والفاقدة للمعنى أحيانًا. وليس من الصعب تعدادُ أوجه القصور الأخرى في حركة الاحتجاج الحاليّة وفي سابقاتها.

ما ذُكر آنفًا كافٍ لنقلنا إلى محور هذا المقال الذي يظهر في السؤال: لماذا لم نطوّر آليّة مُراكَمة لتجربتنا الجماعيّة؟ فالمُراكَمة ضروريّة، وذلك أنّها قادرة على جعلنا نتفادى جُلَّ أوْجُه القصور في مسعى تحسين وتنجيع الاحتجاج وزيادة أثره -وهو المطلوب.

قبل الاجتهاد المتواضع في التعامل مع هذا السؤال، من المفيد استدعاء تجربة الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة في الداخل كحلبة أخرى تغيب عنها آليّات المُراكَمة وتبدو مَعالمها قاصرة عن أداء الدَّوْر المُناط بها. ولعلّ ما حدث في التعامل مع إحياء الذكرى الستّين للنكبة مثال جيّد لهذا. فما إن انقضى شهر أيّار من السنة المنصرمة، شهر الذكرى الستّين لنكبة الفلسطينيّين بقيام إسرائيل، حتّى بدأ الاهتمام بالذكرى يخفت على نحوٍ أحبطَ كلَّ الذين اعتبروا زخم المشاركة بالفعّاليّات الوطنيّة المركزيّة دليلاً على حدوث تحوّلٍ ما في التعامل مع الدولة، وفي فهمنا لمكانتنا إزاءها، كفلسطينيّين، أصحاب الأرض المؤتمَنين عليها، أو حتّى كمواطنين.

غابت الدعوات للنشاطات التي لوحظت كثرتها قُبَيْل منتصف أيّار، تفرّق المشاركون بغالبيّتهم، وتبدّد الفكر الحالم بعمق التحوّل.

في العقود الأولى بعد النكبة، لم يكن من الغريب ألاّ نختلف عن الشعوب المستعمَرة أو المحكومة في أساليب تَذَكُّرِها، وأن نحتكم، نحن الفلسطينيّين داخل إسرائيل، إلى قاعدة التذكّر (الاستذكار، إحياء الذكرى) الجماعيّ لدى الجماعات الواقعة تحت حكم تسلّطيّ، على اختلافها. ففي أعقاب الانكسار أمام عدوّ لا زال يقبض حتّى على لقمة العيش وعلى أركان الوجود بكلّ معانيه، وتحت وطأة التهديد الذي لا يسعف ضحاياه أفقٌ يبشّر بفرص انعتاقٍ، يتشدّد التذكّرُ في انتقائيّته المعهودة، فيعير المحكومون انتباهًا أكبر للعوامل التالية وسواها: زمان التذكّر؛ مكانه؛ مضمونه؛ طقوسيّته. ويبدأ فعل التذكّر بأخذ أشكال تجعل كلّ مراقب من الخارج يعجب من قدرة المحكومين على التحايل، ومن قدرتهم على التعامل بنجاح مع المفارقات التي تصبح المميِّزَ الأبرزَ لحياة الجماعة الواقعة تحت السيطرة.

يتذكّر المحكومون كجماعة في أمكنة لا تثير غضب مَن يتسلّط عليهم، ولمدّة زمنيّة محدودة، وعلى نحوٍ اعتذاريّ يغلب عليه الحزن والبكائيّات، وفي طقس له صفات الحدوث خارج سياق الزمن العاديّ، زمن علاقات القوّة والانصياع لشروط الحاكم. يصبح طقس التذكّر وسيلة لإراحة الضمير الذي يعتقد أنّ عليه أن يغلِّب النسيانَ حتّى تُزال العراقيل من درب الانغماس في حاضرٍ متطلِّبٍ ومستقبلٍ يحمل بعض المجهول، أو ربّما هو طقس يشبه "طقوس التمرّد" السنويّة الدوريّة لدى قبائل أفريقيّة لا زالت تقيم، دوريًّا، طقسًا يجري فيه قلب الواقع اليوميّ، بكلّ مركّباته، رأسًا على عقب، لتفريغ المشاعر الغاضبة المعارضة للقوى التي تتحكّم بهذا الواقع. يُقام هذا الطقس في زمن محدود، تَعْقبه عودةٌ إلى الواقع السابق الذي يتحصّن في شرعيّته التي تخلّصت من مشاعر المعارضة، انتظارًا لطقس العام التالي. ولا يُدْرَج يومُ إجراء الطقس ضمن التقويم السنويّ الرسميّ.

يشبه هذا الوضع ما حدث في أعقاب فعّاليّات إحياء الذكرى الخمسين للنكبة، في العام 1998. وقتذاك أيضًا دام التفاؤل أسابيع معدودة، بعدها أصبح ما عَلِق في الذاكرة من مَشاهد المشاركين في مسيرة صفّورية المركزيّة ينفضون الغبار عن أحذيتهم، أصبح ذا دلالة أيضًا. ولا يختلف إحياء ذكرى المناسبات الجماعيّة الأخرى عن هذه القاعدة.

يثير هذا السلوك المتكرّر سؤالاً بات ملحًّا، اليوم بعد مضيّ عقود طويلة على النكبة، حول غياب آليّات مُراكَمة التجربة الاحتجاجيّة للفلسطينيّين في الداخل، كمجموعة قوميّة ترزح تحت سلطة واقع كولونياليّ شبه كلاسيكيّ (وقد فضّلت استعمال "مُراكَمة" لا "تراكم" للتأكيد على أثر الفعل الإراديّ في التراكم). وينبع إلحاح السؤال من عدم تحقّق ما كان يفترض أن يحدث في الوعي وأدوات الممارسة بتأثير القيادة السياسيّة التي قادت الفلسطينيّين في إسرائيل خلال كلّ تلك السنوات.

ولا بدّ لكلّ مَن يهتمّ بتنجيع الأداء الجماعيّ الفلسطينيّ في الحاضر والمستقبل أن يفحص أسباب غياب آليّات المُراكَمة وأثَرَ ذلك على تأجيل وعرقلة بدايات التحوّل في العمل الجماعيّ الفلسطينيّ في الداخل إلى منتصف التسعينيّات تقريبًا، حيث بدأ التحوّل بخطوات تتعثّر بعراقيل وُضعت عمدًا، بعضها إسرائيليّ، والبعض الآخر فلسطينيّ وطنيّ محليّ.

أستطيع أن أتفهّم كيف لا يكون من له دولته مسكونًا بهاجس سؤال غياب أو حضور آليّات مُراكَمة التجربة الجماعيّة في المجالات المختلفة، أمّا غياب الآليّة لدى الفلسطينيّين في إسرائيل فهو أمر غريب، ولكنّه قابل للتفهّم في حالة الخواء السياسيّ التي نتجت بعد النكبة، فقد غابت القيادات الفلسطينيّة الوطنيّة التي واجهت الاستعمار والصهيونيّة، وبقي الفلسطينيّون في الداخل تحت تأثير محصِّلة قمع الدولة، من ناحية، والخوفِ -من ناحية أخرى- من مصير مشابه للمطرودين من الوطن، والقلقِ إزاء الغموض الذي يكتنف المستقبلَ وفقدان الوطن على الصعيدين الفرديّ الخاصّ والجماعيّ/ العامّ. كذلك هو الأمر على صعيد التنظيم السياسيّ الضيّق في الظروف المذكورة، إذ لم يُسمح لأيّ تنظيم سياسيّ عربيّ وطنيّ/قوميّ مناهض بالنشوء، فوقع مَن تبقّى من العرب تحت تأثير الحزب الشيوعي الإسرائيليّ الذي كان حزبًا اشتراكيًّا يهوديًّا عربيًّا أراد لإسرائيل أن تكون دولة تَسْلك وَفقًا لوعودها وأخلاقها في وثيقة استقلالها (التي كان ممثّل الحزب في قيادة الييشوف اليهوديّ قد وقّع عليها)، وتحت تأثير أحزاب العملاء العرب الذين أقاموا قوائم جَنّدت الأصوات لصالح الحزب الحاكم ("مباي").

وعليه، ليس من الغريب، ما دامت هذه كانت ظروفَ خلق الوعي السياسيّ في فترة التأسيس المفصليّة لهُويّة الفلسطينيّ الباقي في وطنه، أنْ نفقد آليّة المُراكَمة، فقد دَفعت جهاتٌ مختلفةٌ الفلسطينيّين في الداخل صوْبَ الشعور والوعي والسلوك كمواطنين، بعضهم مستكين راضخ، وبعضهم يفاوض على الاستحقاقات ويطالب بالمزيد.

فقدان آليّة المُراكَمة، إذًا، مرهون -في غيابه حتّى اليوم، وفي حضوره إذا تحقّق في المستقبل- بشكل الجماعة الفاعلة في حالة الاستعمار. وكما لم تتمكّن الجماعة بشكلها الذي صِيْغَ وتبلورَ في الظروف الآنفة الذكر من تشكيل هذه الآليّة، فإنّ تحقيق المُراكَمة في المستقبل يتطلّب العمل على صعيد الوعي الشعبيّ والمؤسّساتيّ المراكَمين، وما يدور بينهما. كما يستدعي هذا رفضَ قبول التقسيمات السياسيّة الإسرائيليّة للفلسطينيّين، وهي تقسيمات اعتمدها الفلسطينيّون (منظّمة التحرير والفصائل المختلفة والأحزاب)، وهو ما ساعد في الغياب، وأبقى كلاًّ منهم في "مكانه" كما "هو". كذلك ينبغي والتعامل مع الذات كجماعة قوميّة، والتأكيد على العدل التاريخيّ في قضيّة الفلسطينيّين والالتزام به، ورفض فكرة مقايضته بالاستحقاقات.

وقبل هذا كلّه، ثمّة حاجة إلى ترسيخ الاقتناع بضرورة الفعل التحرّريّ الأخلاقيّ الانعتاقيّ، في كلّ مواجهة وانطلاق السلوك الجماعيّ من هذا المنطلق، وبأدوات مناسبة للهدف المرجوّ مرحليًّا وإستراتيجيًا.

التعليقات