31/10/2010 - 11:02

مقاومة فلسطينية سابقة تقمع مقاومة فلسطينية حالية/ عبد الاله بلقزيز

-

مقاومة فلسطينية سابقة تقمع مقاومة فلسطينية حالية/ عبد الاله بلقزيز
في زمنٍ مضى، يقع بين منتصف الستينات ومنتصف الثمانينات من القرن العشرين، كان اسم حركة “فتح” يكاد يختصر اسم المقاومة الفلسطينية من شدة وكثافة رمزيته وحضوره الناجمين عن ثقل الحركة وموقعها الطليعي في ساحة العمل الوطني الفلسطيني إجمالاً، وفي ميدان الكفاح المسلح على نحو خاص. وما كان ذلك الاختصار ليُلغي أو يَهْدُرَ دوراً نهضت به فصائل أخرى في المقاومة ك”الجبهة الشعبية”، و”الجبهة الديمقراطية”، و”الجبهة الشعبية القيادة العامة”، و”الصاعقة”، و”جبهة التحرير الفلسطينية”... إلخ، لكنه كان يضعه تحت عنوانه العريض كدورٍ يقع ضمن نطاق مشروع تقوده حركة “فتح” وترمز له منذ ريادتها في إطلاق الثورة والرصاصة الأولى في فجر اليوم الأول من الشهر الأول من العام 1965.

وفي زمن مضى، يقع بين توقيع “اتفاق أوسلو” في العام 1993 وبين منتصف هذا العقد، كاد اسم حركة “حماس” يختصر اسم المقاومة الفلسطينية ويرمز لها بسبب دور كفاحي مميز نهضت به في حقبة التسوية العجفاء. ومع أن فصائل أخرى، مثل “الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية”، شاركت في المقاومة طوال تلك الحقبة، ومع أن “فتح” عادت الى العمل المسلح من طريق “كتائب شهداء الأقصى” منذ خريف العام 2000 بعد انهيار التسوية في مفاوضات “كامب ديفيد” الثانية (يوليو 2000)، إلا أن صلة “حماس” لم تنقطع بخيار المقاومة طوال حقبة التسوية وإلى حين وصولها الى السلطة في مطلع العام 2006.

أما اليوم، ومنذ ما يزيد على العام ونصف العام، فلا يُذكر اسم المقاومة إذا ذُكِر إلا مقترناً باسم “الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية” اللذين ما برحا حتى اليوم خارج السلطة (وإن كانت الجبهة في “المجلس التشريعي” وهو من مؤسسات “أوسلو”). لكن اقتران اسم المقاومة بهذين الفصيلين ليس يعني أنهما يقومان اليوم بمثل ما قامت به “حماس” أمس و”فتح” أول أمس، أو يَسُدان فراغاً تركه انكفاء الحركتين عن ساحة العمل المسلح منذ أن ابتُليتا بداء السلطة وأعرضتا عن المقاومة، فالفصيلان هذان لا يملكان من القوة والإمكانات والخبرات ما كان تحت تصرف الحركتين. ومع أن دورهما القتالي رمزي إن قِيسَ بدور الحركتين أو بحاجات العمل الوطني الفلسطيني تحت الاحتلال، إلا أن مجرد النهوض به على تواضع تأثيره ونتائجه، والتمسك به حين أعرض عنه من أعرض، يمثل في حد ذاته قيمة وطنية لا تقدر بثمن. فهو يتجاوز وظيفته الرمزية كفعل من أفعال ستر عورة ساحة وطنية انتقلت سريعاً من دون سبب أو مبرر من حقبة التحرر الوطني الى حقبة “القِطاف السياسي”، ليتحول الى فعل مبدئي استنهاضي يكرس معنى التحرر الوطني في لحظة تتعرض حقيقتها للتزوير، بكل أسف، من وراء إغراءات سلطة لم تعد لها من وظيفة غير حَرْف قضية فلسطين عن مسارها التحرري الطبيعي.

يعتصر المرء منا ألمٌ شديد حين يرى بأمّ العين كيف تحرص “فتح” وسلطتها في رام الله على أمنها الوقائي أكثر من حرصها على “كتائب شهداء الأقصى” و”ألوية صلاح الدين”، وكيف تحرص “حماس” وسلطتها في غزة على أجهزة أمنها وقوتها التنفيذية أكثر من حرصها على “كتائب الشهيد عز الدين القسام”. وهو يألم أكثر حين يرى “كتائب شهداء الأقصى” و”كتائب عز الدين القسام” تشاطران الحركتين والسلطتين مواقفهما وحساباتهما فيما المفترض أنهما مؤسستان قتاليتان تحرريتان ليستا معنيتين بغير مقاتلة العدو المحتل! يعجب لأمر هذا التوافق بين ضدين (المقاومة والسلطة) ويتذكر عهداً قريباً جداً: عهد الشهيد ياسر عرفات حيث كان الرجل يفاوض، أو يوحي بأنه يفاوض، فيما حركته (“فتح”) وتنظيمها العسكري يقاتلان. إنه العهد الذي كانت فيه السياسة تُمارَس بأوسع معانيها، أعني بوصفها الفعل الذي لا يُسقط خياراً ولا يهدر ممكناً ولا يفرط في مورد قوة أو وسيلة متاحة. نعم، نحن اليوم لسنا في عهد ياسر عرفات أو الشيخ أحمد ياسين. لكننا نفترض أن الذين ورثوا السياسة عن هذين القائدين وعن رجال آخرين من طراز خليل الوزير وصلاح خلف وخالد الحسن وعبدالعزيز الرنتيسي وإسماعيل أبوشنب يعرفون في الحد الأدنى كيف ينظمون الجوار بين الموقف والبندقية، بين السياسة والقتال، بين الخيار والاضطرار.

ويعتصر المرء منا ألمٌ أشد حين يعاين وقائع التضييق وأحياناً التنكيل الذي يتعرض له مقاتلو “سرايا القدس” و”كتائب الشهيد أبو علي مصطفى” و”كتائب المقاومة الوطنية” وغيرها من أذرع عسكرية مقاومة من طرف سلطتي رام الله وغزة وشرطتيهما لمجرد أنهم يمارسون واجباً وطنياً، وحقاً مقدساً هو مقاتلة الاحتلال. لم تَعُد السلطتان، والحكومتان، والشرطتان، والحركتان اللتان تقف خلف هذه الأوثان، ترغبان في رؤية مثل هذه المقاومة اليوم. ليس لأسباب نفسية ومعنوية حيث تذكرهما بماضيهما الثوري المقاوم، بل لأسباب سياسية ومصلحية صغيرة وشديدة التفاهة منها وعلى رأسها الرغبة في الحفاظ على سلطة من طريق الهدنة والتهدئة مع العدو، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كان أبومازن يُجاهر، قبل أن يصبح رئيساً للسلطة، بموقفه السلبي من المقاومة أو بما كان يسمّيه تأدّباً ب “عسكرة الانتفاضة” ويُجاهر باعتراضه على سياسات ياسر عرفات التي لم تقطع على نحو حاسم مع خيار الضغط القتالي ولم تَختَر نهائياً خيار التفاوض أسلوباً وحيداً. وكثيراً ما وَصف أبومازن صواريخ “حماس” بأنها “صواريخ سياسية” و”مفرقعات” لا تؤذي “إسرائيل” بمقدار ما تؤذي القضية الفلسطينية. ولقد جَر عليه ذلك سيلاً من النقد والاستهجان من قِبَل كل من ظلوا مؤمنين بالمقاومة أسلوباً رئيساً للتحرر الوطني. ثم كان من صدف الأقدار أن “حماس” وسلطتها وشرطتها في غزة رددت كلام محمود عباس بمفردات أخرى من قبيل القول مثلاً إن تثبيت التهدئة “مصلحة وطنية” فلسطينية رداً على صواريخ مقاتلي حركة “الجهاد الإسلامي” المنطلقة من غزة. بل إنها ما ترددت في الاشتباك مع مجاهدي هذه الحركة واعتقال بعض مقاتليها وإقفال بعض المؤسسات الإعلامية للجبهة الشعبية رداً على “خرق التهدئة” مع “إسرائيل”، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وبعد، لتنعم “فتح” و”حماس” بسلطتيهما وبوهم الأرباح الناجمة عن الهدنة مع العدو، أو بلغتنا عن التخلي عن خيار المقاومة. ولكن، لا حق لأي منهما في منع من بقي مؤمناً بالمقاومة من الحق في ممارسة المقاومة، لأن هذا المنع ليس فقط يُصادر حقاً مشروعاً، وإنما يحول الحركتين والسلطتين الى شرطيّ حدود يحمي أمن العدو المحتل من مناضلي شعب رازح تحت قبضة الاحتلال.


"الخليج"

التعليقات