27/02/2020 - 14:40

الفلسطينيون وإضاعة الفرص

يستنتج المرء أن استمرار المشروع الاستيطاني الاستعماري من دون أن يوقع ضحاياه على مشروعيته من خلال تسويات مؤقتة، هي لصالح ذلك المشروع، هو أمر أصح وأجدى لصالح الحفاظ على شرعية الكفاح وجذوته عند الشعب الأصلي، مهما طال هذا الكفاح.  

الفلسطينيون وإضاعة الفرص

مع طرح أي مبادرة سياسية جديدة تجاه القضية الفلسطينية، تعلو الأصوات التي بعضها دولي وبعضها عربي، وبعضها مما يسمى بحركات السلام الإسرائيلية، مطالبة الشعب الفلسطيني وقيادته ألا يضيعوا الفرصة، وأن يقوموا بنقاش المبادرة والتفاوض حولها للحصول على أكبر قدر مما يمكن الحصول عليه.

تحتاج هذه الأطروحة إلى تفكيك، سيما وأنها تظهر وكأنها دعوة عقلانية من جهة، كما أنها تستند إلى ما تسميه بالنتائج الكارثية للرفض الفلسطيني، وذلك على غرار القول: رفضتم قرار التقسيم عام 1947، والذي كان يعطيكم أقل من نصف فلسطين التاريخية، فكانت النتيجة أن إسرائيل قامت على 78 في المئة من أرض فلسطين (أي اكثر من ثلاثة أرباعها) بعد أن هزمتكم عام 1948؛ ورفضتم عرض إيهود براك عام 2000 للانسحاب من 80 في المئة من أرض الضفة والقطاع؛ ثم عرض إيهود أولمرت عام 2008 بالانسحاب من 94 في المئة من أراضي الضفة، والذي أتى بعد ثلاثة أعوام من انسحاب إسرائيل من قطاع غزة وتفكيكها للمستعمرات هناك، وذلك لكونهما لم يلبيا المطالب الفلسطينية المشروعة بشأن اللاجئين والقدس بشكل خاص، ضمن قضايا أخرى رفضتم التنازل عنها بأنها تمثل جوهر القضية الفلسطينية. فماذا كانت النتيجة؟

لقد جاءت (كما يقول هؤلاء) بأن حصلتم على عرض ترامب عام 2020 بأن تأخذوا ما لا يزيد عن 70 في المئة من أراضي الضفة، مضافًا إليها 13٫5 في المئة قد يجري نقلها إلى دولة فلسطين من المناطق الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة، ومن منطقة المثلث المقترح في خطة ترامب تحويلها إلى فلسطين، بعد أن تقبل فلسطين بالشروط الأميركية - الإسرائيلية الواردة في الخطة.

ويكمل القائلون بهذه الحجج محذرين: إذا لم تقبلوا خطة ترامب أيها الفلسطينيون، فستكون الخطة القادمة أسوأ لكم، وستقدم لكم الأقل، ويضيفون أن خطة "صفقة القرن" قد تكون العرض الأخير الذي لن تكون المزيد من "الفرص" بعده، بل ستستبدله إسرائيل وأميركا بالتوجه لضم الضفة كاملة إلى إسرائيل من دون " منح" الفلسطينيين أي شيء. وينتهي طارحو هذه الحجج بدعوة الفلسطينيين للقدوم إلى الطاولة للتفاوض، بادئين بطرح مشروع مضاد لـ"صفقة القرن"، كما طالبهم بذلك وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، مؤخرًا.

في ظل الضعف والانقسام الفلسطيني، والتفكك العربي، وتراجع حالة الكفاح الوطني والشعبي، تبدو هذه الطروحات مقنعة لعدد من العرب الذين نصحوا الفلسطينيين بالتفاوض حول الصفقة، قبل أن يفرض عليهم ما هو أسوأ منها. ويقول لسان حال بعض البريئين من هؤلاء: اذهبوا واطرحوا مواقفكم وقاتلوا من أجلها، وذلك بغض النظر عما يعرضه الأميركان والإسرائيليون.

إلى هنا تنتهي حجج هذا التيار.

يتجاهل هذا النمط من التفكير حقائق أساسية، لعل منها أن الفلسطينيين لم يضيعوا الفرص، بل إنهم قد اقتنصوا خطأ برأي هذا المقال ، أخطر وأدق ما ظهر، وكأنه فرصة عرضت عليهم بعد حرب الخليج الأولى، وقبلوا ضمن ذلك بتنازلات قاتلة، إذ وافقوا على التمثيل ضمن وفد أردني - فلسطيني مشترك لمفاوضات مدريد عام 1991، ثم قبلوا عدم تجميد بناء المستوطنات الاستعمارية خلال فترة المفاوضات، وتأجيل قضايا القدس واللاجئين والحدود والأمن والمياه إلى مرحلة التفاوض حول ما سمي بالحل النهائي، التي كان يفترض أن تبدأ في السنة الثالثة بعد التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ (الشهير بإسم اتفاق أوسلو) عام 1993.

كل العالم يعرف ماذا جرى بعد ذلك، إذ فشل التوصل إلى الحل النهائي حتى عام 1999 كما كان متفقًا عليه، ومنذ ذلك الحين تواصل الاستيطان الاستعماري تحت غطاء المفاوضات، وارتفع عدد المستوطنين المستعمرين في فلسطين المحتلة عام 1967 من 90 ألفًا عام 1991، إلى ما يزيد عن 653 ألفًا حتى نهاية عام 2017 (الإحصاء المركزي الفلسطيني، 2019).

يعني ما سبق، أن الشعب الفلسطيني لا زال يجابه مشروعًا استيطانيًا استعماريًا بدأ على أيادي رجال الاعمال اليهود والمستعمرين الألمان والأميركان منذ بداية القرن التاسع عشر، واستمر بعد ذلك على يدي الحركة الصهيونية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى اليوم. قوام هذا المشروع يرتكز إلى اقتلاع شعب من أرضه بالتدريج والسيطرة على أرضه، وإحلال المستوطنين المستعمرين مكانهم. في إطار هذا الفهم، يمكن استنتاج أن أي تسويات يسعى لها المشروع الاستيطاني الاستعماري مع الشعب الأصلاني لا تعدو كونها "وقتًا مستقطعًا"، يسعى المشروع الاستيطاني الاستعماري للتمتع به من أجل استثماره لتوسيع ذاته، واستكمال السيطرة على كامل أرض الشعب الأصلي، محولة في حالتنا إلى "أرض إسرائيل" التي هي حق حصري "لشعب إسرائيل"، كما جاء في "قانون القومية" الإسرائيلي عام 2018.

من هذا المنطلق، يصبح الحديث عن الفرصة للشعب الأصلي للانخراط في تسوية ما، لن تكون إلا مؤقتة وفق منطق المشروع الاستيطاني الاستعماري، خطلا مقصودًا ليس الهدف منه سوى التغطية على الفرصة الحقيقية، والتي تتمثل بإقناع الشعب الأصلي عبر التفاوض لمنح فرصة للمشروع الاستيطاني الاستعماري، ليتوسع من دون مقاومة كبيرة من ذلك الشعب الأصلي، تحت غطاء ما يسمى بالتسوية السياسية المتفق عليها، وكذلك عبر قيام الشعب الأصلي بمنح الشرعية عبر تلك التسوية، التي يوقع عليها لما يقوم به المستوطنون المستعمرون على حساب الشعب الأصلي.

بهذا الفهم، تتفكك أطروحة الفرصة، فإذ تطرح وكأنها فرصة للشعب الأصلي، فذلك ليس إلا خداعًا، حيث أن كل تسوية هي مؤقتة فقط في حالة المشاريع الاستيطانية الاستعمارية، وبالتالي فإن ما يطرح كفرصة للشعب الأصلي ليس في الواقع الحق إلا فرصة للمشروع الاستيطاني الاستعماري لكي يستكمل توسعه وابتلاع مزيد من الأرض.

وفي المقابل، يتم تحميل الضحية المسؤولية عن توسع المشروع الاستيطاني الاستعماري، ويجري الترويج بأن المشروع الاستيطاني الاستعماري قد نمى نتيجة لأخطائها، فالمذنب هو الضحية دائمًا وفق المنطق الاستيطاني الاستعماري الذي يستبطنه بعض العرب. في هذا الإطار، يقدم المشروع الاستيطاني الاستعماري مشاريعه للتسوية بمساعدة الدولة الاستعمارية الأم له (في حالتنا هي الولايات المتحدة الأميركية)، بحيث يأتي كل مشروع ليقدم أدنى مما قدمه المشروع السابق له، وهو ما يعني أن كل مشروع تسوية استعماري يهدف لتدجين الشعب الأصلي للقبول بمستوى معين من التنازلات، ثم يليه مشروع آخر ليطالب بتنازلات أكبر، وذلك حتى وصلنا لصفقة ترامب التي تطالب الفلسطينيين بالتوقيع على التنازل الكامل عن بلادهم، وقبول العيش بما لا يتجاوز الحقوق الفردية المقدمة كمكرمة من الدولة الصهيونية، التي ستبقي السيطرة الأمنية والسيادية على كل البلاد من البحر إلى النهر، والتي إذا ما نشأت دولة فلسطينية داخلها، فإنها ستكون دولة البقايا المعدومة السيادة والخاضعة خضوعًا تاما لإسرائيل الكبرى التي تؤسس لها الصفقة.

في إطار ذلك، لن يكون هناك معنى "لاقتراح" وزير الخارجية الأميركي، بومبيو، بأن يحضر الفلسطينيون إلى الطاولة ويقدموا عرضهم البديل لـ"صفقة القرن"، فقد سبق أن طرح الفلسطينيون عروضهم التي تمثل الحد الأدنى بالنسبة لهم، ابتداءً من أطروحة الحكم الذاتي الكامل المشروط بوقف الاستيطان الاستعماري وقفًا شاملًا، على طريق الوصول للدولة ذات الاستقلال الكامل، وذلك كما ظهر في أطروحة الوفد الفلسطيني الذي رئيسه القائد الراحل فيصل الحسيني في مفاوضات واشنطن عام 1992، والتي تلت مؤتمر مدريد لعام 1992. وتلى ذلك أطروحات فلسطينية أخرى، كانت تواجه كلها برفض أميركي - إسرائيلي، ونشأ عن هذا الرفض صيغ متفق عليها كانت دائمًا، أقل من السقف الأدنى المقبول فلسطينيا، وذلك طيلة فترة ما أسمي بالمفاوضات الانتقالية.

وبعد انتهاء تلك المفاوضات الانتقالية، جرى البدء بالمفاوضات حول ما أطلق عليه "الحل الدائم" بدءًا من كامب ديفيد لعام 2000، الذي اصطدم بالحد الأدنى الفلسطيني للدولة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين بالموقف الأميركي - الإسرائيلي الرافض لهذا الحل، وفشلت مفاوضات كامب ديفيد 2000، وأولمرت - عباس 2008. وجون كيري بين العامين 2013 - 2014، نتيجة لهذا الرفض الملازم للمشروع الاستيطاني الاستعماري، وليس جراء إضاعة الجانب الفلسطيني للفرصة كما يشاع، وكأنه كان على الجانب الفلسطيني أن يقبل فرصة يتنازل بموجبها عن القدس وعودة اللاجئين، وببقاء الكتل الاستيطانية الاستعمارية على أرضه.

لهذا كله، ينبغي رفض عرض بومبيو لتكرار التجربة ذاتها مرة أخرى، بخوض مفاوضات لا معنى لها، وفي ظل الاشتراطات الأميركية - الإسرائيلية المطروحة التي لا تؤدي إلا للدخول في سوق المقايضات التي تقود إلى التنازلات الفلسطينية. ولو كان بومبيو جديًا ومنصفًا في طرحه، فكان يتوجب عليه أن يطرح قضايا مثل وقف الاستيطان الاستعماري والتنازل عن هبات أميركا لإسرائيل في "صفقة القرن" كأمور مسبقة لازمة، نعلم علم اليقين أنه لن يطرحها كقاعدة قبل بدء أي مفاوضات على قاعدة الندية بديلا للإملاء.

بناءً على هذا التفكيك، يستنتج المرء أن استمرار المشروع الاستيطاني الاستعماري من دون أن يوقع ضحاياه على مشروعيته من خلال تسويات مؤقتة، هي لصالح ذلك المشروع، هو أمر أصح وأجدى لصالح الحفاظ على شرعية الكفاح وجذوته عند الشعب الأصلي، مهما طال هذا الكفاح. وتعلمنا تجربة أوسلو بأخطائها ونتائجها هذه النتيجة بسطوع تام، كما يتبين على الأرض.

وإذا ما ظهرت تجربة الكفاح الفلسطيني لمواجهة "صفقة القرن" حتى الآن، كتجربة متعثرة يشوبها الانقسام والتخبط والرهان على عودة المفاوضات غير المجدية، بعد انتخاب حكومة أخرى لا يرأسها بنيامين نتنياهو في إسرائيل، والكفاحات الميدانية العشوائية التي لا تراكم، فإن من الأجدى معالجة هذه التعثرات وليس العودة إلى المفاوضات، وذلك من أجل إعادة بناء مسار وطني تحرري قادر على إعادة فلسطين إلى الخارطة، وبحيث يشمل هذا المسار أشكال الكفاح الميداني الإبداعي، والاقتصادي التنموي ، والقانوني والدبلوماسي السياسي، وليس الاقتصار على الأخير كما هو جارٍ حتى الآن من قبل المستوى الرسمي الفلسطيني.

التعليقات