تكشف حركة الاحتجاج الجديدة المتدحرجة داخل المجتمع الاستيطاني الصهيوني ضد حكومة نتنياهو، مجددًا، عن غياب الرؤية السياسية الإستراتيجية لدى من يتبوأ تمثيل الفلسطينيين في الداخل.
كما يفضح هذا الحراك ضعفَ النّاظمِ الوطني الذي من المفترض أن يضبط سلوكنا الجمعي تجاهه. والمدهش أن الجدل الذي ثار داخل لجنة المتابعة قبل تسع سنوات، إثر ظهور أضخم حركة احتجاج في تاريخ إسرائيل، حول كيفية التعامل معها ما زال في قوقعته. في حينه، ولم تكن القائمة المشتركة قد ولدت، توزعت الآراء والممارسات داخل لجنة المتابعة العليا، بين متهافت على المشاركة من دون قيود، وبين مترفع عن ذلك كليًا، وبين من دعا إلى حركة احتجاج فلسطينية ذات بعد سياسي وطني، كما نادينا حينها في حزب التجمع.
غير أن حركة الاحتجاج عام 2011 انتهت كسحابة صيف عابرة. وكان هزال مضمونها وشعاراتها وخواء قياداتها الباعث على موتها وهذا لم يكن مفاجئًا إلا للذين حاولوا أن يجرّونا إلى الأوهام. وبالتالي، فالجدل الذي أثارته داخل الجسم السياسي العربي داخل الخط الأخضر، توقف قبل أن يصل إلى مداه، فتبدد دون أن يترك دروسًا نعود إليها لتلهمنا في مقاربتنا للعلاقة مع التناقضات في المجتمع الصهيوني.
يحمل الحراك الإسرائيلي الجديد الذي تصاعد منذ 14 تموز/يوليو المنصرم، بعض السمات الجديدة والمتقدمة عن حراك 2011. رغم ذلك، من السابق لأوانه استشراف مصيره أو إمكانية تحوله إلى حركة منظمة ومستمرة. ومن المفترض أن ينتبه المضطهَدون إلى ما يجري داخل المجتمع الذي يضطهدهم، ويفحصوا ما يمكن أن يحمله هذا الحراك من تأثير على تماسك نظام القهر، وفي الوقت ذاته لتفادي الوقوع في الأوهام التي تؤدي إما إلى الاستقالة من المسؤولية، أو الذوبان في حراك لم يقم من أجلنا، إنما من أجل حماية المجتمع الاستيطاني من جنون قباطنته.
الهدف المعلن من هذه المظاهرات هو الحفاظ على نظام الأبرتهايد الصهيوني من التفكك، والعمل على استعادة القناع الديمقراطي، ويشكل مطلب إسقاط نتنياهو الشعار المركزي للمتظاهرين باعتباره الشخص الذي يهدد استمرار هذا القناع، حيث لم تؤد ثلاث جولات انتخابية في غضون عام من تحقيق هذا الهدف. وقد شكّل فشل حكومته في معالجة أزمة فيروس كورونا وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية، الوقود الذي صب على الغضب المتصاعد أصلا.
بدأ الحراك بمظاهرة كبيرة في ساحة رابين في تل أبيب نظمتها المعارضة الإسرائيلية، في أوائل تموز الماضي، تحت اسم "الرايات السوداء" كتعبير عن موت الديمقراطية، ثم اندمجت لاحقًا مع ما أصبح يعرف بحركة "العقد الجديد" التي تعنى أيضًا بالآثار الاقتصادية والاجتماعية لأزمة كورونا، وللسياسات الاقتصادية النيوليبرالية. أما الجديد في طبيعة الحراك الجديد، فهو التساهل الذي يبديه الكثير من متظاهري اليمين والوسط مع وجود اليسار الصهيوني، وكذلك اليسار المناهض للاحتلال، هذا ما يتحدث عنه نشطاؤه الذين اندمجوا في المظاهرات، ورفعوا شعارات ضد الاحتلال وتضامنا مع الفلسطينيين، غير أن هؤلاء لا يزالون أقلية لن تتيح تركيبة المجتمع الاستيطاني ولا حركة الاحتجاج الحالية لهم بأن يصبحوا جزءًا مركزيًا من هذا الحراك، على الأقل في المدى المنظور.
ويلاحظ الناشطون المناهضون للاحتلال أن متظاهري الوسط وبعض أنصار الليكود، يغضون الطرف عن مشاركة يساريين، مفضّلين العمل سوية لتحقيق الشعار المركزي، أي إسقاط نتنياهو، وما يسمونه استعادة الديمقراطية الإسرائيلية من معسكر نتنياهو الذي "سرق الدولة". لقد ميّز حراك 2011 رفضه القاطع لوجود اليسار، إذ تحولت كلمة يسار إلى تهمة بفعل التحريض الممنهج والمستمر الذي قاده نتنياهو، ما دفع اليسار الصهيوني إلى تفادي الظهور العلني في ذلك الحراك وبعده، والامتناع عن التعبير العلني عن هويته في النشاط العام. هذا التحول دفع أصواتًا عديدة لتعلن عن أن أيام نتنياهو معدودة، وقد يكون هذا إفراطًا في التفاؤل. والمرجح أن تستمر التناقضات والصراعات الداخلية لفترة طويلة، قبل حصول عملية حسم.
ضرورة إسقاط الوهم
هناك أصوات عربية هي نفسها التي راهنت على حركة الاحتجاج عام 2011، تكرّر نداءات المشاركة في هذه الحركة الجديدة، دون أن تتعظ من دروس الماضي. وهي نفسها التي بددت الفرصة، ولم تسع لإقامة حركة احتجاج عربية أو نضال شعبي مستقل يرفع مطالبها الوطنية والمعيشية اليوميّة.
لم تقدم هذه الأصوات الاندماجية شرحًا واضحًا أو مقنعًا للسؤال كيف يمكن للمشاركة العربية أن تؤثر لصالحنا في الوقت الذي تقوم فيه حكومة نتنياهو بالتحريض حتى على أحزاب الوسط واليسار الصهيوني، واتهامهم بالخيانة؛ فكيف سيكون الحال مع مشاركة عربية واسعة، وبأي مطالب سيذهب المشاركون العرب. فحتى تلك الأحزاب الصهيونية، التي تقود المظاهرات، لا تتحمل شعارات سياسية خاصة بنضال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وفي رأيي إن مشاركة عربية واسعة وتحت شعارات خاصة بها ستساهم في تعويق تفجر التناقضات الصهيونية الداخلية.
ومن الواضح أن من سيستثمر هذه المظاهرات في المدى القريب هو حزب "يش عتيد" بزعامة يائير لبيد، الفارغ والعنصري، وهو الحزب الذي تشكل وصعد بعد احتجاجات عام 2011.
من المهم أن تحدث اهتزازات، وتتحرك التناقضات داخل مجتمع المستعمِر، ولكن حتى الآن لا تدور هذه الاهتزازات على أرضية خلاف حول طبيعة النظام العنصري والاستعماري، بل هو صراع حزبي داخل القبيلة اليهودية الصهيونية، أي بين من يستطيع السيطرة على الدولة، ومن هو قادر على استعادة قناعها الديمقراطي، الذي جرى ويجري من خلفه ارتكاب كل الموبقات والجرائم ضدنا وضد الشعب الفلسطيني عمومًا.
ليس الحل أن نكون متذيّلين لحركة الاحتجاج الإسرائيلية أو الذوبان فيها وتحت شعاراتها الصهيونية، بل هو السعي إلى إطلاق حراك شعبي منفصل وفق نموذج حراك برافر، وبالتعاون والتحالف مع كل الأوساط والأفراد الإسرائيليين المناهضين للاحتلال والاستعمار ونظام المصادرة والتمييز والتحريض العنصري. لنترك تلك القوى الصهيونية تتصارع في ما بينها ولتستنزف بعضها، لأن في ذلك منفعة للنضال من أجل العدالة والحق والمساواة. لقد شكلت عملية مقاومة مخطط برافر، والتي استمرت حوالي ثلاث سنوات، نموذجًا حقيقيًا للنضال الشعبي المدني، فلماذا لا تسعى القيادات الحالية إلى اعتماد هذا النموذج؟
اقرأ/ي أيضًا | استمرار الاحتجاجات الإسرائيليّة: "على نتنياهو أن يقلق"
الجواب ببساطة لأنها غير راغبة وغير قادرة، ولأنها اعتادت على نمط سياسي هجين؛ والسبب الثاني لأن الحراك الشبابي الذي فرض ذلك النمط بات غائبًا مشتتًا، بعد أن أقصى نفسه وأقصي من قبل القيادات.
التعليقات