في مواجهة جملة الضربات التي تُوجّه إلى قضية فلسطين من قبل التحالف الصهيوني الأميركي والعربي الرجعي، الذي خرج من السر إلى العلن، والمستند إلى تحالف قديم وعضوي مع الإمبريالية الأميركية، تعود الأسئلة الكبرى إلى الواجهة، والتي يتساوى الفرار منها أو التحايل عليها مع التواطؤ. وفي خضم ردود الأفعال والجدل بخصوص الخطوة الإماراتية الخيانية، أعاد العديد من الكتاب والمثقفين طرحها كشرط لتصويب الطريق، وتحقيق التفاف داخلي حقيقي وخارجي تضامني، حول أكثر القضايا عدالة وهي قضية فلسطين. وهي أسئلة تتعلق بعوامل القوة التي يجب توفيرها واستعادتها، مثل الوحدة الوطنية الحقيقية، وعدالة قضية فلسطين، والخطاب التحرري، والصدقية تجاه الداخل والخارج.
يذكرنا مشهد الإجماع الفلسطيني الراهن والإجماع الشعبي العربي، سواء ضد صفاقة القرن الأميركية الصهيونية، أو ضد التحالف الإماراتي - الصهيوني والتطبيع مع نظام الاستعمار في فلسطين، بذلك الإجماع الذي تجلى بعد توقيع النظام المصري بقيادة أنور السادات على معاهدة الاستسلام مع إسرائيل عام 1979. في ذلك الوقت، لم يكن وضع النظام العربي الرسمي على هذه الدرجة من السوء، إذ كانت لا تزال فيه روح الرفض والمقاومة التي تجلت في إقامة ما عرف بـ"جبهة الصمود والتصدي"، وتصدرها كل من العراق وسورية والجزائر والحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومعهم عدد من الدول العربية. وشهدت الفترة اللاحقة، أحداث جسام لا تزال آثارها ممتدة في الحاضر الفلسطيني والعربي، مثل اغتيال السادات عام 1981، والحرب العدوانية على لبنان عام 1982 وإخراج قوات الثورة الفلسطينية بعد مقاومة مشتركة مع الحركة الوطنية اللبنانية، لحوالي ثلاثة أشهر، وانفجار الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى عام 1987 التي أبهرت العالم وأسرت خياله لما أظهرته من بطولة جماعية، وقدرة على الإبداع والابتكار في الأساليب والآليات، وتماسك مجتمعي وتضامن داخلي غير مسبوق، على مدار أكثر من أربع سنوات.
وبالضد من منطق هذه التطورات، وخصوصًا الانتفاضة الفلسطينية، التي بفضلها ولأول مرة اهتزت صورة إسرائيل المُسوقة في الغرب كدولة ديمقراطية ومستهدفة من الإرهاب العربي والفلسطيني وكـ"احتلال متنور"، أقدمت الحركة الوطنية الفلسطينية، وتحديدا التيار المتنفذ فيها، على توقيع معاهدة استسلام مع قيادة الحركة الصهيونية في 13 أيلول/ سبتمبر عام 1993. لم يكن بالإمكان الانتصار على إسرائيل آنذاك في ظل عجز الأنظمة العربية وخيانة بعضها، لكن لم يكن الاستسلام خيارًا إجباريًا لا تكتيكيًا ولا وطنيًا، ولا أخلاقيًا. لقد كان بإمكان الحركة الوطنية الفلسطينية التي انتقل ثقلها ومركزها بعد إخراجها من بيروت إلى داخل الأرض المحتلة عام 1967، أن تصمد، حتى وإن تراجعت على الأرض، وأن تواصل الرفض من خلال إعادة تنظيم صفوفها وإعادة بناء أطرها الشعبية ومؤسساتها المختلفة. كان بإمكان قيادة الانتفاضة الموحدة التي ولدت في خضم المواجهة المباشرة مع الاحتلال، أن تصمد وتراكم الإنجازات المجبولة بالأرواح والدماء، لأن هذه القيادة اختارت وسائل النضال الشعبي ورسخت التنظيم المجتمعي مع ممارسة محدودة للعنف الثوري، الذي مكّن الشعب من تحمل قمع الاحتلال ومواصلة حياته اليومية في الوقت ذاته.
لم تكن القيادة الفلسطينية في الخارج التي كانت متشابكة مع قيادة الداخل، على قدر المسؤولية والحكمة التي تمتعت بها قيادة الداخل السياسية والميدانية، فتجاوزتها وعقدت صفقة أوسلو من وراء ظهرها ومن دون استشارتها، موجهة ضربة في الصميم، ليس فقط للشعب الفلسطيني ولقضيته ولنضاله، بل لأهم ما ميز تجربة الانتفاضة الأولى من صفات، ألا وهي الديمقراطية الشعبية. فقد شارك في قرار توجيه المقاومة الشعبية من إضرابات ومظاهرات ومواجهات واعتصامات ومواقف سياسية، جميع الفصائل الفلسطينية والأطر المهنية المختلفة، مثل النقابات وغيرها. وقد تجلى ذلك في انتشار اللجان الشعبية ذات المهام المختلفة في جميع المدن والأحياء والقرى والمخيمات، التي شكلت حلقة الوصل بين الناس والقيادة الوطنية الموحدة المركزية.
لم تنجح الانتفاضة الثانية رغم البطولة المذهلة التي أبداها الشعب الفلسطيني في التصدي للقمع الوحشي الصهيوني، ورغم الخسائر البشرية والاقتصادية الكبيرة التي أوقعتها هذه الانتفاضة في صفوف المستعمر؛ ويعود ذلك لسوء إدارتها وتشتت مراكز قيادتها في مواجهة عدو مدجج بالسلاح وله التفوق العسكري المطلق. ولم تؤد الوحشية الصهيونية إلى وقف التطبيع، لا في مصر ولا في الأردن، ولا السلطة الفلسطينية، بل بالعكس، فبعد استشهاد ياسر عرفات تعمقت عملية التطبيع مع المستعمر الصهيوني من خلال التنسيق الأمني وتدريب قوات أمن فلسطينية على يد الجنرال الأميركي دايتون، لتكون حامية للمستعمرين. وفي سياق هذه العلاقة مع الاستعمار، ترعرعت طبقة اقتصادية وسياسية تعيد إنتاج الهزيمة، وتنتج مؤسساتها ومصالحها الطبقية، ومفرداتها وقيمها بديلا عن التضحية والعطاء وقيم التحرر الوطني ومواجهة الاستعمار، وأدارت ظهرها للنضال والمواجهة حتى وفق النموذج الشعبي المدني، فأضعفت الشعب وسمحت للمشروع الصهيوني بالتمدد الاستيطاني والتمدد في العالم العربي.
وفي السياق العالمي، خسرت القضية الفلسطينية أنصارها لصالح عدوها. لم تعد القضية الفلسطينية ذات فائدة أو جاذبية، لهؤلاء الأنصار والأصدقاء، الذين تبدلت عندهم القيادات لتحل محلها نخب معولمة، ليس لحقوق الشعوب وحقوق الإنسان أولوية في سلم اهتماماتها كما كان في السابق. حتى الكثير من أصدقاء الشعب الفلسطيني في المجتمع المدني، ناهيك عن القوى العربية المناهضة للاستعمار، فقدوا الثقة بالقيادة الفلسطينية وابتعدوا عن القضية. فقط في الآونة الأخيرة، وتحديدًا على خلفية التوحش الإسرائيلي والرفض لأي تسوية مع السلطة الفلسطينية المدعومة سياسيًا وماليًا من الغرب، كشفت إسرائيل عن وجهها الحقيقي لتنال الغضب والإدانة من المجتمع المدني العالمي. وكان للجنة الوطنية للمقاطعة التي أطلقتها منظمات المجتمع المدني من رام الله، الدور المركزي في استعادة حركة التضامن العالمي على مستوى المجتمع المدني مع القضية الفلسطينية.
لم تكن السلطة الفلسطينية، حتى لو أرادت، أن تنجح في هذه المهمة، أي حملة المقاطعة، وذلك بسبب فقدانها للصدقية، أكان ذلك بسبب تطبيعها مع المستعمر الذي تواصل على مدار ربع قرن، أو بسبب سلوكها الداخلي وعجزها عن توفير نموذج حكم يتسم بالشفافية والمحاسبة والنزاهة. ولا تختلف سلطة حركة حماس عن سلطة رام الله، وتحديدًا بما يتعلق بالوضع الداخلي، وفشلها في تقديم نموذج مختلف، رغم مواجهاتها المتكررة مع العدوان الإسرائيلي.
بناء على ما تقدم، ليس هناك أي ضمان لأن يؤتي الإجماع الفلسطيني الشامل ضد الحلف الصهيوني - الإماراتي وضد "صفقة القرن" ومجمل المشروع الاستعماري، أُكله إلا عبر إحداث تغيير جذري في النظرة إلى الذات وفي استعادة الخطاب الأخلاقي الذي يتسق مع حركة تحرر وطني ومع القيم الإنسانية الكونية، والتي اعتبرت نفسها في السابق جزءًا من حركة التحرر الوطني العربية، وجزء من قوى التحرر العالمية التي تناضل ضد الاستعمار والنظام النيوليبرالي المتوحش. ومن أعمدة هذا الخطاب وحدة وطنية شاملة تستند إلى العدالة تجاه الداخل وتجاه الخارج، وإلى إستراتيجية نضال طويلة الأمد تقوم على المرحلية والبناء. وبحسب رأي كثيرين، ونظرًا لظروف التشتت الداخلي وتحلل شرائح واسعة من المجتمع من مسؤولياتها، ونظرًا لتغول المستعمر، يكفي في المرحلة الأولى توجيه الجهد إلى البناء الداخلي، الذي يستوجب إبعاد الفاسدين والفاشلين، وبالتوازي العمل على استعادة الخطاب الثقافي الذي يؤسس لترميم الرواية التاريخية والتحررية التي طالها التخريب تحت عجلات أوسلو وخطابها المشوه وغير الوطني وغير الوحدوي.
ومن المفترض أن تضطلع القوى والأفراد الذين يتحركون خارج البنى السياسية التقليدية، بدور مركزي في عملية التعبئة والحشد في مواجهة المشروع الصهيوني – الأميركي - العربي الرجعي الاستبدادي، وسيكون من الخطأ الفاحش التعويل على من قاد الفشل الكارثي، أو التوقع منه أنه وحده قادر ومؤهل للاضطلاع بالمهمة التاريخية الكبرى الراهنة.
اقرأ/ي أيضًا | تقرير: رئيس الموساد التقى السوداني حمديتي في الإمارات
التعليقات