لم يكن الراحل صائب عريقات رحمة الله عليه، مخترع مدرسة أوسلو ونهج المفاوضات، غير أنه مثّل الواجهة الإعلامية الأبرز لهذه المدرسة، وجسّد عنادًا شرسًا لهذا الدرب، ولا أستبعد أنه كان يفعل ذلك عن قناعة داخلية بأنه يخدم القضية الفلسطينية.
جميعنا عرف هذه الحقيقة ولكننا لا نعفيه من المسؤولية. فهو مثقف كان ينتظر منه أن يكون مستعدًا للمراجعة الذاتية، والاعتزال عن تأدية هذا الدور الذي ثبت بالملموس ضرره الكبير على مسيرة التحرر الفلسطينية، ليس في المرحلة الأخيرة فحسب، بل قبل ذلك بكثير. لكنه لم يفعل. ومن الواضح أنه تكيف مع بنية أوسلو السياسية، أو النظام الفلسطيني الرسمي المتولد عنها، أسوة بجزء كبير من النخب، وتحول كغيره إلى جزءٍ منها، وبات من الصعب الفكاك منها.
المرة الوحيدة التي تواجهتُ معه مباشرة كانت عام 2011، في يوم دراسي نظمه مركز مسارات للأبحاث في رام الله، حول واقع ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني. هو تحدث عن المفاوضات، وأنا تحدثت عن دور فلسطينيي الداخل في المشروع الوطني الفلسطيني. قدمتُ مداخلتي، التي كانت تلخيصًا لورقة مطولة، قبل مداخلته، وشملت مراجعة نقدية شديدة لكيفية تعامل اتفاق أوسلو مع هذا الجزء من شعبنا في الداخل، ومواصلة السلطة الفلسطينية ممارسة هذا التعامل السلبي الإقصائي، وإن بأشكال مختلفة.
وملخص الكلام أن أوسلو لم يُقصِ الفلسطينيين في الداخل من الحل فحسب، بل من القضية الفلسطينية ككل وهو الأخطر، من خلال الاعتراف بإسرائيل دولة طبيعية، دون حتى الاشتراط عليها بتخفيف سياسات القمع والهدم والمصادرة، على الأقل، لحفظ الرابطة الوطنية بين جميع تجمعات الشعب الفلسطيني.
توقعت أن يكون ردّه حادًا وهجوميًا، إذ لم أكن أعرف ميزاته الشخصية، فجاء دفاعيًا وبأسلوب لطيف ومتواضع، محاولاً إظهار إخلاصه في خدمة القضية من خلال المفاوضات، وكان بين الحين والآخر، أثناء تقديم مداخلته، يمرر وثائق إليّ من خلف مدير الجلسة الذي كان يتوسطنا، في محاولة لإثبات صحة ما يقوله، أو ليقنعني بمدى خدمته للقضية في المفاوضات، وكان يكثر من الإشادة بدور ونضال وصمود "إخوتنا في الداخل".
وفي سياق محاججتي وعدم اقتناعي بمنطق المفاوضات وبأوسلو كله، قاطعته سائلًا: دكتور صائب، نحن نعرف أن القيادة الفلسطينية التزمت بعدم شمل المستقبل السياسي لفلسطينيي الداخل في الحل، بسبب عجز وليس رغبة، وهو خطيئة، لكن هل حدث ولو مرة واحدة أنك خلال أي جولة من المفاوضات، أثرتَ قضية عينية تخصُّ حياتهم مباشرة، مثل هدم بيوت ومصادرة أرض، وهذا ليس من المفروض أن يشكل "استفزازًا" للوفد الإسرائيلي، إذ إن إسرائيل تقيم الدنيا ولا تقعدها عندما يتعرض يهودي، مواطن في أي دولة في العالم لأذى، لتـأكيد ارتباطها المفتعل بيهود العالم، وهم ليسوا مواطنيها؟ ألا يؤكد ذلك، عمليًا أن القيادة الفلسطينية في قرارة نفسها تعتبر هذا الجزء من شعبنا عبئًا عليها في المفاوضات، وليس "كنزًا إستراتيجيًا" في النضال الفلسطيني، كأن أيَّ ذكر لهم سيخيف إسرائيل ويبعدكم عن نيل دولة في الضفة والقطاع من خلال المفاوضات غير المدعومة بمقاومة، وهو الذي ثبت أنه وهم كبير!
وبدل أن يجيب على السؤال الذي فاجأه، راح يكرر المديح والإشادة بصمود فلسطينيي 48 في وطنهم، متمترسًا في الموقف الرسمي للسلطة الفلسطينية، التي تنظر إلى دورهم محصورًا في وهم التأثير من الداخل، وهو النهج الذي صب في طاحونة الأوهام التي حملتها أحزاب في الداخل، وتحولت إلى نهج سياسي خطير يهدد الإنجازات المعنوية والثقافية الوطنية التي حققتها الحركة الوطنية داخل الأرض المحتلة عام 1948، على مدار عقود من الاشتباك مع نظام الأبرتهايد الكولونيالي.
وقبل إغلاق هذا الباب المتعلق بشخصية صائب عريقات، أجد لزامًا علي أن أذكر أنه بعد انتهاء الجلسة، و تحركي نحو الباب للخروج، فاجأني بالسؤال/ الطلب، "بغدر أسلم عليك؟"، فأجبته محرجًا طبعًا. أقول ذلك لأني لم أتعود أن ألاقي هذا السلوك الدمث من الكثير من ممثلي سلطة رام الله، في حالة حصول نقاش حاد ونقد لاذع.
على كل، وكما ذكرنا في السابق، ليست المعضلة متعلقة بدماثة أو فظاظة هذا الشخص أو ذاك، وإن كنا بالفعل نحتاج إلى لغة حوار حقيقي خاصة في هذه الظروف العصيبة؛ كما ليست متوقفة على موظف أو مسؤول بعينه، إنما في نظام سياسي كامل خضع لقانون الجدل، وشكل أصحاب القضية من أصحاب هذا النهج، والاستعمار الإسرائيلي، وعلاقة القوة السائدة، مكوناته الفاعلة المدمرة. وهذا لا يعني عدم مساءلة الأشخاص أينما كان موقعهم من المسؤولية، حتى نحن الذين نعتبر معارضين لهذا النهج.
ما يستدعي الحديث في هذه المناسبة الأليمة، هو ما صدر من إشارات من أقطاب السلطة الفلسطينية حول العودة إلى المفاوضات بعد فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركية، والتي تشي أن لا نية حقيقية للتعلم من التجربة الكارثية لنهج مضاد لطبيعة حركة تحرر وطني. فالمفاوض رحل، والمدرسة باقية.
اقرأ/ي أيضًا | مراسم تشييع متواضعة لعريقات بظل قيود كورونا
هناك ألف سبب لفرح العالم بسقوط الأزعر في البيت الأبيض، دونالد ترامب، ولكن فوز بايدن سيطرح تحديات جديدة أمام القيادة الفلسطينية كلها، وكل القوى الشعبية الناقدة، والتي تحتم المضي قدمًا في الفكاك من نهج أوسلو والقطع نهائيًا معه، واجتراح وحدة وطنية فلسطينية حقيقية، وإعادة بناء رؤية تحررية شاملة، وعدم العودة إلى الأوهام القاتلة.
التعليقات