يوغل الواقع الفلسطيني في هوّة جديدة ومتاهة عميقة تسكب المزيد من الزيت على نار الخيبات المتلاحقة. ليست تلك الهوّة أو الفصل الجديد من الأزمة ممثلين فقط في إعلان فريق أوسلو "الانتصار" بعودة التنسيق الأمني مع القاهر، وزرع خنجر آخر في ما بدا - أو في ما حاول - هذا الفريق تمريره، وكأنّ هناك توبة حقيقية، فانكشفت عن مسرحية ركيكة أخرى.
وتكمن الأزمة أيضًا في من اشترى هذا الوهم، وراح يبنى قصورًا في الرمال، هاربا من عجزه المزمن هو الآخر. وهذا الآخر هو تلك الفصائل التي تقادم الزمن على غالبيتها، وجف عقلها وانكمشت كوادرها واندثرت قواعدها وسقطت سقوطا مروعًا في اختبار الثورات العربية، وانتهت إلى التورّط في المحاور ومستنقع الاستقطاب، الذي يعنى تعميق الأخدود الذي حفرته الأنظمة بينها وبين شعوبها ومع فلسطين.
وفي ضوء هذه الحالة، التي يعاد إنتاجها كل مرة بطريقة بلهاء وانتفاعية، يحضر التفكير بتفعيل الزمن بطريقة منتجة، باعتبار أنّ قضية تحرير فلسطين من نظام الفصل العنصري الكولونيالي تحتاج إلى إعادة تأطيرها وتعريفها باعتبارها قضية تحررية توجب استدعاء كل عناصر قوة الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، وكذلك على الساحة العربية والعالمية، في مسار تراكمي تاريخي طويل.
وهنا يأتي دور القوى البديلة، التي اصطلح على تسميتها بالفضاء الثالث، وهو الذي تتحرك فيه أطر ومنظّمات وأفراد وحِراكات ومبادرات عديدة ضد الوضع القائم، تتفاوت في جذريّتها وشمولية رؤيتها للتغيير بين واحدةٍ وأخرى. غير أنّ معضلة هذه الأطر والمبادرات هي أنّ بعضها يكثر من التحليل ويبخل في (أو يعجز عن) العمل. و البعض الآخر يمتنع عن طرح رؤية نهائية للمسيرة التحررية، وفي الوقت ذاته ينشغل في مبادراته الخاصة دون رؤية الحاجة الملحّة لبناء الكتلة التاريخية المطلوبة لتجاوز بنية النظام الأوسلوي المتهافت والفاسد، ومواجهة المستعمر.
بعد انتصار سلطة حسين الشيخ، والعودة إلى حماية المستعمر، علنًا، كمدخل تهافتي للتعامل مع الإدارة الأميركيّة الجديدة القديمة، تزداد الصعوبات والمعيقات أمام قوى التغيير الفلسطينية التي تتحرك في الفضاء الثالث. إذ تجد نفسها أمام طبقة متمسّكة بامتيازاتها حتى الموت وتتصرّف بصورة متهورة ونزقة وصبيانية حتى في عودتها المهينة والمشينة، وبدون مشاورة القوى الأخرى التي تعاملت معها بصورة استخدامية ورخيصة حتّى. إنّ هذه الطبقة تمثل نموذج حكم الأوليغاركية، حكم أقلية صغيرة، ولكنّها في هذه الحالة لا تستمدّ شرعيتها من العمل الثوري، بل من المستعمر، حرفيا، إذ أنّه قادر على إنهاء سلطتها وامتيازاتها في أيّة لحظة.
ولذلك، على هذه القوى أن تجيب عن سؤال الفاعلية، وعن أسئلة كيف تصبح لاعبًا رئيسيًا؟ كيف تنجح في بناء إستراتيجيّة عمل مرحلية، وبعيدة المدى؟ كيف يشعر بها الناس؟ كيف تستطيع إقناعهم بأنها تمثل المصل المضاد لنهج وثقافة الهزيمة التي تقودها مدرسة أوسلو، وللمدرسة العدمية الفارغة على حد سواء، التي لم تخرج منها القوى القديمة؟
ليس من خيار غير المباشرة بتوحيد هذه الأطر، أو جزء كبير منها، تحت مظلّة وطنيّة واحدة، ورؤية تحررية موحّدة بالمفهوم الشامل ووسائل نضال متفق عليها، مع الحفاظ على التنوع. ولا بدّ أن ينطلق هذا الحراك من قراءة الوقائع المحلية والإسرائيلية والعربية والإقليمية والدولية قراءةً دقيقةً والتعلم من أخطاء وكوارث الماضي، ووضع تصوّر لخطة عمل على كل الساحات، وأهمّها الساحة الداخلية، أيّ بناء الذات.
وفي مواجهة علاقات القوة القائمة المائلة لصالح المستعمر، تكون البداية في توفير شرطين:
الأوّل: استعادة الوعي، أي العودة إلى نموذج النضال التحرري الذي تخلّت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عنه لصالح الحل المرحلي الذي انتهى إلى أقفاص أو لصالح نموذج حل الصراع. وهذا يعني خوض حملات تثقيفية واسعة حول هذه الرؤية.
الثاني: تحقيق أوسع اصطفاف للقوى الفاعلة خارج السلطتين وخارج كل البنية الفصائلية العاجزة، والتحرك بمنهجية نحو بناء الكتلة التاريخية.
لم يعد الظرف يحتمل أيّ تأجيل وكل تأخير مكلفٌ جدًا، وتتحمل مسؤوليّته هذه القوى. إن استمرارها في النشاط منفردةً، رغم أهمية ما تقوم به، يؤخر عملية التراكم ويساهم في تسارع وتيرة التخريب الوطني والأخلاقي الذي تمارسه الطبقة السياسية الرسمية. وهذا ردًّا على السؤال المتكرر: من يعلق الجرس. وأيضًا هو اختبار لكل من يسعى بالفعل إلى المساهمة في عملية الإنقاذ الوطني.
التعليقات