مع انقضاء عقدٍ على الزلزال الشعبي العظيم الذي هزّ السكون في العالم العربي وخلخل النظام الرسمي - وليد اتفاقيّة "سايكس بيكو" الاستعمارية التقسيميّة، ومع وصول قضية فلسطين إلى مفترق طرق غير مسبوق في خطورته، يتوجب علينا كفلسطينيين أن نشترك في مراجعة مفاعيل هذا الزلزال، ليس كفلسطينيين فحسب بل كجزء من الشعوب العربية وقواها القومية الديمقراطية ذات النزعة التحررية الإنسانية. ما معناه، أنّ علينا أن نمارس النقد إزاء قصورنا في مواقفنا النظرية والمبدئية وممارستنا تجاه هذه الثورات والقصور في تأطير علاقة حرية الإنسان العربي مع حرية الفلسطيني.
مع انطلاق المارد الشعبي في أواخر عام 2010، انقسم الفلسطينيون بخصوص الثورات العربية. على المستوى الرسمي، اتّخذت القيادة في رام الله موقفا حياديًا، أمّا على المستوى الفصائلى، فمُنِحَ التأييد لثورات تونس ومصر واليمن والبحرين، وحجبت عن ثورتيّ سورية والعراق، بادّعاء أن هذه الثورات هي بمثابة مؤامرة ضد دول وقوى الممانعة. وبعد تحوّل الثورات إلى حروب أهلية وخارجية بالوكالة، التحقت هذه الفصائل أو غالبيتها، ومعها أوساط من النخب، بالتحليل البائس القائل إنّ هذه الثورات، من أوّلها إلى آخرها، هي من تخطيط الخارج لنشر الفوضى في منطقة الشرق الأوسط. وفي هذا التحليل، الذي خلق ثنائية إلغائية وتكفيرية، لا دور للشعوب، لا دور للإنسان العربي المقهور والثائر، وعمليا لا شرعية لغضبه وأحلامه.
ومع انتصار الثورات المضادة وتفكّك دول عربية، وهو انتصار مؤقت، زاد عناد أصحاب هذا التحليل الذي التقى عمليًا وصب في خدمة جميع أنظمة الاستبداد، الجمهورية القومية (الوراثيّة) والملكية والأميريّة، وتقف على رأس هذا التوجه أنظمة الإمارات والبحرين والسعودية ومصر. وصبّ ضمنًا في خدمة نظام أوسلو الفاسد، الذي قبل دور الوكيل الاستعماري.
لا خلاف على أن الخارج، سواء ذلك الجزء الذي تظاهر بدعم الثورات أو ذلك الجزء الذي ساند الأنظمة ضد شعوبها كان عاملًا مركزيًا في تدمير الثورات وحرفها عن مسارها، من خلال إخضاع أجنحة في المعارضات لأجنداته. غير أنّ الطرف الذي يتحمل المسؤوليّة الأولى عن انفجار غضب جموع الشباب والطلبة والعمال وأوساط الطبقة الوسطى المفقرة، هو الأنظمة التي حولت الأوطان إلى مزارع خاصة تحت قيادة أنظمة مافيوية، فاسدة، وفاجرة، كانت تحتقر وتسحق كل من يطالب بالحرية والعدالة والمواطنة الكريمة أو من ينتقد التبعية، والعجز عن تحرير الأرض العربية وفي مقدمتها فلسطين.
أمّا صوت النخب الفلسطينيّة، التي تماهت مع الثورات العربية وأحلام شبابها، والتي لم تميّز بين حرية الإنسان الفلسطيني وحرية الإنسان العربي، ظلّ صوتًا غير مسموع بشكل واسع وقوي. ومع اشتداد الاستقطاب وتعثّر الثورات العربية والأثمان الفادحة التي دفعها الثوار، ونظرًا للحمولة العاطفية التي تبثّها شعارات الصراع ضد إسرائيل، مضى الفلسطينيّون (والنخب تحديدًا) في عزل أنفسهم عن التفاعل المبدئي والنظري، المنهجي، الواسع والعميق، عن حدث مهول كان كل فلسطيني في السابق ينتظره من جماهير الوطن العربي للتخلص من أنظمة الاستبداد المتحالفة مع الخارج أو تلك التي ترفع شعارات مقاومة إسرائيل دون أن تنجح في ذلك ودون أن تبني دولا حقيقة، قويّة وقادرة وعادلة. لم تشهد الساحة الفلسطينية على مدار العقد الماضي إلّا القليل من النشاطات الفكرية والنظرية والسياسية، ذات التوجّه التحرّري الذي حملته حركة الشعوب العربية الثائرة وبالتالي ظل الإنسان الفلسطيني، بعيدًا عن التفاعل اليومي، بما يتجاوز العاطفي والسجال العقيم، إلي جزءٍ من الحديث المعمق في الحياة اليومية.
ويعود ذلك إلى قصور النخب الفلسطينية المساندة لثورات الشعوب في تأدية هذا الدور التثقيفي والتحليلي والتعبوي، وفي كشف العلاقة العضوية بين حرية فلسطين وحرية الوطن العربي والإنسان أولًا. سمحت هذه النخب أو قسم كبير منها، بسبب التقصير، بسيادة النظرة الجيوسياسية عن الثورات، إذ قصّرت في تقديم مواد تحليلية منهجية ومستمرة في كتابتها وخطاباتها ومؤتمراتها عن حركة الشعوب، وحتمية انفجار غضبها في ظروف القهر والحرمان والفساد والموت، وأن لا تفضيل لحرية الفلسطيني على حرية الإنسان العربي في تونس أو مصر أو السعودية أو سورية... وأنّه لا يجوز استخدام قضية فلسطين وتحرّر الفلسطيني، سوطًا يلهب فيه النظام العربي الرسمي ظهر المواطن.
والآن، وبعد أن تم تقنين الاستعمار الاستيطاني في كل فلسطين وبعد أن باتت الشعوب العربية، من المخيط إلى الخليج، قابعة تحت نظام كولونيالي، تكتوي - أسوة بالشعب الفلسطيني - بنار أنظمة متوحشة تمارس نفس أساليب النظام الاستعماري، الذي خلَّفَها وراءه، يصبح لزاما علينا إجراء مراجعة وإعادة تقييم لموقفنا ومفهومنا للثورات العربية، وذلك من إعادة صياغة العلاقة التحررية المشتركة.
سيحيي الثوار العرب ذكرى مرور عقد على هذا الحدث العظيم الذي كان سيعيد العرب إلى التاريخ ولَعِبِ دورٍ فاعل في إنتاج الحضارة الإنسانية، لولا تضافر عوامل تدميرية داخلية وخارجية.
ولكن طالما أن نفس الأسباب التي فجّرت غضب جحافل الشباب العربي لا تزال قائمة، بل تفاقمت، فإن الموجات الثورية قادمة ومعها النهوض الفلسطيني. ولكن هذا النهوض ووصوله إلى هدفه لا يتم دون توفر العامل الذاتي، والذي يشترط توفّر الوعي والمعرفة والإرادة.
إنّ هذه المناسبة فرصة للدرس والدراسة والتعلم وإعادة شحن الإرادة إلى جانب إخوتنا العرب في طريق تحرري طويل. فالواجب يلزمنا ببذل جهد أكبر في جعل الرؤية التحررية الشاملة والرؤية السليمة للثورات العربية في متناول الإنسان الفلسطيني العادي، لإعادة ربطه بأمته العربية، ليس من باب توقع وقوفه إلى جانب النضال الفلسطيني فحسب، بل في الأساس في تبني الموقف من حرية الإنسان العربي، لأن تحرر الإنسان العربي هو الذي سيساهم بصورة جدية في تحقيق الإنسان الفلسطيني لتحرره وحريته.
التعليقات