احتفلت، في الأسبوع الأخير، مئات العائلات الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة عام 1948، بنجاح بناتها وأبنائها في امتحانات الطب، لينضمّوا إلى آلاف الأطباء الذين تخرجوا حتى الآن ويعملون في المشافي الإسرائيليّة.
وتفيد المعطيات أن الأطباء والطبيبات العرب يشكّلون 17٪ من مجمل الأطباء العاملين في هذه المستشفيات. وهذه الإنجازات تستحق الاحتفاء بها، لأنّها أوّلًا، ثمرة جهد العائلة الفلسطينية؛ وثانيًا، جهد الطالب والطالبة؛ وثالثًا، يعكس هذا الإنجاز تطوّر التحصيل العلمي في مجتمع خرج من حطام النكبة، ونجا من التطهير العرقي ومخططات المحو، الذي يميز المشاريع الاستعمارية الاستيطانية.
ومن يتابع تاريخ تطوّر حركة التعليم في هذا الجزء من شعب فلسطين، في سياق السياسات الاستعمارية، التي هدفت إلى جعلنا "حطّابين وسقاة ماء"، وفق وثيقة يسرائيل كينغ، ولتجريدنا من مقوّمات النهوض والتطور، سيدرك حجم هذا الإنجاز وأهميّته.
ويعود الفضل في هذا الإنجاز إلى اهتمام ورعاية الأسر الفلسطينية، التي عرفت أهمية التعليم، باكرًا ليس فقط كإنجاز فردي وكمصدر فخر للوالدين فحسب، بل للمجتمع بأسره الذي كانت أراضيه تسحب من تحت الأرجل بوتيرة متسارعة وخيالية.
نعم، كنّا نسمع من الوالدين أنّ التعليم ليس فقط وسيلة لتحقيق الذات، بل أيضًا وسيلة للصمود والبقاء وتنمية الوعي. نعم، إنّ قيمة الوعي - الوعي بأنّك جزء من شعب مستهدف - كانت حافزًا أخلاقيًا يحرّك والدينا في إرسال الأبناء إلى الجامعات وصرف كل ما يجنونه من كدّ العمل. الأبناء في المرحلة الأولى، ثم لاحقًا البنات، بعد التحولات الاجتماعية التي تتالت - خاصّة منذ السبعينيّات - والتحرّر من كثير من المفاهيم التقليدية المعيقة للنهضة. كان لسان الوالدين، والمجتمع ككل، يقول: يستطيعون، أي الصهاينة، نهب الأرض، ولكنهم لا يستطيعون سحب العلم والوعي من رؤوس أبنائنا وبناتنا، وإنّ الدفاع عما تبقى من أرض، والعمل على استعادة ما سرق منها، و تطوير وتحصين المجتمع، كمجتمع حر ومتحدٍ، لا يتمّون إلا بالمعرفة، باعتبارها شرطا أوّليًا للتحرر والصمود.
كانت هذه النقلة التعليمية الداخلية، التي ترافقت مع نهوض الحركة الوطنية الفلسطينية في المنفى، مهّدت لنشوء طبقة وسطى أو برجوازية وطنية، محدودة الحجم، أطلقت حراكًا سياسيا وطنيا وأيامًا نضالية وحفّزت نموّ حركات وأطر طلابية وشبابية وأدبية، تؤكد انتماءنا الوطني الفلسطيني في مواجهة سياسات التجهيل والعدمية القومية. واتّسع العمل الثقافي والأدبي والاجتماعي التقدمي وسرى تأثيره في المجتمع، مثل حرية الإبداع وتحدّي المبنى الاجتماعي البطريركي وخروج المرأة إلى العمل والتعليم، وتحدي الأحزاب الصهيونية وأعوانها الذين زجوا بالحمولة في التصويت لها.
في العقدين الأخيرين، نشهد اتّساعًا كبيرًا في حجم الطبقة الوسطى العربية، وانضمّت إليها آلاف الخرّيجين، ليس فقط من حقول الطب والهندسة والتدريس المدرسي والحقوق والبحث الأكاديمي، بل في حقلٍ حديث هام لم يكن متاحًا، وهو الـهايتك. وبرعت في هذا المجال أسماء لامعة، دون أن تأخذ حقّها من النشر والإعلام من قبل مجتمعنا.
غير أنّ كل هذا الازدياد الكبير في نسبة الخريجين والمهنيين، فضلًا عن تبلور فئة كبيرة نسبيًا من رجال الأعمال الناجحين، لا يترافق مع نهضة ثقافية واجتماعية حقيقية، إذ تظهر الطبقة الوسطى المتنامية عددًا وكأنها جماعة متميزة داخل المجتمع ومعزولة عن همومه. فكيف تعود العائلية بهذه القوّة إلى بلداتنا ويهبط النقاش العام إلى الحضيض وتتفشّى الشعبوية، والفردانية وأنماط سلوك استهلاكية غير عقلانية، لا تتماشى مع مجتمع مقهور استعماريًا؟ كيف تزداد انعزالية الأسرة عن الهمّ العام ويصبح التحصيل العلمي وسيلةً للاندماج في سوق العمل؟ وكيف وصلنا إلى هذا الوضع الذي يتلاشى فيه دور الأحزاب والحركات السياسية، التي كانت رافعة النهضة الوطنية الكبرى منذ السبعينيّات، حتى سنوات قليلة خلت؟ وكيف يحصل كل ذلك، رغم نمو شريحة نوعية من الأكاديميين والباحثين والمثقّفين النقديين، الذين أغنوا بأبحاثهم وكتاباتهم الخطاب السياسي الوطني والثقافي والتعليمي، وقدّموا تصوراتهم المستقبلية لمجتمعنا ولعلاقته مع الشعب الفلسطيني ككل؟
قدّم هؤلاء الأكاديميون والباحثون جوابًا وتشخيصًا علميًا للمشهد السياسي والاجتماعي الحالي الرديء. ويتلخّص التشخيص في الصورة التالية: على خلاف الطبقة الوسطى ذات الإنجازات المتواضعة آنذاك، في السبعينيّات، والتي أدّت دورا محوريا في تشكيل الهوية الوطنية، فإن الطبقة الوسطى الحالية اتّسعت وازدادت تخصّصاتها، واندمجت في المؤسسات والمستشفيات والشركات الإسرائيلية، وبات جزء منها يؤدي دور الوسيط للأسرلة، ويعيد إنتاجها.
وتطوّرت تجربة جزء واسع منها في سياق التفاعل مع الطبقة الوسطى، وعلى هامش الأكاديميا الإسرائيلية. ما معناه أنّ هذه الطبقة لم تنشأ بصورة مستقلة، وفي سياق تطور عملية إنتاج مادي وطني، أَجْهَزَ المشروع الكولونيالي على مقدماته باكرًا (مصادرة الأرض، وتدمير البنية الاجتماعية الاقتصادية التقليدية وغيرها).
ويغذّي هذا الانحسار أو الانحدار ضعف الجسم السياسي الفلسطيني داخل الخطّ الأخضر، واضمحلال الحركة الوطنية التي أعيد بناؤها بعد أوسلو وإطلاق مشرعها الوطني المتحدّي، وتكيّف القيادات مع حملات الضغط والتحريض والحصار الصهيونية، وتخفيض السقف السياسي وتجويفه وإفراغه من بعده الفكري الثقافي النهضوي.
على هذه الأرضيّة، تتّسع الفجوة بين الإنجازات التعليمية الهامة من جهة، والممارسة الثقافية الاجتماعية وتتراجع القيم الأخلاقية وقيم التضامن والتكافل والعطاء والتسامح، يرافقها سرعة نشوب الشجارات بين الجار والجار والأخ وأخيه، وتفشّي العنف الداخلي، من جهة أخرى. ويتفاقم العجز عن مواجهته، وعن امتلاك الخطاب الذي يحدّد النظام الصهيوني الاستعماري بكليّته، وليست الشرطة أو الحكومات الصهيونية فقط مسؤولة عما نعانيه.
مواجهة كل ذلك مهمّة معقّدة وليست سهلة ولا تتمّ بضربة واحدة. هي تحتاج إلى إستراتيجية متعدّدة الحقول، طويلة الأمد، يديرها جيل مقاتل سياسيًا وفكريًا وتنظيميًا وجماهيريًا، ربما هو آخذ في التبلور والنمو.
التعليقات