13/05/2024 - 13:04

"بؤرة صراع وكيان وظيفي على ضفاف المتوسّط"

متى تهدّدت المصالح الأمريكيّة، وبدأت تفقد عوائدها الاقتصاديّة في هذه المنطقة، وتفقد مكانتها وتستنزف قواعدها فمن المؤكّد أنّ هذا التحالف سيفقد مبرّرات وجوده، طالما أصبحت تكلفته عالية وثمينة ومرهقة...

أطفال فلسطينيّون قبل النكبة - أرشيف (غيتي)

تراكمت عدّة أسباب أسهمت في سقوط 78% من فلسطين عام 1948م، دعونا نعترف بأنّ بلادنا كانت قد وقعت بين براثن المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ قبل النكبة بعقود عدّة، لا يمكن أن نتعلّم من تلك الأخطاء إلّا حينما ندرسها جيّدًا، ونعترف بها، وليست الدولة العثمانيّة وبعض القوى العربيّة هي السبب كما يدّعي الكثيرون، ولا حتّى نتاج عجزنا، ولا نتاج تخاذل الزعامات السياسيّة الفلسطينيّة خلال الانتداب البريطانيّ، إنّها حتميّة التاريخ ومناخات انهيار حضارات وصعود أخرى.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

تشير كلّ المناخات الّتي عاشتها بلادنا منذ مطلع القرن الماضي إلى حالة التردّي الحضاريّ في عموم المشرق، سيّما المنطقة العربيّة، نتاج الثورة الصناعيّة الّتي شهدتها أوروبا، وأنّ ظهور بعض الكيانات الوظيفيّة كان بمثابة حتميّة تاريخيّة في ظلّ تفكّك إمبراطوريّات ذات النسق القديم على غرار النمسا والدولة العثمانيّة واليابان، وظهور إمبراطوريّات أخرى على غرار بريطانيا وفرنسا.

وجدت شعوب المنطقة العربيّة نفسها في مهبّ الرياح القويّة العاتية، وأضحت فريسة للحتميّة التاريخيّة الّتي تتحدّث عن تمدّد القويّ وتفكّك الضعيف، ولأنّ لكلّ قوّة عظمى أدوات ووسائل تعتمد عليها خلال فرض ديمومة نفوذها، سيّما في بلاد المشرق العربيّ، وكان لا بدّ من بناء مستعمرة غربيّة أو جسم غربيّ في هذه البقعة الجغرافيّة الغنيّة والمحوريّة في مواردها وموقعها.

ساعدهم على بناء ذلك المشروع الاستعماريّ أنّ جغرافيّة "يهودا" و"جبال أدوم" و"أرض يعقوب" تعجّ بها نصوص العهدين القديم والجديد، وهي جغرافيّة حاضرة في عقليّة المجموعات الدينيّة المتعصّبة في الغرب الأوروبّيّ، تلك الّتي لم تؤمن بأنّ رسالة السماء لم تتوقّف عند بني يعقوب أو حتّى آل عمران، لأنّها ميراث الأنبياء، ورسالة السماء.

إنّ فشل حملة نابليون بونابرت 1798-1801م، ومن قبله الحملات الفرنجيّة 1095-1292م أتاحت لهذا العقل الاستعمار الاقتصاديّ الإنجيليّ والتوراتيّ أن يبحث عن بدائل جديدة يمكن لها أن تنجح، ويمكن لها أن ترتبط سكّانيًّا بهذه الأرض عبر تزويدها بكلّ أشكال الرخاء والدعم المادّيّ والعسكريّ.

لقد نضجت الصهيونيّة في رحم الاستعمار الغربيّ، وتطوّرت في ظلّ بيئات الثورة الصناعيّة، وحملت في طيّاتها أمراض عصر القوميّات الّذي اجتاح القارّة الأوروبّيّة، فكان عليها أن تتحالف مع رأس المال ومع السياسة والاستعمار في سبيل بناء كيان يهوديّ، على غرار كلّ الكيانات الأوروبّيّة الّتي نضجت على ركّام الإمبراطوريّات الأوروبّيّة.

جاء التحالف الصهيونيّ البروتستانتيّ في ظلّ هذه السياقات، ويضاف إليها أنّ المذهب البروتستانتيّ هو وليد ذات البيئات الأوروبّيّة في عصر النهضة، وتعاليمه متصالحة مع الصهيونيّة، بل إن جوهر فلسفتها وفكرها هو ذاته.

ماذا عساه أن يفعل ذلك الفلّاح العربيّ البسيط الّذي يعمل في أرضه على سفوح الجليل الغربيّ، أو في المنطقة الممتدّة بين حيفا شمالًا ويافا جنوبًا، أو ذلك الراعي الّذي اعتاد أن يتسلّق سفوح جبال القدس وبيت لحم، ويلقي التحيّة على ساحلها الجميل، ماذا عساه أن يفعل ذلك الأفندي الكنعانيّ العتيق الّذي يملك حانوتًا وفندقًا في أزقّة يافا أو عكّا أو حيفا من أرض في ظلّ جشع ملّاك الأراضي الكبار ورموز عوائل الإقطاع، وفي ظلّ نظام الانتداب البريطانيّ في فلسطين، ماذا عساه أن يفعل بعد انتقال كمّيّات كبيرة من الأراضي الأميريّة العامّة، وأصبحت بين براثن الدوائر الرسميّة البريطانيّة بعد هزيمة الدولة العثمانيّة، سيّما أنّنا في صدد الحديث عن مساحات شاسعة في فلسطين المحتلّة عام 1948م هي أراضي دولة (أميريّة)، تنتقل من دولة إلى أخرى، سيّما في مناطق السهل الساحليّ وأجزاء من الجليل والنقب والأغوار، نتاج القوانين والتشريعات المملوكيّة والعثمانيّة، ونتاج أنماط الاقتصاد الّتي كانت سائدة خلال تلك العهود، ومناطق انتشار القبائل والعشائر، وطبيعة تأخّر بناء الحيّز العمرانيّ في مدن وتجمّعات الساحل، بسبب ما جرى من تدابير وسياسات احترازيّة بعد تحرير الساحل من الغزو الفرنجيّ.

أتاحت بريطانيا للحركة الصهيونيّة أن تتمكّن طوال ثلاثين عامًا، عبر مؤسّساتها المدنيّة والأمنيّة، من خلال البنوك ومؤسّسات الإقراض، والشركات الكبرى والوظائف الإداريّة المهمّة، وتسارع حركة الهجرة اليهوديّة بشكل كبير وضخم، وبدأت عمليّات شراء الأراضي من كبار الملّاك العرب، ممّن كانت أماكن سكناهم في لبنان أو حتّى في فلسطين، وبشكل مباشر وغير مباشر، وعبر السماسرة والوكلاء، وبمساعدة البوليس الإنجليزيّ.

إنّها ذات السياسة طويلة النفس الّتي أتقنتها الحركة الصهيونيّة، حيث امتدّت في زمانها قبل المؤتمر الصهيونيّ الأوّل 1897م، بل منذ عام 1870م، لكنّها كانت بؤر استيطانيّة ومحاولات لم تنجح في تأسيس كيان سياسيّ أو زخم استيطانيّ، لكنّها وجدت ضالّتها في الاستعمار الإنجليزيّ منذ بداية الحرب العالميّة الأولى 1914م، وانتقل هذا الطموح الصهيونيّ في وجهته وتحالفاته خلال الحرب العالميّة الثانية إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حينما لاحظ الصهاينة الدور الأمريكيّ الحاسم في هذه الحرب، وما رافقه من تصاعد القوّة الأمريكيّة، حتّى أصبحت على رأس الهرم العالميّ، فكانت بواكير هذا التحالف في مؤتمر فندق بالتيمور في مدينة نيويورك الأمريكيّة عام 1942م.

اعتمد هذه التحالف على أساس من المصالح المتبادلة، الّتي ضمنت للإمبراطوريّة الأمريكيّة شيئًا من النفوذ والتأثير في المنطقة العربيّة، وأورثها الصهاينة العديد من مراكز ومواقع بريطانيا في المنطقة، سيّما تلك الّتي تحقّق عوائد ماليّة، أو ارتباطات بملوك وعشائر ونخب، بشرط أن يحصل الكيان الصهيونيّ على حصّته ونصيبه من النفط والماليّ العائد للأمريكان نتاج النصائح والخدمات الأمنيّة الصهيونيّة الّتي حاز عليها الأمريكان في منطقة بعيدة عنهم جغرافيًّا، ولا يعلمون طبيعتها، إلّا أنّها غنيّة وخصبة ومركزيّة.

متى تهدّدت المصالح الأمريكيّة، وبدأت تفقد عوائدها الاقتصاديّة في هذه المنطقة، وتفقد مكانتها وتستنزف قواعدها فمن المؤكّد أنّ هذا التحالف سيفقد مبرّرات وجوده، طالما أصبحت تكلفته عالية وثمينة ومرهقة، لذلك سنشهد تغيّرات وانهيارات في هذا التحالف، هذا هو حال كلّ الإمبراطوريّات والدول والتحالفات الكبرى، وهذا هو مصير الكيانات الوظيفيّة في مناطق عدّة من العالم، يصعب عليها أن تستمرّ طويلًا في هذا الرخاء وهذه اليد الطولة، وهذا النفير والمدد.

التعليقات