لا تفصل احدى المرجعيات السياسية بين الأزمة الحكومية الراهنة وبين مسيرة الاستقلال، بحيث يعيد المصدر المذكور التجاذبات على الساحة المحلية الى العام 1920 يوم قام الجنرال غورو باعلان حدود «دولة لبنان الكبير» بشحطة قلم، مما خلق عقدة تتعلق بالاقضية الاربعة التي سلخت عن سوريا لا تزال تردداتها تطغى على الرقعة السياسية منذ فجر الاستقلال الاول على الرغم من الاعتراف الشهير للرئيس السوري الراحل حافظ الاسد باستقلال لبنان، وحتى اليوم، بحيث تعيش الساحة المحلية احدى أخطر ازماتها مع انطلاقة الاستقلال الثاني اذا جاز التعبير بين اكثرية برلمانية تتمثل بفريق 14 شباط واكثرية واقعية تتجسد «بالتيار الوطني الحر» و«حزب الله» وحلفائهما.
ولكن الفارق بين الاستقلال الاول والثاني هو الانقلاب النوعي في الموازين بحيث تحول المطالبون السابقون بالانضمام الى دولة سوريا وهم السنة في العشرينات الى ابرز المنادين بسيادة لبنان وحريته واستقلاله مرفقين ذلك بعدائية حادة لسوريا، على خلفية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وقد بات بند المحكمة الدولية أحد اهم البنود الخلافية بين فريقي 14 شباط و8 آذار، والسبب الرئيسي المعلن للانقسام الوطني الحاد في البلد الصغير من ادناه الى اقصاه، بالاضافة الى قضية الرئاسة الاولى ومسألة الانتخابات النيابية المبكرة وقانونها المنتظر.
وفي الوقت الذي برزت فيه مساعي المبعوث السوداني مصطفى عثمان اسماعيل على صعيد الوساطة بين الفريقين وكأنها من باب رفع العتب، لأن المسألة فالج لا يعالج الا اقليمياً مع ما يعنيه ذلك من تداخل العامل الاقليمي مع الرياح الدولية، فإن المبادرة التي يقوم بها الامين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى وفق المرجعية السياسية نفسها لن تكون من حيث النتائج افضل بكثير من مبادرة اسماعيل، وسط انغلاق مختلف نوافد وابواب الحوار بين المعتصمين في الشارع، وبين المتحصنين في السراي الكبير وسط التصعيد البارز لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة وتصويبه القصف باتجاه قصر «عين التينة» متهماً رئيس مجلس النواب نبيه بري بخطف البرلمان وتعطيله.
وربما هذا القصف الذي فاجأ بري يندرج في خانة اعلان السنيورة وفريق 14 شباط الحرب الشاملة على فريق 8 آذار وتكريس بري من حيث موقعه انه فريق، ولا يستطيع ان يلعب دور الوسيط او الدائرة الوسطى التي باستطاعتها ان تكون على مسافة واحدة من الجميع، مما يسقط نهائياً العودة الى طاولة الحوار على قاعدة ان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين وفق فريق 14 شباط بعد تجربة «الطاولة المستديرة» والحرب الاسرائيلية على لبنان وما احاط بها من اجواء اتهامية بين الفريق المذكور وقوى 8 آذار، ليبلغ الخطاب السياسي سقفاً تخوينياً يقطع شعرة معاوية بين اللاعبين الاساسيين على الرقعة.
ولعل من ابرز مؤشرات اعلان السنيورة الحرب الشاملة على خصومه محاولة رئيس الحكومة تصدير قضية المحكمة الدولية الى مجلس النواب واللعب على وتر الاكثرية النيابية، مما سيعمم «الفوضى البناءة» على كامل الرقعة السياسية وضرب اي موقع محسوب على الاعتدال وتغليب منطق «الغالب والمغلوب» على مقولة «لا غالب ولا مغلوب»، التي اعتمدت منذ الاستقلال اسلوباً يحكم التوازنات بين مختلف الافرقاء المحليين.
ويشير المصدر نفسه الى ان لجوء فريق 14 شباط الى اسلوب «الغالب والمغلوب» قد يشكل مقتلا للفريق المذكور، لا سيما وان المسار التاريخي لهذا المنطق يؤكد ان كمال جنبلاط ذهب ضحية قناعته بهذا الامر، والعمل على وضعه موضع التنفيذ ابان الحرب الاهلية اللبنانية، وسط الصراعات الاقليمية والدولية آنذاك، والتي بلغت ذروتها في المرحلة الراهنة اثر الاجتياح الاميركي للعراق، وربما هذه التحركات هي التي فرملت رئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب وليد جنبلاط الذي رفض منطق «نصف انقلاب» ولكنه لم يسع الى انقلاب كامل معتمداً على مراجعة تاريخية لمسار البلد منذ فجر استقلاله.
واذا كان لافتاً تشبث السنيورة بمواقفه الرافضة لقيام حكومة وحدة وطنية على الرغم من الاعتصام الحاشد على اعتاب السراي فإن المعلومات وفق المصدر نفسه تشير الى أن رئيس الحكومة تلقى من وزيرة الخارجية البريطانية مرغريت بيكيت تطمينات من الادارة الاميركية تقول: ان اقتحام السراي خط اميركي احمر، وان ادارة بوش ابلغت المعنيين اقليمياً انها لن تقف مكتوفة الايدي اذا حصل ذلك، وستقوم برد عسكري يطال مواقع سيادية في بعض الدول، وقد ابلغت قيادة المعتصمين بهذا الامر من قبل الجهات المعنية، وان تشدد السنيورة في رفضه للحلول يعود الى ما تم ابلاغه به عبر موفدين اجانب آخرين بعد زيارة بيكيت المذكورة.
"الديار"
التعليقات