بعد «سكرة» عميقة في احضان الأحلام الوردية التي فرشها الأميركيون للبنانيين منذ أكثر من عامين، بدأت «الفكرة» تطل برأسها. فالدعم اللامحدود الذي وعد به الرئيس جورج بوش وطاقمه لمسيرة استعادة لبنان حياته الطبيعية تراجع الى مستويات تثير القلق في الأوساط التي وعدت نفسها بهذا الدعم على مدى الفترة الممتدة ما بين صدور القرار 1559 وحتى اليوم. وعلى رغم التطمينات المتلاحقة من جانب ادارة بوش والعديد من المسؤولين الأميركيين بأن لا تغيير في درجة التمسك بالحلفاء اللبنانيين وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وبأن لا صفقة يمكن أن يعقدها الأميركيون مع سوريا او ايران او كلتيهما على حساب لبنان، فإن العديد من الأوساط السياسية والديبلوماسية وطرح أسئلة عما يمكن أن تؤول اليه أي عملية تفاوض بين واشنطن والمحور الشرق اوسطي المناوىء لها، وانعكاسات ذلك على الساحة اللبنانية.
ويقول سفير سابق في واشنطن إن مسألة دعم ادارة بوش للبنان ليست متعلقة بالتغيير الأميركي الداخلي الناتج عن انتخابات الكونغرس وتشكيل الغالبية الديموقراطية، بل هي مرهونة بمدى رغبة بوش الحقيقية وقدرته في تقديم الحلول المناسبة للمنطقة، وهو ما لم يظهر حتى في ذروة تمتعه بالقوة السياسية شبه المطلقة التي بها تم التجديد له لولاية ثانية في 3 تشرين الثاني 2004، عندما حصل على تفويض شعبي لم يسبق لأي رئيس أميركي ان ناله، إضافة الى إحرازه غالبية المجمع الإنتخابي آنذاك. فبدا فعلاً أقوى رجل في العالم. ومع ذلك كانت طلائع الإضطراب الأميركي في العراق تزداد يوماً بعد يوم، وترتفع حصيلة الخسائر الأميركية غير المتوقعة. فيما ادى غياب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات بعد فترة قصيرة من بداية عهد بوش الى ولادة معطيات غامضة في الملف الفلسطيني تظهر تداعياتها يوماً بعد يوم وتنذر بكوارث حقيقية. وأما في لبنان، فكان القرار 1559 فاتحة تطورات لا تقلّ خطورة عما يجري في العراق وفلسطين، بما تخللها من اغتيالات واهتزازات في البنية السياسية والطائفية اللبنانية وتشققات على مستوى السلطة لا تجد حلولاً لها.
الطريق الى الفوضى
ويقول السفير السابق: لقد كان بوش وراء قانون محاسبة سوريا واستعادة لبنان سيادته، وأعقب ذلك بتعاون مع فرنسا انتهى الى استصدار القرار 1559 الذي اخرج القوات السورية من لبنان. ثم بدأحملة على دمشق متهماً اياها بدعم «حزب الله» والقوى الفلسطينية المقاومة لاسرائيل، إضافة الى دعم المناهضين للوجود الأميركي العسكري في العراق. واوحى الرئيس الأميركي بأنه سيمضي في تنفيذ عملية ترتيب لمجمل هذه الملفات. لكنه في الواقع قام بما تفعله الإدارات الأميركية عادة في الشرق الأوسط: إيقاظ الملفات النائمة، وتركها مفتوحة من دون حلول. وهذه هي الطريق المثلى الى الفوضى.
وفي تقدير السفير السابق ان واشنطن في عهد جورج بوش خرجت من ضوابط استراتيجية لطالما اتبعتها على امتداد عهود الجمهورية والديموقراطيين خلال ثلاثة عقود، أي حتى في خلال الصراع الثنائي مع الإتحاد السوفياتي السابق. وهذه الضوابط كانت تقضي بعدم تجاهل معطيات وخصوصيات اقليمية دقيقة وتوازنات حسّاسة، وهي لذلك منحت دمشق دوراً في رعاية الوضع اللبناني على مدى زمني طويل. وهذه الضوابط كان سيحافظ عليها الأميركيون لو لم يقدّر للرئيس بوش الفوز بالرئاسة لولاية ثانية. ذلك أن منافسه الديموقراطي جون كيري معروف بالتزامه رعاية المساعي مع الفلسطينيين واقتناعه بالدور الإقليمي لسوريا، وهو كان يرفع شعار إحياء عملية التفاوض على المسارين السوري والفلسطيني. ومعلوم ان هذه العلمية وضعها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ارييل شارون في غيبوبة قبل دخوله هو في غيبوبته. وما زالت كل المحاولات لتحريك عملية السلام تصطدم بالمماطلة الإسرائيلية والأميركية، وآخرها ما تحاول الجامعة العربية تحقيقه من خرق في هذا المجال عبر طرح المبادرة العربية الصادرة عن قمة بيروت وتحويلها الى ورقة عمل في داخل مجلس الأمن.
«القرار المستقلّ» عنوان جذاب
فالرئيس بوش فتح على أنقاض ازمة نظام الرئيس صدام حسين ازمة تفوقها خطورة في العراق. وعلى أنقاض نظام الرئيس ياسر عرفات ازمة مفتوحة على المجهول في الاراضي الفلسطينية، وعلى انقاض المرحلة السابقة التي كانت واشنطن راعيتها في لبنان تنفتح ازمات لا تجد وسيطا قادرا على حلّها، وهنا تطرح اوساط سياسية: ماذا قدّم بوش لمساعدة لبنان فعلا، واين هي الثغرات؟ وتستطرد: لقد كان عنوان «القرار اللبناني المستقل» جذابا للجميع وما من شك في أن خروج القوات السورية من لبنان كان نتيجة للقرارات الدولية ولا سيما القرار 1559 الذي ضغطت الولايات المتحدة لاستصداره، ولكن كل الاستحقاقات التي عبرها لبنان منذ اكثر من عامين، ظهر فيها الراعي الاميركي غائبا عن الدعم الفعلي. وهنا تسرد الأوساط العديد من هذه الاستحقاقات وابرزها:
1- لقد ادت سياسة بوش الى إخراج القوات السورية من لبنان في اجواء من التحدّي والاستفزاز المتبادل انعكست سلبا على الملفات اللبنانية - السورية ولا سيما تلك المتعلقة بالنقاط التي عالجتها طاولة الحوار في لبنان اي التمثيل الديبلوماسي وتراسيم الحدود بدءا من مزارع شبعا وضبط نقاط العبور.
وكان واضحا منذ اللحظة الأولى لتجديد ولاية بوش ان الرئيس الاميركي لن يقوم بتوجيه اي ضربة الى سوريا او الى إيران... لكنه في الوقت عينه لم يفتح حوارا معهما حول سبل معالجة النقاط الاقليمية الحساسة. وهذا ما يدفع ثمنه اللبنانيون والفلسطينيون والعراقيون.
2- قامت اسرائيل بتنفيذ اعتداء كبير على لبنان في تموز الفائت، وكان الاميركيون خلاله يمارسون دورا داعما للمعتدين، ولم يسمحوا بوقف للنار سعيا الى تحقيق هزيمة بالمقاومة. وهذا يعني انهم تركوا لبنان بشعبه واقتصاده يدفع ثمنا لا يقدر على تحمله. كما ان واشنطن لا تمارس اي ضغط على اسرائيل لوقف استفزازاتها او للإنسحاب من مزارع شبعا على الاقل لإحراج لبنان ومقاومته التي تضع ملف تحرير شبعا في طليعة الأهداف التي تبرّر لها استخدام السلاح.
3- ليس واضحا تماما كم تملك الولايات المتحدة معلومات في ما يتعلق بالعمليات التي يشملها نطاق تحرك اللجنة الدولية للتحقيق، وهل هي فعلا بقدراتها المعلوماتية والتقنية والاستخبارية الهائلة عاجزة عن تقديم دلائل ذات وزن الى هذه اللجنة. فهل ان هناك عناصر معلوماتية منها باتت في ايدي اللجنة ولا تكشف عنها؟ أم ان شيئا ما يمنع تزويد اللجنة بما تحتاجه؟
وفي أي حال، تتساءل الاوساط: هل منطقي ان تترك الولايات المتحدة للبنان ان يمرّر بصعوبة فائقة - اذا استطاع - مشروع المحكمة الدولية في مؤسساته الدستورية المنقسمة في هذا المجال حتى حدود الإنفجار، فيما هي قادرة على الأرجح ممارسة الضغوط الدولية اللازمة لإنشاء المحكمة بقرار عن مجلس الأمن وفقا للفصل السابع، وإن لم يكن اللبنانيون ميالين الى خيار كهذا؟
4- على رغم المصاعب الاقتصادية الهائلة التي يرزح تحتها لبنان فإن الوعود بالدعم بقيت حبرا على ورق سواء بالمؤتمرات التي تحقق شيئا او تلك التي يمنّي اللبنانيون النفس بأنها ستنفذهم من الأزمة. كما ان اي دعم حقيقي للجيش اللبناني لم يتحقق في موازاة المليارات من الدولارات التي تتلقاها اسرائيل والدول الحليفة للولايات المتحدة في المنطقة سنويا. بل إن اي وعد اميركي بمساعدة لبنان يبدو حتى الآن اقرب الى الإبتزاز او التعجيز، لأنه رهن بالوضعية السياسية التي لا يساهم الاميركيون انفسهم فعلا في تحسينها.
فالصحيح هو ان الولايات المتحدة التي ترفع شعار إخراج لبنان من دائرة الوصويات الإقليمية لم تقدم له الحصانة الكافية لتمكينه على القيام بذلك. وهذا ما يدفع في اي لحظة الى إعادة خلط الاوراق الداخلية والإقليمية والدولية سواء في اتجاه اعادة الإعتبار الى دور سوري او في اتجاه ترك حالة الإهتراء السياسي العام تتفاقم. وهنا يصبح السؤال: هل هناك نيّة متعمدة في فتح الملفات الإقليمية جميعها دفعة واحدة وتركها من دون معالجة لتحقيق ما سمّي بـ «الفوضى الخلاقة» والتي يمكن ان تغرق المنطقة في بحر من النزاعات لا يتيح لها ان تتخلص منه لفترات طويلة من الزمن. فهل هذه هي الرغبة الاميركية في عهد «المحافظين الجدد».
في منتصف البئر
في أي حال، ثمة عامان باقيان من ولاية الرئيس الاميركي الحالي. وفيها تعايش مع الغالبية الجديدة. ويعتقد السفير السابق في واشنطن ان بوش بخلفيته السياسية - الفكرية عن الصراع في المنطقة سيتجاوز «عقدة» الغالبية المناوئة له ويستخدم كل ما يتيحه له الدستور للاستمرار في سياسته الحالية. بل استعجال محاولة تحقيق خطوات ملموسة منها قبل انتهاء ولايته ولا سيما في العراق. وعلى الارجح لن يكون لتقرير بيكر - هاملتون تأثير ذو شأن على النهج المتبع ازاء المنطقة. وهذا ما سوف يصطدم بقوة سياسة المحاور الاقليمية، وتحديدا قوة دمشق التي تدرك ان موقعها في المنطقة يشكل عنصر توازن يصعب استبداله، وهي لذلك تعمل على كسب الوقت وتقطيع المراحل الصعبة.
لكن متابعين وباحثين اخرين يعتقدون ان التحوّل الاميركي لا بدّ ان يحصل بدءا من الفترة المتبقية من ولاية بوش. وما طلائع الوفود الاميركية من داخل الإدارة ومن اعضاء في الكونغرس في اتجاه دمشق وطهران سوى ترجمة لذلك. ولم يكن اللبنانيون الذين يعدون انفسهم بأن الاميركيين لن يتركوهم «في منتصف البئر»، قادرين على الإطمئنان بما فيه الكفاية الى كلام النائب الديموقراطي الذي زار دمشق قبل ايام ثم بيروت من ان اميركا لن «تبيع» لبنان من اجل «تسهيلات» سورية في العراق، لأن كلاما من هذا النوع يعتبر معسولا وقد استمع اللبنانيون الى مثيل له في مراحل طويلة من ازماتهم، ومن جانب كل القوى العظمى، واكتشفوا ان الوعود تبقى وعودا ولا سيما اذا اتت من الجانب الاميركي، والأفضل لهم ان يدرسوا خياراتهم الخاصة بواقعية كاملة، ووفقا لخصائص المواقع والمعادلات الاقليمية. و لا سيما مع دمشق، درءا للمزيد من الكوارث، علما ان القراءة القائلة بأن واشنطن تتعمّد تعميم الفوضى والحروب الداخلية العربية لمصلحة اسرائيل لم يثبت حتى الآن انها قراءة خاطئة.... وتنتظر إثبات العكس.
"الديار"
التعليقات