17/04/2008 - 15:43

جاسوسية من دون أسرار../ جميل مطر*

جاسوسية من دون أسرار../ جميل مطر*

ألاحظ منذ فترة أن الدوريات المتخصصة في شؤون الجاسوسية وعمل أجهزة الاستخبارات تولي اهتماماً شديداً لقضية الأولوية التي تحظى بها المعلومات المنشورة، أي المتاحة للعامة، كمصدر أساسي من مصادر الجاسوسية والعمل الاستخباراتي وتدعو إلى تقليص الميزانيات المخصصة للعمل السري.

أثار هذا الاهتمام في نفسي شجوناً لسببين على الأقل، أولهما خبرة سابقة لي بالعمل الدبلوماسي جعلتني شديد الحساسية تجاه ما يوصف بالسرية. أما السبب الثاني، فيتعلق بي كمستهلك للمعلومات المنشورة، المطبوع منها أو المرئي أو المسموع، وحتى المنقول كإشاعات عن طريق الهواتف و”الألسنة” الجوالة. إذ لم أعد أتصور أنه من الممكن أمام هذا الكم الهائل من المعلومات المتدفقة أن يوجد سر تستطيع جهة أن تفرض عليه التعتيم لأي وقت طويل أو متوسط.

وبين السبب الأول والسبب الثاني مسافة طويلة من الزمن ومراحل التطور، إذ إنه بينما كانت الصعوبة في الحالة الأولى تكمن في ضعف القدرة على المحافظة على السر سراً وحمايته من فضول الفضوليين وتطفل المتطفلين وبخاصة الأعداء منهم، تكمن الصعوبة في الحالة الثانية في ضعف القدرة على استخلاص المفيد والضروري من وسط حجم هائل من المعلومات وتحليله وإعداده بالسرعة الواجبة لخدمة قرار أو سياسة معينة.

أذكر من ذلك الزمن البعيد أياماً حافلة بالشك. انشغلنا وقتها بالبحث عن سر. وإذا فشلنا لقلة الإمكانات وضعف التدريب انشغلنا بتحويل المعلومة المتاحة للملأ إلى سر، ثم توظيف كافة إمكاناتنا، وهي قليلة على كل حال، لحماية هذا السر.

كان الافتراض أن الأجانب قادرون دائماً على استدراجنا إلى الإدلاء بأسرار لن يحصلوا عليها إلا عن طريقنا. لم يقع الافتراض مثلاً بأننا ورؤساءنا لم نكن نملك معلومات ينطبق عليها تعبير الأسرار. وأظن أن البعض منا توصل مبكراً إلى أن البيروقراطية، سواء كانت مدنية أم أمنية، تحتاج لكي تستمر وتنمو وتهيمن، إلى إضفاء طابع السرية على كل ما يمكن أن يقع تحت يدها. خذ مثلاً التقارير الصحافية التي كان يعدها مسؤول الإعلام بالسفارة، ويلخص فيها ما تنشره الصحف المحلية. هذه التقارير كانت تختم بخاتم السرية، وتوضع مثلها مثل التقارير التي كان يعدها المستشار الثقافي والمستشار العمالي في مظاريف مغلقة ب “الشمع” الأحمر، وترسل جميعها في حقائب دبلوماسية تحميها من العبث بها قوانين دولية.

كانت السرية ضرورية لإضفاء درجة أكبر من الاحترام على عمل هذه الأجهزة والقائمين عليها، ولكن مثل أي إجراء يتجاوز الحد المعقول في التطبيق ينتهي بإفراز نتائج سلبية. فقد حدث بالفعل أن تسرب الشك في مبدأ السرية وضروراتها بعد أن صارت القاعدة أن كل الأوراق الرسمية سرية وليس القليل منها أو الأهم.

من ناحية أخرى، ظهر ما يشبه فئة متميزة داخل الطبقة البيروقراطية كلفت نفسها بمهمة حماية الأسرار وأطلقت على نفسها تعبيرات من نوع قسم الأمن أو إدارة الأمن وانتشرت تدعم فكرة السرية، وتضع أنظمة مستوردة من منظمات شبيهة في الدول الشيوعية مثل ألمانيا الشرقية، وفرضت سيطرتها على فروع الدولة وتدخلت في كل صغيرة وكبيرة بحجة الخوف من انكشاف الأسرار، وانتهى الأمر، كما صار معروفاً للجميع، إلى تكميم الإبداع عند موظف الدولة وانتشار اللامبالاة وخلق مبدأ تفضيل أهل الثقة على أهل العمل والخبرة، أي الاعتماد على حماة الأسرار.

وبعد سنوات من المبالغة في استخدام مفهوم السرية اكتشفنا أن نسبة المعلومات التي استحقت فعلا صفة السرية، واعتمدت عليها عمليات صنع القرار السياسي أو الأمني، لم تزد في أي وقت على عشرة في المائة من جملة المعلومات المتدفقة حول موضوع محدد أو قضية معينة. ويقول الآن بعض المتخصصين في شؤون الاستخبارات الأمريكية إن هذه النسبة انخفضت حتى صارت لا تتجاوز الثلاثة في المائة. في الماضي كان رجال المخابرات والدبلوماسية يواجهون مشقات كثيرة للحصول على معلومة سرية، إذ إنه عندما تخضع معظم المعلومات لقوانين السرية تزداد صعوبة فرز المهم منها، أو ما يستحق بالفعل صفة السرية في أجواء تتسم بالغموض والشكوك والتوتر. الآن أصبحت المشقة الكبرى أمام العاملين في الاستخبارات والأمن الداخلي والدبلوماسية هي الاطلاع على كم هائل من المعلومات العلنية ثم فرزها لاستخلاص أهمها من أجل تحليله ومقارنة بعضه ببعض. صار صعباً للغاية العثور على المعلومة المفيدة في عصر الوفرة المعلوماتية، الأمر الذي دفع أجهزة الاستخبارات إلى تخصيص برامج لتدريب العملاء والمحللين على التعامل مع فيض المعلومات، بعد أن كان التدريب في أزمنة سابقة مخصصاً للتعامل مع معلومات محظورة، أو معلومات تخضع لإجراءات حماية شديدة التعقيد.

أذكر أنه عندما بدئ في الاستعانة بجهاز الكمبيوتر استخدمته أجهزة المخابرات كمستودع لأسرارها، وأبدع الخبراء في صياغة أنظمة لحماية محتوياته من اطلاع الآخرين عليها. ومرت الأيام وجاء يوم أصبح فيه الكمبيوتر الجهاز الأشد خصومة مع الأسرار: أسرار الدول وأسرار الأفراد على حد سواء. وأصبح في الوقت نفسه المصدر الأساسي للمعلومات، يعرضها من دون مقابل، ومن دون رقابة، ومن دون تحيز. تغير الحال، أصبح التحدي الحقيقي هو تصفية المعلومات المنشورة والحصول على المفيد منها لإخفائه عن الفضوليين والمتطفلين والجمهور الواسع. وأظن أن هذا التحدي بدأ يأخذ شكل أسئلة الفلسفة، فالسؤال الحائر الآن هو هل يمكن حقاً إخفاء معلومة؟ وإذا كان الإخفاء ممكناً، فأين سيكون المخبأ؟ وإلى متى؟

ورغم الانكشاف المتزايد للمعلومات لا تزال البيروقراطيات حريصة على التمسك بحقها في فرض السرية على معلومات، ربما لا لشيء سوى المحافظة على المكانة والجاه والقوة. وكلها من تداعيات أجواء السرية. في أمريكا مثلاً التي أقامت أجهزة الاستخبارات فيها معاهد للتدريب على متابعة المعلومات المتاحة واستخلاص أهمها والتدقيق فيها للحكم على جودتها وصدقيتها، تبين للكونجرس مؤخراً أن ميزانية هذه المعاهد والمسؤولين عنها ولوائحها، جميعها تخضع لقوانين حماية أسرار الدولة. بمعنى آخر، رفضت البيروقراطية الأمنية التنازل عن أحد أرصدة قوتها، وهو حقها في فرض السرية على ما تشاء حتى لو كانت ميزانيات برامج تدريب.

وقد لاحظنا، وبخاصة في دول العالم النامي، أن التمسك بالسرية لا يقتصر فقط على حرمان المواطنين من ممارسة حق الاطلاع على المعلومات، ولكن يمتد إلى حق، أو واجب، المؤسسات البيروقراطية والأمنية الأخرى في الاطلاع عليها. هنا يتأكد الرأي بأن بعض الأجهزة تعتبر “السرية” مصدر قوة ورصيداً يحسب لها في علاقاتها مع غيرها من مؤسسات الدولة. ومع ذلك يبدو واضحاً، كما يقول شارلي ألين وكيل جهاز الاستخبارات في وزارة الأمن الداخلي الأمريكي التي أنشأها الرئيس بوش، أن المستقبل قاتم بالنسبة للحريصين على السرية، ومبشر بالنسبة لمن يجيد استخدام المعلومات. وهو مطمئن إلى أن ليس كل من حصل على كمبيوتر وشبكة إلكترونية يستطيع أن يكون رجل مخابرات أو جاسوساً ناجحاً، وأضيف من جانبي، أو كاتباً مرموقاً، إلا إذا توفرت له الكفاءة والخبرة في فرز المعلومات والقدرة على توضيحها وتحليلها، وهاتان لا تتوفران بسهولة.

السرية والانكشاف قضية كل فرد وليس فقط قضية دول وأجهزة، خاصة بعد أن أصبحت الشغل الشاغل لكل فرد يريد حماية “معلوماته” المخزونة في جهاز الكمبيوتر أو المنقولة عبره. يقضي كل منا وقتاً غير قصير لنقرر ما هي المعلومة التي تستحق صفة السرية. وحين نقرر لها هذه الصفة، نقضي وقتاً أطول لنقرر كيف نحمي سريتها ونحافظ عليها، وفي النهاية نقضي وقتاً أطول كثيراً في الندم لأننا ائتمنا من لا يؤتمن على سر يخصنا. فالسر، أي سر ومهما وضعنا له من إجراءات حماية، مرهون استمراره بإرادة من ينوي كشفه والاطلاع عليه، وليس بإرادة من أضفى عليه صفة السرية ووضع إجراءات حمايته.

ولن تكون قضية السرية والعلنية آخر أو أهم القضايا التي تنشغل بها أجهزة الاستخبارات في عصر الثورة المعلوماتية. يقول دافيد ايغناتيوس الكاتب في “واشنطن بوست” إنه سيكون في صدارة واجبات الرئيس القادم للولايات المتحدة واجب حل الأزمات التي تعاني منها وكالات الاستخبارات الأمريكية ابتداء من انهيار ثقة الرأي العام بها، وانتهاء بالفوضى التي أصابت تنظيمها الهرمي، وتداخل الاختصاصات بين الجنرال مايكل هايدن رئيس وكالة المخابرات المركزية ومايك ماكونيل مدير الاستخبارات القومية، مروراً بفضائح التعذيب ورفض الشركات الأمريكية العملاقة سياسة ضم عملاء المخابرات إلى السلك الوظيفي بها لحمايتهم والتغطية عليهم، وقبل كل هذا أو فوقه، فقدان الهدف القومي بسبب تدهور سمعة السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات الأخيرة.
"الخليج"

التعليقات