23/04/2008 - 09:44

"الأخ الأكبر" و "الأربعون النوويّة" والمتاهة الاستخباراتية../ حسين أبو حسين

تنشط أجهزة المخابرات في العالم بطرق مختلفة في جمع معلوماتها عن الأفراد والمؤسسات والأحزاب التي تعتبرها في مجمل اهتماماتها، وعادة تجعل ما تجمعه من المعلومات المنشورة مصدرا أساسيّا للعمل الاستخباراتي كالصحف والمجلات والكتب ومراكز المعلومات الرسمية، ومن المصادر السرية التي توظفها خدمة لأهدافها كالتنصت ومراقبة البريد والعملاء.

يكاد يكون لكل فردٍ في المجتمع ملفٌ سريٌّ تحفظ فيه مذكراته ونشاطاته وأفكاره المكتوبة بقلم غيره. هناك تجد التفاصيل الشخصية والسيرة الذاتية كما يراها "الأخ الأكبر" الذي يراقب حركة الفرد ويرصدها ويقيمها من المهد الى اللحد.

العلاقات الأسرية والنزعات الشخصية والنزاعات العائلية والانتماءات السياسية، والميول والمواهب والاهتمامات هي عنوانين الملفات الشخصية المحفوظة في أرشيف الأجهزة. كل التفاصيل تُرصد، علّها تكون مفيدة في المستقبل لإرباك الشخص المرصود، ومحاولة ابتزازه أو الإيقاع به.

السِّيَر الذاتية لآلاف الفلسطينيين، الذين عبروا في مراحل حياتهم المختلفة في محطة المخابرات، تفيد أن المحققين ذكروا لهم خلال تحقيقهم بشكل عرَضي معلومات شخصية من ماضيهم السحيق لإلهاب مشاعرهم، والإيقاع بهم، وإيهامهم بأن محققيهم يعرفون أدق التفاصيل، حتى وإن كانت هامشية وغير ذات صلة في التهم الموجهة ضدهم.

إن تقدم المعلوماتية والثورة الرقمية خلقتا تحديا كبيرا للأجهزة الأمنية، إلا أنه، وفي الوقت نفسه، قدمتا لها على طبق من ذهب خدمة لم تكن تحلم بها، وبفضل الكمبيوتر والشابكة ومحركات البحث، أضحت أسرار الدول والأفراد، على حدّ سواء، في متناول يد الجميع دون مقابل ودون رقابة.

تغيرت حال الدنيا وأصبح بإمكان الفرد أن يحصل على معلومات أكثر دقة وتفاصيل من أجهزة الاستخبارات إذا ما كرس وقتًا كافيًا ونظرة ثاقبة ومتفحصة. أما الأجهزة الأمنية فأصبح بإمكانها مراقبة البريد الإلكتروني والهواتف الثابتة والنقالة بشكل مباشر بتقنيات متقدمه في إطار قانوني أو غير قانوني، وذلك مرتبط بمبدأ "سلطة القانون" ومدى فاعليته وسريانه على السلطات والأفراد، بمعزل عن الظرف العيني الذي يمر على بلدٍ ما.

لقد شرعنت "كعبتا الديمقراطية" في العصر الحديث، أمريكا وإسرائيل، بحجة "مكافحة الإرهاب" التنصت على بعض ممن تشكان بأنهم من ألدِّ أعدائهما دون اللجوء إلى مرجعية قانونية.

الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة استندت إلى أمر رئاسي يجيز لها عملية التنصت، أما إسرائيل- وإلى حين تشريع قانون "الأخ الأكبر" في مطلع العام الحالي - فحصلت على إذن إداري يجيز لها الحصول على معلومات جمّة حول مستهلكي الشابكة والهواتف الثابتة والنقالة من شركات الاتصال والإنترنت، وتنصتت إلى أضعاف أضعاف من تم التنصت إليهم في أمريكا مع الفارق الهائل بتعداد السكان.

رغم هذا الحيز الواسع المتاح أمام أجهزة الاستخبارات، فإن العامل الإنساني الذي يقوم بدراسة المعلومات وتحليلها واتخاذ التدابير اللازمة في الوقت المناسب يظلّ الأهمّ.
ومع أن أمريكا أقامت قبل أحداث 11 سبتمبر عددا لا بأس به من مؤسسات التجسس لمتابعة المعلومات المتاحة والتنصت السري لاستخلاص أهمها وضبط المتآمرين على أمنها- إذا صدقت الرواية الأمريكية وجراء خلل إنساني في تحليل مكالمات واتصالات منفذي العمليات التي تم رصدها وتسجيلها قبل تنفيذ العمليات- فإنها فشلت فشلاً ذريعًا في منع وقوع أحداث 11 سبتمبر جراء عدم اتخاذ الاحتياطات الأمنية في الوقت المناسب.

معرفة الآخر وحضارته ضرورية لأي جهاز استخباري، فالمفارقات كثيرة وقد توقع الأجهزةَ الأمنيةَ في أخطاء فظيعة وتقودها إلى متاهات وارتباكات. مجمل المعلومات السرية المجموعة تشكل مادة في يد أفراد الأجهزة وهي جاهزة للاستعمال وفقًا للظرف وللغاية المرجوة منها.

إلى حين اكتشاف الحاسوب وانتشار استعماله اعتادت أجهزة الأمن المحلية أن تحضر موادها السرية في صناديق التفاح وتدفع بها إلى طاولة القضاة، أما اليوم فيكتفي أفرادها بإحضار أقراصهم المُدْمَجة المحمولة على الحواسيب النقالة. وطبعا لا يستطيع المتهم أو المشتبه به الاطلاع على مضمونها. ومن ثم تكون الطريق قصيرة لمغالطات وأخطاء وقرارات قضائية مبنيّة على معلومات خاطئة في أحسن الأحوال، ومغالطات في اسوأ الأحوال.

الأجهزة القضائية - كل الأجهزة القضائية- تثق بالأمن وبرجاله، وتعتبرها أجهزة مهنية ليست لها غاية سوى حفظ الأمن والأمان.
تسليط الضوء على أي أمر من شأنه كشف الحقيقة، إلا أنّ تسليط الضوء بغياب جهاز نقدي وفاعل وبغياب الطرف الآخر يبقى منقوصًا وغير مجدٍ، ومن شأنه أن يجر إلى متاهات جراء جهل لحقيقة ما.

أفاد تيسير علوني، مراسل الجزيرة، أنه خضع لتحقيق مضنٍ خلال أيام وليالٍ عن علاقته بالسلاح النووي، وأنكر علوني الشبهة جملةً وتفصيلاً، ليتضح بعد ذلك بأسابيع أن سر الأمر يعود إلى كتاب ضُبِط في مكتبته أثناء التفتيش يحمل اسم "الأربعون النوويّة" وهو كتاب عن أربعين حديثًا نبويّا تشتمل على جميع جوانب الحياة والطاعات، مثل الخلق الحسن، والزهد في الدنيا، وسعة مغفرة الله، وما إلى هذا من الأخلاقيّات.

أما المحققون الإسبان فظنوا أن يدهم وقعت على مفتاح "السلاح النووي" وتاهوا وراء عنوان الكتاب ظانين أن أسماء الأحاديث ربما تكون جزءًا من شِفرة إسلامية لمراحل مختلفة في صناعة المياه الثقيلة وتخصيب اليورانيوم... وتفجير القنبلة النووية.

جهل في الحضارة يفضي إلى جهل في تقييم المعلومات.

التعليقات