12/06/2008 - 08:37

الدولة دائماً حاضنة.. ولكن../ جميل مطر

الدولة دائماً حاضنة.. ولكن../ جميل مطر

أعترف للشبان من أبناء جيل مختلف عن أجيال أخرى من بينها جيلنا، أعترف بأن كثيراً مما يحدث هذه الأيام لا نفهمه، ربما لأننا لم ندرسه ولم نمارسه وربما لأن الدنيا تغيرت فلم نعد نعرفها أو نحن تغيرنا فلم نعد نفهم ما يجري حولنا.

يلقي بعض أبناء جيلي باللوم على العولمة، وأنا نفسي أتسرع أحياناً وبخاصة حين يستعصي على عقلي فهم أمر ما فأقوم باتهام العولمة، هذا الاختراع الذي ابتكره عباقرة في دول الغرب لتبكي على حائطه شعوب العالم الفقير وكثير من الكسالى والمستفيدين من أوضاع استقرت طويلاً حتى صدأت أو تهاوت أركانها، ولينشغل بدراستها وتفنيدها مفكرون استحسنوها موضوعاً يغنيهم عن صدامات مكلفة مع الحكومات أو مع أيديولوجيات مستنفرة.

جاءت هذه المقدمة تقدم لموضوع تعب بعضنا في محاولة فهمه فراح يلقي بتبعته على العولمة. أما الموضوع فخلاصته أن “الدولة” التي يعيش في كنفها المصريون وكذلك الدولة التي يعيش في كنفها الأمريكيون والإيطاليون والبريطانيون وشعوب أخرى كثيرة، لم تعد تشبه إلا في قليل الدولة التي خرجت من رحم الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن الماضي، ولا تشبه إلا في قليل أيضاً الدولة التي أنجبتها وبغزارة الحرب العالمية الثانية وحروب الاستقلال الوطني.

تعلمنا في المدارس والجامعة وفي الحياة أن الدولة تنشأ لأداء وظائف معينة أهمها وظيفة إدارة موارد الأمة وتوزيع طيباتها. فهي تقوم مثلاً بالفصل في النزاعات التي تنشب بين المنتجين والمستهلكين وتنظم سلوك الشركات سواء تلك التابعة والمملوكة لها، أو شركات للقطاع الخاص أجنبية كانت أم وطنية. كذلك تتدخل الدولة فتفعل ما تستطيع لإثارة الرغبة لدى أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في مجالات شتى، فإن استجاب رأس المال عادت تتدخل لحفزه وتشجيعه على المزيد من الاستثمارات بالقوانين والإغراءات. وفي حالات قليلة تبقى الدول متيقظة لأنه إن تجاوزت الاستجابة من جانب المستثمرين حدود الرغبة ثم التوسع إلى حدود الاحتكار والهيمنة وتوجيه دفة السياسة تدخلت الدولة من جديد لتبريد شهوته أو إن دعا الأمر لإطفائها قبل أن تستفحل فتخرب أو تثير القلق والتوتر وربما عدم الاستقرار.

قبل عقود كانت الدولة وبخاصة دول الرفاه الاجتماعي تتدخل لحماية المواطنين الطيبين من شره مواطنين أشرار أو عدوانيتهم، فكانت تفرض احترام القانون وتحتكر حق استخدام القوة وفي الوقت نفسه كانت حريصة على أن تبقى الفجوة بين الأغنياء والفقراء وهي مسألة حتمية في حدود المسموح به أمنياً وسياسياً واقتصادياً. ولم تعدم الدولة في أي مكان الطرق والأدوات لتحقيق هذا الأمر. فاستخدمت الضرائب والرعاية الصحية والاجتماعية والتعليم النظري والحرفي ومحو الأمية والتدريب المستدام والمشاركة في صنع السياسة وأحياناً في صنع القرار. ولم تختلف دولة بنظام رأسمالي عن دولة بنظام اشتراكي في تبني هذه الطرق والأدوات وإن اختلفت في كفاءة إدارة الفجوة وتفضيل أداة على أخرى والانحياز لفريق من المواطنين ضد فريق آخر.

وقد اعتمدت الدولة في عقود خلت على مبدأ كان أساتذة الاقتصاد مولعين بتلقيننا إياه وهو القائل بأن الفرد حين يكون طرفاً في علاقة اقتصادية فهو دائماً فرد عاقل يتخذ قراراته الاقتصادية برشد واتزان. كان مفهوماً أن يتمسك الاقتصاديون بهذا المبدأ في زمن شهد تطورات في السياسة الدولية جرى معظمها في ظل حالة من اليقين حين كان ممكناً في غالب الأحوال استقراء المستقبل بدقة لا بأس بها. وحين تبدل حال العالم وصار في شبه المستحيل التنبؤ بأولويات الدول وأسبقيات اهتماماتها في سباق النفوذ والقوة أو التنبؤ بطموحات الشركات العملاقة التي صار كثير منها أقوى وأوسع نفوذاً وأشد طموحاً من دول تعد الآن بالعشرات، عندئذ تبدلت علاقات الشركات بالدول وعلاقاتها ببعضها بعضاً وعلاقاتها بالأفراد في المجتمعات التي تنشط فيها.

تغيرت جذرياً العلاقات بين الإدارة والعمال. ولم تعد الشركة في أحوال كثيرة تعني الشيء ذاته الذي كانت تعنيه قبل عقدين أو ثلاثة. وتباينت مواصفات العامل والعمالة وبخاصة حين أصبحت إدارة الشركة في مكان وأموالها في مكان آخر أو في حالة عبور دائم للحدود لا وطن لها ولا مستقر وعمالها متناثرون في بقاع الأرض. لم يعد للدولة الكثير لتفعله فالعمال من مواطنيها مشدودون إلى الخارج برباط الرزق وطبيعة الأنشطة المتحركة للشركة، وبعضهم لا يدين للدولة بولاء كبير لأنه لا يذكر أن الدولة قدمت له ما يستحق كمواطن من تعليم جيد ورعاية مناسبة كما أنها، أي الدولة، منشغلة عنه برعاية مصالح الاستثمار الأجنبي أو الاستثمار الوطني المختلط ولو بقليل جداً من استثمار أجنبي. من ناحية أخرى لا يشعر هذا العامل المواطن بولاء خاص لرأس المال الذي يستوظفه بعد أن أدرك بالتجربة أنه في الغالب غير ملتصق بالوطن الذي يعمل فيه ولأنه في غالب الأمر عابر حدود ولا يميل للاستقرار.

لم تعد للعلاقة بين الدولة ورأس المال المواصفات ذاتها التي كانت لها قبل نصف قرن. وهكذا الحال لعلاقة الدولة بالمواطن وعلاقة الشركات بالعامل والمستهلك وكذلك لعلاقة الدولة بالمجتمع. وليس خافياً أن الدولة المعاصرة سواء كانت في روسيا أم في إنجلترا أم في الصين ومصر تحاول بالجهد الممكن وأحياناً بتكلفة عالية تغيير الأسس التقليدية التي قامت عليها علاقتها بالمجتمع وبالمواطن. لم يعد ممكناً في ظل التطورات الرأسمالية الجارية أن تستمر الدولة تلعب دور الحاضنة للمواطن في الوقت الذي يطالبها فيه رأس المال الدولي (أي المؤسسات الاقتصادية الدولية) والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بأن تلعب دور الحاضنة لرأس المال وتتخلى عن حضانتها للمواطن.

نسمع الآن وبكثافة من يتهمون المواطن بأنه من فرط التدليل واعتماده على الدولة وحمايتها له تسبب في سقوط اقتصاد الدولة وبالتالي كان سبباً في إضعافها، ويدعونه إلى الاعتماد على النفس وإخلاء ذمة الدولة. وفي الوقت نفسه نسمع وبكثافة أيضاً من يطالبون الدولة باحتضان المال الخاص والأجنبي خاصة وتقديم ما يستحقانه من حنان وعطف وحمايتهما من المستهلك إذا اشتكى أو قاطع ومن العامل إذا أضرب أو اعتصم. مطلوب من الدولة أيضاً أن تخلي الساحة أولاً بأول من المشتبه في قدرتهم على منافسة المستثمرين المشمولين بحضن الدولة.

ويبدو من تحليلات نشرت مؤخراً أن عدداً كبيراً من الدول المعاصرة فشل في أن يتسع صدره ليحتضن رأس المال والمواطن معاً. روسيا تعاني معاناة شديدة في المحاولة الجارية لاستعادة المجتمع إلى حضن الدولة فالتكلفة باهظة. وفي بريطانيا تقلصات نتجت عن تخلي الدولة منذ عهد مارجريت تاتشر عن تقديم الرعاية التقليدية للمواطن. وقد ضاعف من آلام التقلصات الضعف الذي أصاب الحركة النقابية.. وفي فرنسا جاء ساركوزي إلى الحكم لينتزع الدولة من أحضان المجتمع ويلقي بها في أحضان رأسمالية على النمط الأمريكي.

وعندما وجدت دول أنها عاجزة في أفضل الأحوال عن الجمع بين الوظيفتين أقبل بعضها أو أغلبها على تنظيم حملات توعية تحت عنوان “التسويق الاجتماعي” مستخدمة خبرة التسويق التجاري وأدواته وأساليبه. فالمواطن كالمستهلك في نظر خبراء التسويق ليس أكثر من سلة عادات وتقاليد اجتماعية وعواطف، وقبل كل هذا وذاك، هو شبكة من الرغبات والميول وليس كما يزعم الفكر الاقتصادي التقليدي فاعل رشيد وعاقل عندما يتعلق قراره بحاجاته الاقتصادية.

وبناء على هذا الفكر الجديد اتجه بعض الدول إلى التركيز على تغيير عادات الفرد عن طريق حوافز وروادع مالية كالضرائب والغرامات ووسائل جباية متعددة أو عن طريق تشديد قبضة الأمن في الأسواق لصالح المنتج ونشر الشعور بأن المستهلك مواطن من الدرجة الثانية ولا يحق له تحت أي ظرف أن يحلم بممارسة حقه في التأثير في السوق. الهدف في النهاية تغيير سلوكيات الفرد ونظرته إلى الدولة وتوقعاته منها وكذلك تغيير نظرته إلى رأس المال وطنياً كان أم أجنبياً.

وفي ظني أن الدولة المعاصرة التي تقرر دخول هذا المضمار يجب أن تكون واعية لاحتمالات تعرضها لأخطار كبيرة إذا لم تكن خطواتها حذرة ومتدرجة. فالتسويق الاجتماعي كالهندسة الاجتماعية يتضمنان إجراء عمليات شديدة الخطورة في طرق شديدة الوعورة.
"الخليج"

التعليقات