06/08/2009 - 19:45

غزوة فاشلة لدولة فاشلة../ جميل مطر

غزوة فاشلة لدولة فاشلة../ جميل مطر
بعد أيام تجرى في أفغانستان انتخابات لاختيار رئيس جديد للجمهورية أو التجديد لحامد قرضاي الرئيس الحالي. ويتصادف إجراء هذه الانتخابات مع عدد من التطورات الكاشفة عن أبعاد الجريمة التي ترتكبها دورياً القوى الكبرى ضد الشعب الأفغاني.

أعرف أنه يوجد في مصر، كما في بريطانيا والولايات المتحدة وروسيا، أفراد نهلوا من العلم الشيء الكثير وتحضروا وتنوروا ولكن تطرفوا في فهمهم للتطور والتنوير إلى حد التعالي على أمم لم تساعدها ظروفها الداخلية وبيئتها الخارجية على امتلاك ناصية العلم. هؤلاء ينطلقون في إصدار أحكامهم على أفغانستان والعراق من قبلها من قاعدة أن الشعب في هذين البلدين متخلف، وبالتالي يستحق حربا ضروسا تقتلع التخلف وتحرق الأخضر واليابس، فبالنار يتلاشى الظلام وبالدمار تشرق الأنوار.

ثماني سنوات مرت على دخول القوات الأمريكية والبريطانية أفغانستان في ثالث عملية غزو عظمى لهذا البلد خلال قرن ونصف القرن. لم تختلف كثيراً الأسباب المعلنة في هذه الغزوة عن الأسباب المعلنة في الغزوتين السابقتين عليها إلا في الشكل، وفي واقع الأمر لم تختلف عن الأسباب المعلنة في أي غزوة غربية لأراضي أمة من الأمم السمراء أو الصفراء.

وفي هذه الغزوة تحديداً تبادل البريطانيون والأمريكيون ذريعتين للتدخل: ذريعة كلاسيكية عن رسالة الشعوب البيضاء لتنوير الشعوب المتخلفة وإخراجها من الجهل والتخلف. وبطبيعة الحال كان البريطانيون الأسبق دائماً إلى استخدامها وتفعيلها قبل أن يلحق بهم الأمريكيون. أما الذريعة الثانية فكانت حق الدولتين الغربيتين، وحلف الأطلسي بأسره، في التدخل عسكرياً للقضاء على قواعد الإرهاب في أفغانستان لتعيش شوارع لندن ونيويورك آمنة مطمئنة.

وبعد ثمانية أعوام من حرب كانت بالفعل شرسة يصدر الرأي العام البريطاني حكمه على حكومته بالفشل في تحقيق الهدفين اللذين ادعت أنها غزت أفغانستان لتحقيقهما، بدليل أن المعارك الناشبة حالياً في مقاطعة هلمند حيث تتمركز القوة البريطانية هي الأعلى في الخسائر من كل المعارك الدائرة في أنحاء أخرى من أفغانستان.

ثم انه لا يخفى على الرأي العام أن حكومة كابول، بعد سنوات من التدريب المكثف والمعونات الهائلة، لا تسيطر إلا على ثلث الأراضي الأفغانية، بل إن هذا الثلث نفسه مخترق ويفتقد قرضاي ورفاقه أي درجة من الشعبية والشرعية فيه.

ولا يختلف الحال في بريطانيا بالنسبة لمستقبل الحرب في أفغانستان عن الحال في أمريكا تحت حكم باراك أوباما. ففي بريطانيا كما في أمريكا سئم الشعبان الحرب بخسائرها وتكاليفها الباهظة، وفي البلدين تنشر تقارير عسكرية ودراسات مراكز بحث ويدلي المسؤولون بخطب وتصريحات تدور جميعها حول احتمال عقد مفاوضات بين ممثلي حلف الأطلسي وممثلي طالبان لتقرير مستقبل أفغانستان.

ما تقوله التقارير العسكرية والدراسات السياسية تلخصه كلمات قليلة هي أن قوات الأطلسي الموجودة في أفغانستان من ثماني سنوات لم تنتصر. لا تقول انهزمت، ولن تقولها، تعترف بأنها لم تنتصر وفي لغة التاريخ تعني أن قوات الغزو انهزمت.

ومن بين ما تسرب من مسودة تقرير الجنرال ماك كريستال القائد الأعلى لقوات الأطلسي الذي ستعلن تفاصيله هذه الأيام، أن دول “الناتو” فشلت في تدريب مدنيين في أفغانستان يترجمون “انتصارات الناتو العسكرية” إلى خدمات للمواطنين، وحاول ماك كريستال الإيحاء بأن القوات الأمريكية نجحت في تأمين ثلث أفغانستان ليخضع لحكم قرضاي في كابول، وأنها دربت في هذا الثلث موظفين وإداريين، بينما تقاعست القوات البريطانية في ولاية هلمند في تحقيق ذلك فاستمر القتال هناك، واتسعت قاعدة التأييد الشعبي لطالبان فيها. ويعتقد القائد الأعلى أنه لا يزال ممكناً فرض الهزيمة على المتطرفين في جماعة طالبان لو اهتمت الدول أعضاء “الناتو” بالجانب المدني في الحرب وضاعفت من قواتها المتخصصة للتدريب والخدمات الاجتماعية، مطالباً في الوقت نفسه بتوفير درجة أعلى من التنسيق بين قوات الناتو وزيادة عدد هذه القوات بشكل عام.

يبدو في حكم المؤكد أن القيادات السياسية في بريطانيا والولايات المتحدة قررت السعي لإجراء مفاوضات والوصول مع طالبان، أو ما يسمى من باب الضرورات الإعلامية “العناصر المعتدلة في طالبان”، إلى اتفاق يسمح لطالبان بالمشاركة في الحكم.

قرأنا ما صرح به دافيد ميليباند وزير الخارجية ودوجلاس الكسندر وزير التعاون الدولي في حكومة العمال البريطانية، وكلاهما يشير بوضوح إلى رغبة بريطانية في حث الولايات المتحدة على التخلص من حامد قرضاي الرئيس الأفغاني على أساس أنه العقبة الأساسية على طريق التوصل إلى وئام سياسي في أفغانستان. ولكن قد لا يكون قرضاي العقبة الأساسية. قرضاي عقبة كبيرة ولكن ضمن عقبات كثيرة. لقد تمكن، بفضل دعم أمريكا المتواصل له والجماعة الحاكمة، من إقامة شبكة فساد هائلة تسيطر على مفاتيح الحياة الاقتصادية في كابول والمناطق الخاضعة لها. وبهذه الشبكة توسعت دائرة نفوذه، وبخاصة في الأوساط البيروقراطية وطبقة كبار التجار والممولين، ومع ذلك يبقى أنه من دون الدعم الأمريكي لن يستطيع وحده وقف مساعي التسوية التي يضغط من أجل التوصل إليها البريطانيون والألمان والفرنسيون. هناك إلى جانب قرضاي وبطانته توجد عقبات أخرى لعل أقواها:

أولاً: الزيادة المطردة في قوة طالبان العسكرية التي، إن استمرت بالمعدل الراهن، سوف تدفع مفاوضي طالبان لمواقف أكثر تشدداً.

ثانياً: التحولات المتدرجة في سلوكيات طالبان السياسية، وبخاصة ما يتعلق بمواقفها من الحقوق السياسية والدستورية للمواطنين، وكلها توحي برغبة طالبان في تحسين صورتها لدى الرأي العام الدولي وكسب شعبية أوفر في المناطق التي تخضع لسيطرة كابول. هذه التحولات، وإن كانت شكلية، تمثل إضافة لقوة المفاوض الطالباني في مواجهة ممثلي الحكومة و”الناتو” الذين يفتقرون إلى التأييد الشعبي بسبب الفساد وانعدام الأمن ووحشية العمليات العسكرية التي تشنها قوات الأطلسي.

ثالثاً: مازالت زراعة الأفيون وتجارته منتعشة، ولا يوجد ما يشير إلى أنها ستنحسر. بمعنى آخر يبقى هذا المصدر المتجدد لتمويل حروب طالبان وقدرتهم على مقاومة قوات الناتو الحكومة رصيداً معتبراً.

رابعاً: أسر لي خبير باكستاني أن كل غارة تشنها الطائرات الأمريكية على قرى بشتونية في باكستان أو أفغانستان تثمر متطوعين جدداً يهرعون للانضمام إلى قوات طالبان الزاحفة إلى قلب أفغانستان من قواعدها في باكستان، لم يعد هناك شك لدى خبراء الحرب في باكستان في أن استمرار الحرب التي تشنها القوات الأمريكية والباكستانية في شمال غرب باكستان يضيف إلى قوة طالبان العسكرية وأرصدتهم التفاوضية.

يؤكد هؤلاء الخبراء أن أمريكا التي نجحت في تغيير معادلة الحكم في باكستان بجلب بنازير بوتو وآصف زرداري من الخارج وإسقاط الجنرال برويز مشرف والحصول على موافقة القادة المدنيين على السماح لقوات أجنبية بشن حرب في أراض بشمال شرقي باكستان، فشلت في تحقيق هدفها وربما تسببت في إضافة تعقيدات أكثر.

خامساً: لن تقبل المؤسسة العسكرية الأمريكية أن تدخل الدبلوماسية الأمريكية مفاوضات مع الطالبان في ظروف أو بشكل يوحي إلى العالم بأن أمريكا انهزمت. يعيب جاك مارتن الكاتب البريطاني المعروف على الرئيس باراك أوباما اتخاذه “قراراً خائباً يقضي بتصعيد الحرب في أفغانستان” تحت ضغط المؤسسة العسكرية التي ربما طلبت تعويضاً عن قراره الانسحاب من العراق. لا أحد عاقلاً يتصور أن جيش دولة عظمى يوافق على الانسحاب من حربين في وقت واحد.

لن تجدي مع القادة العسكريين الأمريكيين النصيحة بأن في التاريخ عظات ودروساً لا يجوز الاستكبار عليها بحجة أن الثورة التكنولوجية غيرت مفاهيم الغزو والاحتلال. يقول التاريخ إن امبراطوريتين تكسرت إرادة كل منهما على صخور أفغانستان، واحدة وهي الامبراطورية حين كانت الشمس لا تغيب عنها، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

والثانية وكانت الاتحاد السوفييتي في أواخر القرن العشرين، أما الثالثة، وهي الأمريكية، فما زالت لم تحقق نصراً ملموساً رغم أنها قضت ما يقارب ثماني سنوات تحارب ولا يزال قادتها العسكريون يعتقدون كالقادة السوفييت من قبلهم، أنهم مختلفون عن القادة العسكريين السابقين الذين شنوا حربا ضد الأفغان وانهزموا.

فاز قرضاي بالتجديد أو فشل، خرج الأمريكيون أو تمركزوا في قواعد عسكرية، ستبقى المرارة تحث جيلاً بعد جيل من أبناء الشعب الأفغاني على الانتقام من عالم تواطأ أو تغافل. أجيال نراها ونشهد على ما تفعله انتقاماً من عدوان وإذلال كما في الصومال والعراق وفلسطين والشيشان أو تستعد لفعله في بلاد أخرى مثل مصر ولبنان والأردن وسوريا التي تعرضت لغزوات “إسرائيلية” تواطأت فيها أو تغافلت عنها دول الغرب.
"الخليج"

التعليقات