29/10/2009 - 15:02

تنازلات فلسطينية في الوقت الضائع../ محمد السعيد إدريس

تنازلات فلسطينية في الوقت الضائع../ محمد السعيد إدريس

كشفت مصادر فلسطينية مقربة من الرئيس محمود عباس أنه تعرض لضغوط شديدة من قبل الإدارة الأمريكية ودول عربية، وقيادات في حركة “فتح” دفعته لإعلان موعد إجراء الانتخابات الفلسطينية من دون انتظار نتائج الحوار مع حركة “حماس”، ومن دون تشاور مع الفصائل الفلسطينية الأخرى.

وإذا كان الرئيس الفلسطيني قد أصدر مرسوماً رئاسياً يوم الجمعة الماضي حدد فيه يوم 24 يناير/ كانون الثاني المقبل موعداً لإجراء هذه الانتخابات فإن هذه الخطوة بما تكشفه من استجابة لهذه الضغوط تفرض السؤال والبحث عن الوعود التي حصل عليها الرئيس الفلسطيني مقابل هذه الاستجابة.

الأمر الغريب أن الاستجابة تزامنت مع تطورين شديدي الخطورة بالنسبة لما يسمى بـ“مسار عملية التسوية” أولهما يتعلق بتراجع الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن مشروعه الخاص بعملية التسوية لأسباب كثيرة أولها ما تعرض له من ضغوط “إسرائيلية” مباشرة وضغوط من أنصار “إسرائيل” في الولايات المتحدة (المنظمات اليهودية والصهيونية، وأنصار “إسرائيل” في الكونجرس والإدارة والإعلام الأمريكي) للتراجع عن ممارسة أي ضغوط على “إسرائيل” كي تقدم تنازلات لا تقبل بها.

وثانيها ذلك التقرير الذي تلقاه أوباما من وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون الذي تحدث، وبوضوح، عن رفض الحكومة “الإسرائيلية” المضي قدماً بعملية السلام، ورفضها التراجع عن بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس المحتلة.

هذا التقرير الذي تضمن الملاحظات التي تقدم بها المبعوث الأمريكي جورج ميتشل وآخرون تضمن ما سماه بـ“حيل إسرائيلية” للتهرب من استحقاقات عملية السلام وأهمها استغلال الانقسام الفلسطيني، وضعف موقف السلطة الفلسطينية، ونظرية اللاشريك التي يتمسك بها رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو.

كما تضمن التقرير ما يوضح تراجع الرئيس الأمريكي عن المضي قدماً في مشروعه الذي سبق أن أعلنه بعد أن رفض الرئيس الفلسطيني العرض الذي تقدم به نتنياهو بإقامة دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة، وأن ما تقدمه إدارة أوباما للفلسطينيين الآن هو وعود فقط، وأنها تتهرب من الإجابة عن أسئلة فلسطينية حول الوعود التي طرحها أوباما، ووعد بها العالم الإسلامي من القاهرة.

أما التطور الثاني الذي سيكون له مردود سلبي على مسار عملية التسوية فيتعلق بالدور الذي تقوم به الإدارة الأمريكية الآن في أروقة الأمم المتحدة لإحباط المساعي الراهنة لقيام مجلس الأمن الدولي لمناقشة تقرير القاضي جولدستون الخاص بالجرائم “الإسرائيلية” التي ارتكبت ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

هذا الدور يأتي استجابة للتحذيرات “الإسرائيلية” من عرض هذا التقرير على مجلس الأمن، حيث أجرت السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة سوزان رايس محادثات مع مسؤولين “إسرائيليين” على رأسهم ايهود باراك، ووزير الخارجية أفيجدور ليبرمان، في وقت أعلن فيه مكتب الرئيس “الإسرائيلي” شمعون بيريز أن رايس التقت بيريز وتعهدت أن تواصل الولايات المتحدة “الوقوف إلى جانب “إسرائيل”” كصديقة وفية ضد تقرير جولدستون، الذي هاجمه بيريز بعنف في لقاء مع شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية، وأكدت أن لدى “إسرائيل” كل الحق في الدفاع عن نفسها، وأن الأمم المتحدة تعرض نفسها للخطر عندما تدعم “الإرهابيين”.

تراجع أمريكي عن وعود الرئيس أوباما الخاصة بعملية السلام، وتعهد أمريكي بحماية “إسرائيل” من المساءلة الدولية، ويأتي رد الفعل الفلسطيني على هذا كله في شكل استجابة لضغوط أمريكية بتحديد موعد لإجراء الانتخابات الفلسطينية من دون اعتبار لما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من إفشال للمصالحة الوطنية وتأزيم الموقف الفلسطيني الداخلي، لكن الأخطر من هذا كله أن سياسة الاستجابة والليونة الفلسطينية مع المطالب والضغوط الأمريكية تأتي في وقت قامت فيه الإدارة الأمريكية باستبدال الملفات. فبدلاً من الموقف الأمريكي السابق الذي كان قد أعلنه الرئيس الأمريكي باراك أوباما الخاص بالربط بين الملفين الفلسطيني والإيراني، وطالب بسببه “إسرائيل” بتقديم تنازلات في الملف الفلسطيني كي يحصل على الدعم العربي للسياسة الأمريكية الخاصة بإيران، نجده لم يستجب فقط لمطلب رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو بتفكيك الربط بين هذين الملفين، بل إنه تجاوز هذا المطلب واتجه إلى اعطاء الأولوية للملف الإيراني والتوثيق عن التعاطي مع الملف الفلسطيني لحين حسم الملف الإيراني.

ففي الوقت الذي تعطي فيه الولايات المتحدة أهمية كبيرة للتفاوض مع إيران واحتواء أزمة برنامجها النووي، نجد الإدارة تتجه أيضاً إلى تأمين “إسرائيل” من الخطر المحتمل للبرنامج النووي الإيراني عبر إقامة مظلة صاروخية أمريكية قادرة على حمايتها من هذا الخطر. فالولايات المتحدة تتجه الآن إلى نقل مشروع “الدرع الصاروخية” الذي كانت تتجه إلى إقامتها في كل من تشيكيا وبولندا إلى البحر المتوسط و”إسرائيل” وربما تركيا، الأمر الذي سيوفر الحماية الكاملة ل “إسرائيل” من خطر أي هجوم صاروخي إيراني، ويعطل فرصة شن هجوم تدميري للمنشآت النووية الإيرانية دون خوف من أي رد فعل صاروخي إيراني مع وجود هذه الدرع الصاروخية الأمريكية، لذلك جاءت إشادة وزير الدفاع “الإسرائيلي” ايهود باراك بهذا التوجه الأمريكي، وقال “إن هذا النهج الجديد يوفر فعلاً مرونة أكبر من أي وقت أقصر نسبياً، وبشكل أكثر فعالية واقتصادية للتعامل بشكل فعال مع تحدي الصواريخ الإيرانية”.

الخطوة الأولى والفعلية لبدء هذا المشروع تجرى هذه الأيام وبالتحديد منذ يوم الأربعاء (21/10/2009) عبر المناورة الأمريكية “الإسرائيلية” المشتركة التي تحمل اسم “جونيبر كوبرا” والتي ستستمر لمدة أسبوعين بهدف اختبار قدرة “إسرائيل” على مواجهة هجوم صاروخي إيراني أو غير إيراني.

هذه المناورة يرى “الإسرائيليون” أنها تشكل رسالة مزدوجة: حماية “إسرائيل”، وتهديد إيران. الرسالة الخاصة بـ“إسرائيل” تهدف إلى إشعارها بقوة المظلة الدفاعية الجوية الأمريكية، أما الرسالة الخاصة بإيران فتهدف إلى إشعارها بفداحة ما سيصيبها إذا تدهور الوضع. كما يرى “الإسرائيليون” أن نجاح هذه المناورة مهم جداً ليس فقط في مواجهة الصواريخ الإيرانية وإنما أيضاً في مواجهة الصواريخ المحتملة من سوريا ولبنان وغزة، حيث تهدف المناورة إلى “بناء هيكل مع الأمريكيين ولغة مشتركة” خصوصاً وأن الجيش الأمريكي سيفحص إمكان نشر منظومات متقدمة من الصواريخ طراز “ايجيس” و”ثاند” و”باتريوت باك 3” في “إسرائيل”، وسيفحص الروابط بين منظومات الدفاع الجوي “الإسرائيلية” من بطاريات “حيتس 2” المتطورة و”باتريوت” مع البطاريات الأمريكية، ولا يقل أهمية عن ذلك أنه سيتم التأكد من انخراط رادار أشعة اكس الأمريكي الذي نصب في صحراء النقب منذ أشهر في النظام الدفاعي “الإسرائيلي”.

وضع “إسرائيل” تحت مظلة الدرع الصاروخية الأمريكية لن يوفر لها الحماية والطمأنينة الأمنية فقط بل سيكسبها قدرات هجومية أعلى والتوسع في ممارسة التهديد وفرض السلام الذي تريد، ما يعني أن كل تنازلات واستجابة الرئيس الفلسطيني لن تكون مجدية لأنها تنازلات تأتي في الوقت الضائع.
"الخليج"

التعليقات